لقد تمَّ كسر تعويذة التنويم المغناطيسي للارييت. بينما كان رئيس برج السحر، آستر، منهمكًا في اختيار السحرة الذين سيرسلهم إلى الغابة الغربية، تيبّس وجهه فجأة. هذا التغيير المفاجئ في سلوكه جعل كبار السحرة الجالسين حول الطاولة المستديرة يتبادلون نظرات غير مريحة.
وكان ثيودن الساحر الأقرب إلى آستر، هو من كسر الصمت أخيرًا.
“ولكن…. لقد مرّت خمس دقائق فقط منذ بدء الاجتماع…..”
لقد أُذهل السحرة من الاجتماع الذي انتهى دون اتخاذ قرار واحد، فتبادلوا نظرات مرتبكة.
“أنتَ تعرف كيف يكون سيدي رئيس برج السحر. تصرّفاته غير متوقعة كالعادة.”
قال أحدهم أخيراً وهو يهز رأسه بتنهيدة.
“لنؤجّل الموعد إلى الغد.”
سيطر ثيودن بسرعة على الوضع وتبع آستر.
لم تكن هناك حاجة لاستخدام تعويذة التتبع، فقد كان بإمكان ثيودن بالفعل تخمين المكان الذي كان آستر ذاهبًا إليه.
بدون تردّد انتقل ثيودن مباشرة إلى غرفة لارييت. كان توقعه صحيحًا عند وصوله، وجد ثيودن آستر واقفا بجانب سرير لارييت.
“سیدي، ماذا يحدث؟ آنسة لارييت؟”
توقف ثيودن في منتصف الجملة عندما سقطت عيناه على لارييت وهي مُستلقية على السرير.
كانت حالتها غير طبيعية بشكل واضح. كانت فاقدة للوعي، غارقة في العرق البارد وجهها عابس من الألم وهي تُطلق أنينًا خافتًا. ما أثار دهشة ثيودن أكثر هو السحر القوي الذي يدور حولها. لقد كان سحر آستر. لكن جسدها رفضه، وطرد الطاقة قسرًا. تألّق الهواء المحيط بها بمقاومة بينما قاوم جسدها هذا التسلّل.
لم يستطع ثيودن أن يُصدّق ما رآه، كان شيئًا كان من المستحيل حدوثه.
“فرد بلا سحر، مثل لارييت ترفض القوة الساحقة لسحر المتسامي؟ كيف… كيف يكون ذلك مُمكنًا…؟”
همس ثيودن بصوتٍ مُثقل بعدم التصديق.
أجابه آستر، الذي كان يُراقب لارييت بصمتٍ ووجهه مضطرب بصوتٍ خافت.
“إنه السحر القديم. السحر القديم بداخلها يعمل من تلقاء نفسه، ويكسر تعويذتي للتنويم المغناطيسي.”
“انكسر التنويم المغناطيسي….. وهذا يعني…..”
“هذا يعني أن الختم الموجود على ذكرياتها… قد انكسر. لقد عزّزتُ ختم ذكرياتها، جاعلاً إياه شبه منيع. هذا لا يعني إلّا شيئًا واحدًا، السيدة بلانتيه تُحاول استعادة ذكرياتها بقوة إرادتها. وكانت العملية مُرهقة. ومع تفكك الذكريات المُتلاعَب بها، سبّبت لها الفوضى الناتجة ألمًا شديدًا.”
ومضت عينا آستر وهو يُشاهد السحر يتقلب حولها.
“لم تتحطّم بشكل كامل بعد… لو تدخّلتُ الآن، لكان بإمكاني استخدام سحري لإيقاف انهيار ذكرياتها. لكن… هل ينبغي عليّ ذلك؟”
أدرك آستر أنه يجب عليه التصرّف بسرعة قبل فوات الأوان، لكنه شعر بقدميه وكأنها متجذّرة في الأرض، وكأنه مُثقل بقوةٍ غير مرئية.
فكر آستر: “لم يعد بإمكاني إنكار الحقيقة لفترة أطول، لم يكن صحيحًا. لقد قمتُ بالفعل بالتلاعب بذكريات السيدة بلانتيه مرتين. هل يمكنني حقًا تبرير القيام بذلك مرة أخرى؟ وخاصة عندما رفضني السحر القديم بعنف؟”
وفي تلك اللحظة، خرج صوت حازم من ثيودن أثناء تردّد آستر.
“یا سیدي، توقّف عن هذا. أخبرتكَ سابقًا، المرة الأخيرة كانت النهاية. لن أقف مكتوف الأيدي وأشاهدكَ تتدخّل في حياة السيدة بلانتيه بعد الآن.”
نظر ثيودن بضيق إلى آستر، الذي لم يستطع إخفاء الاضطراب في وجهه. وتابع ثیودن.
“قبل الاجتماع، التقيتُ بأوفيليا. ذكرت لي أن الآنسة لارييت غادرت حديقة الأعشاب باكرًا هذا الصباح.”
