تحرّكت شفتي لارييت ببطء، وكأن الكلمة نفسها كانت صعبة للغاية على النطق. حرّکت رأسها بسرعة يائسةً لرؤية مصدر الصوت، المرأة الغامضة، لتأكيد وجهها، عندما تحدثت. ولكن لم يكن هناك أحد. اليد التي كانت تُمسك بكتفها منذ لحظات اختفت أيضًا.
“ما هذا…”
“آرييل.”
لقد قطع صوت الرجل ارتباكها مرة أخرى. كان الرجل ينظر إليها مباشرة، وينادي باسم امرأة.
“أنا لستُ آرييل…”
وبينما بدأ الرجل يقترب منها، تراجعت لارييت غريزيًا بعيدًا عنه.
في تلك اللحظة، همس صوت آخر في ذهنها.
{كايلانس لم يُحبُّكِ أبدًا، حتى ولو للحظة واحدة.}
وفي الوقت نفسه، ضربها ألم حاد وحارق في رأسها، كما لو كان قد تمزّق.
“آه…”
صرخت لارييت وهي تمسك برأسها وتضغط على عينيها. لم تعد قادرة على تحمّل هذا الوضع غير المفهوم والألم المُبرح. لقد أرادت الهروب فقط.
في تلك اللحظة اليائسة، صوت مألوف قطع الفوضى.
“أختي! هل أنتِ بخير؟”
كان صوت أوفيليا.
أطلقت لارييت قبضتها على رأسها ببطء وفتحت عينيها. التقت لارييت بنظرات أوفيليا القلقة، وكانت عيناها مليئة بالقلق.
“أوفيليا؟ هل هذا أنتِ حقًا؟”
“عن ماذا تتحدثين؟ أنا بالطبع! لم أستطع التخلص من شعوري السيء بإرسالكِ وحدكِ، فلحقتُ بكِ مباشرة. لكن ما بكِ؟ هل تشعرين بالمرض؟ وجهكِ شاحب مجددًا!”
وأكدت الكلمات السريعة التي قيلت دون توقف أنها كانت بلا شك أوفيليا.
ثم قاطعها صوت ساحر آخر، أقل شهرة، ولكن يمكن التعرُّف عليه.
“آنسة لارييت، أنتِ لستِ بخير. هل أطمئن عليكِ؟”
وكان ميكا، ساحر الشفاء من الدائرة السادسة.
نظرت لارييت بين أوفيليا وميكا، وصدرها يرتفع ويهبط بسرعة قبل أن تُطلق أخيرًا تنهيدة عميقة من الراحة.
“لقد عدتُ…”
حينها فقط، تجلّت الهمهمة المحيطة. كان الحشد في حالة من الهياج، وبدا أن كل كلمة تُهمَس كانت عن الأرشيدوق الأكبر سايارد.
الغريب أنها، رغم أنها ظلّت في الحلم لفترة طويلة، إلّا أن الواقع لم يتحرّك تقريبًا. عادت إلى اللحظة التي أدار فيها الأرشيدوق الأكبر سايارد رأسه إلى هذا الجانب.
“أختي، قولي شيئًا ما بكِ؟ هل أنتِ مريضة؟”
أعادها صوت أوفيليا إلى الحاضر.
هزّت لارييت رأسها.
“لا… أنا بخير.”
كان قلب لارييت لا يزال ينبض بعنف، والعرق البارد يُبلّل جبينها. لكن كان عليها التأكد من أمرٍ ما أولًا. فكرت: “الرجل من الحلم. هل كان الأرشيدوق الأكبر حقًا؟”
“ميكا، هل يمكنني استعارة هذا؟”
قبل أن يتمكن ميكا من الإجابة، انتزعت لارييت التلسكوب من يديه بنظرة اعتذار، وهرعت إلى درابزين الشرفة. لحسن الحظ، كان الأرشيدوق الأكبر لا يزال ينظر إليها. رفعت المنظار إلى عينيها وأصبحت ملامح الأرشيدوق الأكبر واضحة تمامًا، كما لو كان يقف أمامها مباشرة.
حواجب كثيفة، عيون مُصمّمة بشكل مثالي بحيث تبدو وكأنها مرسومة وقزحية سوداء لامعة عميقة، وأنف حاد كالشفرة وشفتين قرمزيتين. لقد كان لا لبس فيه… كان وجه الأرشيدوق الأكبر سايارد المنحوت والآسر مطابقًا تمامًا للرجل الذي رأته في حلمها.
“آه…”
أطلقت لارييت نفسًا مرتجفًا، وكانت يدها ترتجف وهي تُسقط التلسكوب على جانبها.
“أختي؟”
“آنسة لارييت؟”
نادى كل من أوفيليا وميكا في الوقت نفسه، وكان قلقهما واضحًا.
