إن معرفة هويّتها الحقيقية لا يعني أن جميع أسئلتها قد تمَّ الإجابة عليها. تمتمت آرييل في نفسها: “تذكُّري لإسمي الحقيقي كان مُجرّد البداية. لم أتمكن بعد من استعادة جميع ذكرياتي، ولم أفهم أيضًا سبب عيشي کلارييت في برج السحر. من المؤكد أن سيدي رئيس برج السحر لديه تلك الإجابات.”
واصلت آرييل التحدث إلى آستر، الذي كان يجلس أمامها، ورأسه منحني كما لو كان مُثقلًا بالذنب.
“لم تعد لي ذكرياتي كلها، عادت لي شظايا متناثرة… مُعظمها من طفولتي.”
رفع آستر عينيه ببطء، وملامحه مليئة بالتوتر. تردَّد، وكان صوته بطيئًا وغير مُتأكد.
“ثم… ذكرى الجرف… ذلك اليوم…..”
هزّت آرييل رأسها.
“لا أتذكر. لكنني سمعتُ عن ذلك. أنني قفزتُ من الجرف بنفسي… هل هذا صحيح؟”
“نعم.”
خفضت آرييل عينيها، وتوجّهت أفكارها نحو رجل.
“إذًا هل كان سبب محاولتي إنهاء حياتي… بسبب الأرشيدوق سايارد؟ ذلك الرجل؟”
ثم تمتمت آرييل في نفسها: “الرجل الذي حلمتُ به الذي كان يُدعى خطيبي السابق. لم أستطع أن أتذكر ما حدث بيننا، لكنني سمعتُ قصصًا لا حصر لها.”
[هل تعلمون كيف فسخ الأرشيدوق الأكبر سايارد خطوبتهما من طرف واحد؟ وكيف بعد انهيار عائلة ماركيز بلانتيه يئست الشابة وانتحرت؟]
تمتمت آرييل في نفسها: “تلك الشابة… كانت أنا. ولهذا السبب كان كل ذكر له يجعل قلبي ينخفض.”
الآن أدركت لارييت، لا، آرييل أخيرًا ردود الفعل الغريبة التي كانت تشعر بها طوال الوقت.
أومأ آستر برأسه ببطء، وكان تعبيره مريرًا.
تنهدت آرييل بهدوء. لم يكن الأمر مُفاجئًا، بل كانت تعلم ذلك مُسبقًا.
وبينما كان آستر يُراقبها، شعر بالتنافر. فكر: “لقد عادت ذكرياتها جزئيًا، وفي حين أنه من المنطقي أن صدمة حادثة الجرف قد تؤخر تذكّرها، فمن المؤكد أن بعض أجزاء ماضيها مع الأرشيدوق الأكبر يجب أن تظهر على السطح مرة أخرى. لكن الآنسة آرييل بدت غير مبالية تمامًا، وكأن الأرشيدوق الأكبر سايارد كان غريبًا عنها.”
تردّد آستر قبل أن يسأل بحذر.
“هل… تتذكرين أي شيء عن الأرشيدوق سايارد؟”
هزّت آرييل رأسها دون تردّد، وكان صوتها هادئًا.
“لا. سمعتُ عنه كثيرًا هنا، لذا أعرف أي نوع من الناس هو. أما ذكرياتي عنه… فلا شيء منها يتبادر إلى ذهني. وعندما أُحاول التفكير فيه… يبدأ رأسي بالألم. ربما لأنني لا أريد أُن أتذكر بعد.”
أسندت آرييل رأسها إلى الخلف على لوح رأس السرير وأطلقت تنهيدة ثقيلة. تمتمت في نفسها: “لم أرِد أن أتذكر، لكن… أردتُ أن أعرف كان عليّ أن أكتشف ما حدث بيني وبينه. حينها فقط يُمكنني أن أُقرّر ما يجب أن أفعله بعد ذلك.”
أخيرًا، جلست آرييل، ولم تعد تتكئ على لوح رأس السرير. وجّهت انتباهها بالكامل إلى آستر، وتحدّثت بعزمٍ قوي.
“أخبرني بكل شيء. ماذا حدث بالضبط بيني وبين الأرشيدوق الأكبر سايارد؟ لماذا اخترتُ الموت؟ وكيف أصبحتُ لارييت؟ أريد أن أعرف كل شيء.”
ومضت عيون آستر الزرقاء.
لقد كانت هذه هي اللحظة التي كان آستر يخشاها أكثر من أي وقت مضى منذ أن قَبلها كأخته.
لقد حان الوقت لقولِ الحقيقة…
نظر آستر إلى آرييل مرّة أخرى، وتأملها بعنايةٍ.
لقد كان آستر قلقًا، غير متأكد من قدرة آرييل على تحمّل ثقل الحقيقة، العداوة المتشابكة بين الأرشيدوق الأكبر سايارد وماضيها. كان آستر يخشى أن معرفة الحقيقة قد تجبرها على اتخاذ خيار يائس آخر.