“ماذا؟”
“عادت إلى برج السحر بحجة مساعدة أوفيليا في عملها. لكن وجهتها الحقيقية كانت الشرفة المُطلّة على الطريق الذي انطلق منه الأرشيدوق الأكبر. لا شك أن الآنسة لارييت رأته.”
أصبح تعبير آستر أكثر قتامة، وكان وزن كلمات ثيودن يثقل كاهله.
“لابد أنها عادت إلى برج السحر مبكرًا فقط لرؤيته. هل ما زلتَ تعاني من هذا؟ دعني أُذكّركَ مرةً أخيرة، هي ليست كما تظنّها.”
وجّه ثيودن الضربة النهائية إلى آستر، الذي كان من الواضح أن عزيمته قد تراجعت.
أخذ آستر نفسًا عميقًا، وكأنه يُحاول ترتيب فوضى المشاعر بداخله.
يُقال أن اللقاءات المصيرية سوف تحدث دائمًا، بغضّ النظر عن مدى مُحاولة الشخص تجنّبها. يبدو أن الرابطة بين الاثنين لم تنقطع بعد…
مهما كانت النتيجة، فقد أصبح الأمر واضحًا بالنسبة لآستر الآن، لم يعد بإمكانه التدخّل.
وضع آستر جانباً ندمه المتبقي، وتراجع إلى الخلف بعيدًا عن السرير.
“ثيودن.”
“نعم.”
كان صوت ثيودن هادئًا، في انتظار قرار آستر.
“استخدم سحر الشفاء لتخفيف آلامها حتى تستيقظ.”
“لن تُساعد في كسر الختم بشكل أسرع؟”
“لقد بدأ ينهار بالفعل. إضافة إلى ذلك، هذه ذكريات مختومة بسحرٍ قديم. إذا عبثنا بها بلا مُبالاة، فقد يُغرق كل شيء في فوضى. أسرع طريقة لاستعادة ذكرياتها هي ترك الأمر يحدث بشكل طبيعي. دون فعل أي شيء.”
“أفهم. سأُراقب الآنسة لارييت.”
جاء رد آستر ببطء بينما تحوّل نظره مرة أخرى إلى لارييت.
أطلق ثيودن تعويذة شفاء سريعة، فخفّ التوتر عن وجهها بشكل واضح. ارتخت ملامحها، وبدت أكثر هدوءً من ذي قبل.
عندما رآها على هذا النحو، اهتزَّ قلب آستر مرة أخرى، لكنه تماسك، وهمس بهدوء كما لو كان يُطمئن نفسه.
“إنها ليست حقيقية.”
في محاولةٍ أخيرة للتخلص من ندمه المُتبقي، أغمض آستر عينيه لفترة وجيزة قبل التحدث إلى ثيودن.
“اعتنِ بها. وعندما تستيقظ لارييت… سأذهب إلى فندق إمبراطورية بنتيوم. أرسل رسالة إلى الإمبراطور لتُبلغهُ بزيارتي. أوضح له أن هذا أمر شخصي وغير رسمي، وأنني لا أرغب في أي حفل ترحيب أو استقبال رسمي.”
“مفهوم.”
عندما انتهى آستر من حديثه واستدار ليُغادر ناداهُ ثیودن
“أنا آسف لأنني لم أتّبع أوامركَ يا سيدي.”
“لقد فعلتَ ذلك من أجلي. ومن الصواب عصيان الأوامر الجائرة.”
انحنت شفتا آستر في ابتسامة خفيفة ومرّة أضاف.
“أخبرني في اللحظة التي تستيقظ فيها لارييت.”
“نعم سيدي.”
مع ذلك غادر آستر الغرفة. ليس إلى جانب الأخت المُزيّفة، بل إلى حيث كان تنتظره أخته الحقيقية…
بعد منتصف الليل مباشرة…
فتحت لارييت جفونها الثقيلة ببطء. شعرت برطوبة وسادتها غارقةً في العرق البارد. شعرت بثقل في جسدها، كما لو أن حديدًا قد التصق بأطرافها، وعقلها مُشوّش کضباب مُغطّى بنافذة.
وبينما كانت تتحرّك، محاولةً تحريك أصابعها لاستعادة وعيها الكامل، كسر صوت منخفض الصمت.
“هل تشعرين بتحسّن؟”
حينها فقط أدركت لارييت أنها لم تكن وحدها في الغرفة. عندما التفتَت نحو الصوت، رأت ثيودن جالسًا على كرسي بجانب سريرها.
حدّقت لارييت فيه بصمت دون أن تقول كلمة واحدة. تمتمت في نفسها: “لقد كنتُ فضولية. هل كان يعلم؟ هل كان يعلم أنني لم أكن لارييت حقًا؟”
بينما كانت فاقدةً للوعي، حلمت لارييت بعددٍ لا يُحصى من ذكريات آرييل بلانتيه. كانت كل الذكريات سعيدة، لم تكن هناك لحظة حزينة واحدة.