لكن لارييت لم تستطع إجبار نفسها على الإجابة. شعرت وكأن عقلها على وشك الانفجار، مستهلكًا بأفكار الرجل من حلمها والأرشيدوق الأكبر سايارد. تمتمت في نفسها: “لماذا؟ لماذا لهما نفس الوجه؟ وكيف دخلتُ إلى هذا الحلم فجأة في المقام الأول؟ من كانت تلك المرأة… وما هو ذلك الصوت في رأسي؟”
ومع تزايد الارتباك، عاد الألم النابض في رأسها.
“أختي!”
ارتفع صوت أوفيليا بإلحاح، لكن لارييت أبعدت يدها وسلّمت التلسكوب إلى ميكا.
“آنسة لارييت، أنتِ لا تبدين بخير حقًا…..”
قال ميكا، وكان قلقه واضحًا.
“سأكون بخير. أحتاج فقط إلى الراحة.”
أجابت لارييت بصوتٍ متوتر وهي تستدير بعيدًا. ثم فكرت: “نعم، أحتاج إلى الراحة. لا شيء في هذا طبيعي.”
نبضات قلبها المتسارعة، والأحداث الغريبة التي مرّت بها، كل هذا كان فوق طاقتها. احتاجت إلى وقت لاستيعاب كل شيء.
“أختي، انتظري!”
تجاهلت لارييت صوت أوفيليا، وبدأت بالركض، مُتوجّهةً مباشرة إلى غرفتها دون النظر إلى الوراء. حتى عندما كان عقلها على وشك الانفجار، ظلّت فكرة واحدة واضحة تمامًا، الأرشيدوق الأكبر سايارد…
“صاحب السمو.”
وبينما كانت لارييت تُسرع خارج الشرفة، استمرّ كايلانس في التحديق في مجموعة السحرة المُتجمّعين بالقرب من السور.
لم يُشيح الأرشيدوق الأكبر الهادئ والبارد عادةً بنظره عن السور، ناداه دیریل خادمه مرة أخرى. ولكن كايلانس لم يُجيب.
“هل هناك أحد تعرفه بينهم؟”
سأل ديريل وهو يُلقي نظرة سريعة على مجموعة السحرة.
أخيرًا، انفتحت شفتي كايلانس المغلقة بإحكام.
“الشعر الأحمر…”
لقد فهم ديريل على الفور معنى الكلمات. فكر: “كان صاحب السمو يبحث عن أي أثر للسيدة بلانتيه. حتى في العاصمة كان يتوقف ويسأل أي امرأة ذات شعر أحمر يصادفها. ولكن لا توجد امرأة ذات شعر أحمر زاهي مثل السيدة بلانتيه هنا. كان هناك عدد قليل من النساء ذوات الشعر الأحمر الفاتح في الحشد، لكن لم يكن أي منهن يضاهين خصلات الشعر القرمزية الزاهية للسيدة بلانتيه.”
وبينما عبّس ديريل، وهو ينظر إلى تجمّع السحرة مرة أخرى، قاطع صوت كايلانس أفكاره.
“ديريل.”
“نعم يا صاحب السمو؟”
“المرأة التي وقفت عند السور في وقتٍ سابق… تلك التي تُغطي وجهها… ذات الشعر الأحمر… لا، لا يهم.”
توقف كايلانس عن الكلام، قاطعًا نفسه.
رأى ديريل المرأة أيضًا، فكر: “من بين السحرة، كانت الوحيدة التي ترتدي غطاء للوجه. لكن المرأة التي رأيتها بوضوح لم يكن شعرها أحمرًا، بل كان أشقرًا لامعًا.”
أراد ديريل في إخبار كايلانس بذلك، لكنه سرعان ما أغلق فمه.
تمتم ديريل في نفسه: “اختفى الآن الندم والفراغ اللذان كانا يملأن وجه صاحب السمو سابقًا. عندما غادر مكتب رئيس برج السحر، كان تعبير وجهه غامضًا. لم أكن أعرف كل التفاصيل، لكنني كنتُ متأكدًا من شيء واحد؛ كان الأمر له علاقة بالسيدة بلانتيه. لقد كانت دائمًا سبب يأس صاحب السمو. والآن بعد أن بدا أن سيدي قد استعاد رباطة جأشه، لم أرى أي سبب لإثارة أي شيء قد يجعله يُفكر في السيدة بلانتيه مرة أخرى. لابد أنني كنتُ مُخطئًا بشأن المرأة.”
أبعد ديريل الفكرة جانبًا، وتبع كايلانس في صمتٍ. ثم دوى صوت بعيد أمامه.
“دعونا نذهب.”
“نحن نعود إلى وطننا.”
بمجرد عودة لارييت إلى غرفتها، انهارت على السرير وكأن ساقيها لم تعد قادرة على دعمها. كانت ممسكة برأسها بقوة، وتكوّرت على شكل كرة. الألم الحارق الذي كان ينبض في صدرها ارتفع الآن إلى رأسها. لقد كان الأمر ساحقًا، وكان الألم أكثر شدة من ذي قبل.