لكن عيون آرييل أشرقت بتصميمٍ لا يتزعزع. بدت نظراتها وكأنها تقول إنها قادرة على مواجهة أي حقيقة تقع أمامها. ثم كان على آستر أن يُخبرها.
عزّز آستر عزيمته المرتعشة وبدأ في الكلام.
“الأرشيدوق الأكبر سايارد… اتّهم والدكِ ماركيز بلانتيه زوراً بالخيانة.”
وبذلك، بدأ آستر في كشف كل ما يعرفه عن الأحداث التي وقعت…
أخبر آستر كل شيء فعله الأرشيدوق الأكبر سايارد لآرييل، ولماذا لجأ إلى مثل هذه الإجراءات. وبحلول الوقت الذي انتهى فيه آستر من الحديث، كانت الليلة قد غرقت في هدوء الفجر المبكر.
خفضت آرييل عينيها في صمتٍ، وبدأ آستر يشعر بالقلق، مُتسائلاً عما إذا كانت قد غمرتها الصدمة.
ولحسن الحظ أن صمت آرييل لم يدوم طويلاً.
“لذا فإن الخلاف السيء بشأن والدي الأرشيدوق قد انتقل إلينا أخيرًا.”
تردَّد آستر، محتارًا كيف يُجيب، وفتح شفتاه قليلًا. لكن قبل أن ينطق رفعت آرييل نظرها، كانت عيناها تحترقان بغضبٍ شديد.
“هذه المأساة لا يُصدّقها إلّا مَن لم يعرف والدي حق المعرفة. لم يكن والدي ليُقدم على قتل إنسان حتى في لحظاته الأخيرة، أنا متأكدة أنه لم يعترف بتلك الأكاذيب. وأعلم أنني آمنتُ بأبي من كل قلبي حتى لحظة سقوطي من على الجرف. أعلم. أعلم أن والدي لم يكن ليرتكب جريمة فظيعة كهذه.”
عادت ذكريات آرييل متناثرةً كقطع أحجية. لكن حتى في هذه الذكريات غير المكتملة، ظل والدها ثابتًا.
“لقد كان دائمًا حكيمًا وصادقًا، ولطيفًا دائمًا. حتى أولئك الذين كانوا أقل مكانة لم ينظر إليهم بازدراء أبدًا، ولم تنخفض قيمة حياتهم أبدًا في عينيه. هل يستطيع رجل مثله أن يقتل الأرشيدوق والأرشيدوقة السابقين؟ مستحيل. ومع ذلك… كان الأرشيدوق الأكبر سايارد يعتقد ذلك. لقد آمن بذلك بما يكفي ليصف والدي بالخائن.”
ضغطت آرييل على البطانية بإحكام بين قبضتيها، وتحوّلت مفاصلها إلى اللون الأبيض.
“قالوا إنه حُب مُقدَّر، حُب مصيري لدرجة أن الكثيرين تهامسوا بشأنه. لكن إذا كان يُحبّني إلى هذا الحد، فكيف يتهم والد المرأة التي أحبَّها بالخيانة دون تحقیق جاد؟”
ثم فكرت آرييل: “ربما كان السبب هو عدم وجود أي ذكريات أو مشاعر باقية لدي تجاهه الأمر الذي جعلني أجد صعوبة في فهمه. لا، لم أرغب في الفهم. مهما كانت الأدلة الكاذبة التي رآها أريد أن أكشف كل واحدة منها وأدفع الحقيقة في وجهه الفخور. بينما أُخبره أن يتعفّن في الجحيم. ومع ذلك… ظهر ذلك الرجل البائس في أحلامي. والأسوأ من ذلك، أنني شعرتُ بألم في قلبي وأنا أراه يبكي. لا يُصدَّق.”
لقد تغلّبت آرييل على الندم. تمتمت في نفسها: “الندم على مثل هذا الحلم، والندم على الشعور بالألم عند رؤيته مُحطّماً هكذا. ربما كان انتحاري نابعًا من الندم الشديد على أنني أحببتُه من الأساس.”
مثل هذه الأفكار ملأت ذهن آرييل. تمتمت في نفسها: “وربما كان هذا هو السبب في أن ذكرياتي عنه لم تعد بعد. لو استطعتُ لعدتُ إلى ذلك الحلم الأول ودفعتُه أعمق في الظلام. وتركتُه حبيسًا هناك للأبد.”
تشبّثت آرييل بالبطانية بقوة أكبر بينما ارتفع غضبها، ولكن بعد ذلك زفرت بعمق. تمتمت في نفسها: “لقد كان عليّ أن أستعيد رباطة جأشي. لم يكن هناك شيء يمكنني فعله الآن. لقد تمَّ محو وجودي في العالم. لكي أتمكن من الانتقام منه، كان عليّ أولاً استعادة هويتي الحقيقية. وإعادة بناء أسرتي…”
وبينما واصلت آرييل أفكارها، توقفت فجأة. تمتمت في نفسها: “لقد سمعتُ الكثير عن المأساة بيني وبين الأرشيدوق، لكنني أدركتُ أنني لم أسمع شيئًا عن ما حدث لعائلة بلانتيه بعد ذلك. حتى تقرير اللورد آستر لم يذكر عائلة بلانتيه. لقد شرح فقط ما حدث لي بعد محاولتي الانتحار وكيف أصبحتُ لارييت، وسحر التلاعب بالذاكرة. في البداية، تمكنتُ من فهم منطقه، أنه كان الخيار الأفضل لشخص فقد كل ذكرياته. لكن المرة الثانية… كان ذلك لأنه لم يرغب في خسارتي كلارييت. لا ينبغي للّورد آستر أن يفعل ذلك أبدًا. وخاصةً ليس مرتين، التلاعب بذكرياتي مرتين كان شيئًا ما كان ينبغي له أن يسمح لنفسه بفعله أبدًا. لذا كان ينبغي أن أغضب.”