وبينما استمرّت الأحلام، بدأت لارييت تُدرك شيئًا ما. تمتمت في نفسها: “هذه لم تكن ذكريات امرأة أخرى. ربما تكون لي أيضًا. لا، لقد كانت بالتأكيد لي. كيف يمكنني أن أرى حياة السيدة آرييل بلانتيه بوضوح شديد؟ بالطبع، لم أكن قد كشفتُ كل ذكريات حياة آرييل بلانتيه، لم أكن متأكدة تمامًا من أنني آرييل بلانتيه حقًا. بعد كل شيء، حياتي باعتباري لارييت لا تزال تبدو واضحة وحقيقية في ذهني. لكن كان هناك رفض عميق وغريزي ينمو بداخلي، مقاومةً للذكريات، كما لو أن شخصًا ما قام ببنائها بشكلٍ مثالي عن لارييت المصنوعة بقصدٍ مُتعمّد بعناية. لقد شعرتُ أن الذكريات المتناثرة لآرييل بلانتيه أصبحت مألوفة أكثر. إذا كانت غرائزي صحيحة، إذا كنتُ في الحقيقة لستُ لارييت ولكن آرييل بلانتيه… لماذا أصبحتُ امرأة مختلفة تمامًا؟ ومَن يفعل مثل هذا الشيء؟ سيدي رئيس برج السحر. بالطبع كان لابد أن يكون هو. الذي غيَّر ذكرياتي وهويتي. كان هذا النوع من السحر المُعقٌد مستحيلاً على أي شخص أقل من مستوى ساحر الدائرة العليا. وبالطبع… يجب أن تكون مشاركًا في هذا، ثيودن. لا توجد طريقة تجعلكَ لا تعرف.”
استمرَّ الصمت الثقيل بينهما لحظة واحدة فقط قبل أن يتحدّث ثيودن أولاً.
“هل ليس لديكِ ما تقوليه لي؟”
“لدي الكثير لأقوله. لكن لا أظن أنني يجب أن أسألكَ. ففي النهاية، كنتَ تُنفّذ الأوامر فحسب.”
أجابت لارييت ببرود.
ارتعشت عينا ثيودن ليس بسبب نبرتها الباردة، ولكن لأن طريقة حديثها تغيّرت تمامًا. على الرغم من أنها لم تبدو مدركةً لذلك بعد، إلّا أن الطريقة البريئة والساذجة التي تتحدّث بها كشابة ريفية قد اختفت. وفي مكانها الآن أصبحَت تتمتع بالجاذبية والأناقة الطبيعية، وكأنها ولدت بها.
فكر ثيودن: “هل من الممكن أن تكون كل ذكرياتها قد عادت بالكامل؟”
أراد ثيودن أن يسأل، لكن في النهاية اختار أن يبقى صامتًا، وأبقى شفتيه مغلقتين بإحكام. تمتم في نفسه: “وكما قالت السيدة بلانتيه، التي لم تعد لارييت، لم يكن من حقي أن أتحدّث أكثر من ذلك.”
في تلك اللحظة، وكما لو كان الأمر مُبرمجًا مُسبقًا، ظهر الرجل الذي كان يحتاج حقًا إلى التحدّث إلى آرييل بلانتيه.
“سيدي رئيس برج السحر.”
نظر إليها آستر، الذي كان الآن في الغرفة، وهو يقف بشكل مستقيم ويتّكئ على لوح رأس السرير.
“ثيودن، أحسنتَ صنعًا. الوقت متأخر، يجب أن ترتاح الآن.”
مع إيماءةٍ هادئة، اختفى ثيودن دون صوت.
جلس آستر على الكرسي الذي تركه ثيودن، ونظر إليها بثبات. التقت نظراته بنظراتها الهادئة والثابتة.
وبينما كان ينظر إلى عينيها الهادئتين، فكر آستر: “لم يعد بإمكاني أن أُنادي المرأة أمامي لارييت.”
وأخيرًا سقط الستار على حياة لارييت.
في الصمت العميق والثقيل، كان آستر هو الذي تحدّث أولاً.
“هل عادت كل ذكرياتكِ؟”
كانت نبرة آستر مُهذّبة، وكأنه يُخاطب سيدة غريبة.
“لارييت، لا أرييل…”
توقّفَت، ثم أطلقَت ضحكة مريرة.
“كما اعتقدتُ… أنا لستُ لارييت، أليس كذلك؟”
تنهد آستر بعمق وأخفض عينيه. بعد صمتٍ قصير، بدأ يتحدّث ببطء.
“لا، أنتِ… لستِ لارييت. أنتِ…”
“آرييل بلانتيه.”
قاطعته، والتقت عيناها الصافيتان بعينيه الزرقاوين وهي تقول بحزم.
“أنا آرييل بلانتيه الوريثة الوحيدة لماركيز بلانتيه في إمبراطورية بنتيوم.”
التعليقات لهذا الفصل " 94"