أطلقت لارييت أنينًا مؤلمًا، كما لو أن جمجمتها كانت على وشك الكسر.
“آه… آه… أوه…”
لم يكن هذا مجرد صداع. شعرت وكأن كل شيء في رأسها ينهار، وينهار عليها مع أصداءٍ صاخبةٍ من الألم. في خضمِ الألم الشديد، بدأت ذكريات غريبة تظهر في ذهنها.
{أبي!}
ركضت فتاة صغيرة ذات شعر أحمر زاهي نحو والدها، وكان وجهها مُضاء بابتسامةٍ مبهرة.
{أخبرتني السيدة باتريك أن ليري الحبيبة أتقنت بالفعل جميع دروس الإتيكيت. لقد وصفتكِ بالعبقرية، كما تعلمين.}
{هذا لأنني أشبهكَ يا أبي.}
ردّت الفتاة الصغيرة بابتسامة مشرقة، وكان تعبيرها نقيًا وصادقًا. أصبحت عيون والدها أكثر حبًا عندما نظر إليها. ثم استمرّت الفتاة الصغيرة في النمو، تتمتع بحُبِّ والدها وحمايته.
“آه…”
في كل مرة تظهر فيها صورة والد الفتاة، تشعر لارييت بضيقٍ في صدرها بشكل مؤلم، كما لو أن قلبها ينكسر مرة أخرى. تدفقت الدموع على وجهها في سيلٍ لا يمكن إيقافه. ظلّت الذكريات تتدفق في ذهنها بلا هوادة، لا يمكن إيقافها. كبرت الفتاة الصغيرة وأصبحت شابة بالغة بجمالٍ مذهل، كوردة مُتفتّحة. لقد أمسكت الشابة بيد والدها عندما ظهرت لأول مرة في حفل كبير. لقد تمَّ إغراقها بالتهاني، وكان وجهها مُشعًا بالسعادة، ولم ينقصها شيء.
“ولكن لماذا أشعر بهذا الألم الذي لا يُطاق عندما أرى هذا؟”
تشبّثت لارييت بشعرها وكأنها تريد انتزاعه. لم تعد تُطيق العذاب، لا الخوف ولا الذكريات لم ترغب في أن تعاني من ذكريات لم تكن حتى ذكرياتها.
وبعد ذلك، في عاصفة الذكريات، صرخ صوت.
{آرييل…}
{ارييل.}
لقد اختفت المرأة المبتسمة من ذهنها، وحلّ محلّها الرجل من حلمها. الرجل الذي صرخ بهذا الاسم وهو ينظر إليها مباشرة.
“آرييل. المرأة الغامضة من الذكريات… كانت صاحبة الاسم الذي نطق به الأرشيدوق الأكبر سايارد. الأرشيدوق الأكبر سايارد وآرييل…”
فتحت لارييت عينيها المغلقتين بإحكام عندما أدركت ذلك. حينها فهمت من هي آرييل.
“لم تكن تلك المرأة سوى آرييل بلانتيه خطيبة الأرشيدوق الأكبر سايارد التي فسخ خطوبته عليها، المرأة التي كان يُعتقد أنها ماتت. آه… ولكن لماذا أنا…؟”
همست لاريیت بصوت مرتجف من الحيرة.
“لماذا أرى هذه الذكريات؟ لماذا أنا عالقة في ماضي آرييل بلانتيه؟ هل أرى ذكرياتها؟ لماذا نظر إليّ الأرشيدوق الأكبر سايارد ودعاني آرييل؟”
تسارعت أفكار لارييت وهي تجمع أجزاء مما مرّت به، عادت إلى الحلم الذي راودها قبل دخول غرفتها.
“كان الأرشيدوق الأكبر هناك. إنه ليس مُزيفًا.”
همست بصوتٍ عالٍ، مُتذكرةً كلام المرأة الغامضة في حلمها.
“أصرّت المرأة على أن الأمر حقيقي، وعليَّ مواجهته. وفي النهاية…”
{لأنه خانكِ.}
غرق قلبها عندما أدركت الحقيقة.
“إذا كان هذا صحيحًا… فهل يعني هذا أن الأرشيدوق الأكبر سايارد خانني؟ آه!”
صرخت لارييت عندما مزّق الألم المّبرح رأسها، كما لو أن دماغها تعرّض لضرب عنيف في اللحظة التي فكرت فيها بهذه الفكرة.
“الأرشيدوق الأكبر سايارد… رجل لم أُقابله أبدًا… خانني؟ كيف؟ من كانت تلك المرأة؟ وماذا… ماذا أفتقد هنا؟”
دارت أسئلة لا تُحصى في ذهنها، لكن الألم الذي يضرب دماغها منعها من التفكير بوضوح. حتى الحفاظ على الوعي بدا لها مُهمة مستحيلة. وعندما بدأ وعيها يتلاشى ظهرت فكرة أخيرة في ذهنها.
التعليقات لهذا الفصل " 93"