وقد شعرت آرييل، ولو لفترةٍ وجيزة. لفترةٍ وجيزة، اشتعل الغضب عند التفكير في تدخّل آستر بحرية في حياتها. لكن هذا الغضب سرعان ما هدأ عندما تذكرت آرييل امرأة مرتبطةً بكليهما.
تمتمت آرييل في نفسها: “الأميرة فايلين. لقد كان لطيفًا معي بشكلٍ لا يوصف. كأخ حقيقي.”
“لارييت… هذا الاسم لم يتم اختياره عشوائيًا، أليس كذلك؟”
لقد سألته آرييل، وآستر اعترف بذلك دون تردّد.
“لا، كان اسم فايلين منذ الطفولة.”
وبعد سماع ذلك، وجدت آرييل نفسها غير قادرة على البقاء غاضبة. لقد رأت آرييل الأميرة فايلين بأم عينيها.
الأميرة فايلين على قيد الحياة في الجسد، ولكن في نوم عميق لا نهاية له. لذلك رأى آستر أن آرييل بديلة لفايلين. بالطبع، لا ينبغي له أن يفعل ذلك. ولكن إذا كان شخص ما قد أُجبرَ على مشاهدة أحد أحبائه مستلقيًا بلا حراك لفترة طويلة، فمن المستحيل أن يتحمّل ذلك بعقلٍ سليم. وأن يجد امرأة تموت لسبب مماثل لسبب أخته من شأنه أن يُمزّق عواطفه أكثر.
ولهذا السبب لم تغضب آرييل من آستر. ولكن هذا لا يعني أنها سامحته بشكلٍ كامل.
بعد ترتيب الفوضى في عقلها، نظرت آرييل إلى آستر. حتى خلال الصمت الطويل كان آستر ينتظرها بصبر.
تحدثت آرييل بصوتٍ منخفض.
“قلتَ أنكَ آسف.”
“نعم. أعتذر بشدة. حاولتُ محو حياتكِ كما يحلو لي. كنتُ أعلم أنه أمر لا ينبغي لي فعله… لكنني فعلته على أي حال.”
“لكنكَ توقفتَ في النهاية. كان بإمكانكَ فعل المزيد كما يحلو لكَ، لكنكَ لم تفعل.”
ارتجفت عينا آستر قليلاً. تابعت آرييل حديثها بهدوء وهي تُراقبه.
“هذا لا يعني أنني سامحتكَ.”
“أفهم أن هذا ليس أمرًا يُغفر بسهولة. إلى أن يلين قلبكِ، سأظلُّ أطلب مسامحتكِ.”
أحنى أستر رأسه.
بالنسبة لأي ساحر آخر، فإن هذا المنظر سيكون صادمًا. الساحر الأقوى في القارة، والذي يرأس جميع السحرة، ينحني أمام امرأة نبيلة. كان آستر يُضاهي الإمبراطور. كانت آرييل تدرك ذلك جيدًا.
فزعت آرييل للحظة من لفتتهِ لكنها قرّرت استغلال الموقف. في الوقت الحالي كانت آرييل بحاجة إلى قوة آستر.
“ارفع رأسكَ. هذا ليس نوع الاعتذار الذي أُريده.”
رفع آستر رأسه ببطء، على الرغم من أن نظراته ظلت منخفضة، كما لو أنه لا يستطيع أن يتحمّل مقابلة عينيها.
حدّقت فيه آرييل باهتمامٍ شدید دون تردّد.
“سأقبل اعتذاركَ بالفعل وليس بالكلام.”
“الاعتذار بالفعل؟”
رفع آستر عينيه، ولم يفهم كلماتها تمامًا.
في تلك اللحظة، فتحت آرييل شفتيها لتتحدث، وكانت عيناها مليئة بالإصرار.
“ساعدني على العودة إلى مكاني الشرعي باعتباري الوريثة لماركيز بلانتيه.”
كان صوت آرييل هادئًا، وعزيمتها لا تتزعزع.
كانت آرييل تنوي أن تأخذ أي شيء يمكن أن يُقدّمه لها آستر، طالما أنه لا ينتهك قوانين القارة. وكان على آرييل أن تستعيد مكانتها كماركيزة بلانتيه، لسببٍ واحد، للانتقام من الأرشيدوق الأكبر سايارد…
التعليقات لهذا الفصل " 95"