سهلٌ واسعٌ مُمتد ليس ببعيد عن برج السحر. على هذه الأرض الواسعة، والتي كانت كبيرة بما يكفي لمنافسة عواصم العديد من الممالك، كان مبنى زجاجي ضخم على شكل قُبة، يحمي الآلاف من الأعشاب في داخله. كانت هذه الدفيئة الزجاجية الضخمة بمثابة حقل الأعشاب لبرج السحر، لقد احتوت على المواد الخام لعدد لا يُحصى من الجُرعات، وكذلك النباتات النادرة والمُهددة بالانقراض، مما يجعلها دفيئة حيوية ليس فقط لبرج السحر ولكن للقارة بأكملها. ونظرًا لأهميتها، تم تأمين الدفيئة بعناية. كانت العشرات من الحواجز الواقية تُحيط بالقبة الزجاجية، وكان هناك العشرات من السحرة المُتخصصين في الهجوم يقفون حراسًا. كان الدخول مُنظمًا بشكل صارم، وحتى السحرة المرتبطين ببرج السحر لم يتمكنوا من الدخول بحرية. لم يُسمح بالدخول إلّا للسحرة المُكلّفين برعاية النباتات وأولئك الذين حصلوا على تصريح خاص من رئيس برج السحر. بطبيعة الحال، كانت هذه التصاريح الخاصة نادرة للغاية. لكن اليوم، مُنح شخصان تصريحًا كهذا. كانت أوفيليا، أصغر ساحرة في الدائرة الخامسة في فريق البحث. ولارييت، أخت رئيس برج السحر. تمكنت هاتان الشابتان من الوصول إلى الدفيئة.
بفضل أوفيليا، كان الجو الهادئ عادةً في الدفيئة يتخلّله في كثير من الأحيان نوبات من الحماسة.
“يا إلهي، لا أُصدّق أنني أرى ذلك بعيني….. هذا مذهل. إنه لطيف للغاية!”
كان النبات الغريب، بفمه المفتوح المُبطّن بالأسنان الشائكة، يبدو أي شيء إلّا لطيفًا. لكن أوفيليا الصغيرة بدت مُغرمة به، حدّقت فيه طويلًا كما لو كان أجمل ما رأته في حياتها. بيد مرتعشة، التقطت أوفيليا قطعة لحم وقرّبتها من فم النبتة المفتوح على مصراعيه. في لحظة، امتد جذع النبات الغريب وانتزع اللحم من يدها، كما لو كان يتربّص لها.
“احذري!”
فزعت لارييت فسحبت أوفيليا غريزيًا. لو لم تتصرّف بهذه السرعة، لربما أُبتُلعت يد أوفيليا مع اللحم.
أخذت لارييت نفسًا عميقًا ووضعت يدها على صدرها لتهدئة قلبها المضطرب. نظرت إلى أوفيليا التي بدت مفتونةً تمامًا، بدلًا من أن يبدو عليها الصدمة.
“يا أختي، هل رأيتِ ذلك؟ تلك العضة المذهلة للتو….. أليس رائعًا حقًا؟”
تمتمت لارييت في نفسها: “رائع؟ هل أنتِ مجنونة؟”
وصلت الكلمات إلى طرف لسان لارييت، لكنها ابتلعتها. لم تكن تُريد أن تفسد حماسة أوفيليا.
“أوه… نعم…. أعتقد.”
أجابت لارييت بحذر، مُتعمّدةً عدم النظر إلى النبات الغريب عندما فتح فمه المليء بالأسنان مرة أخرى.
ربما بدا الأمر متردداً بعض الشيء، لكنه كان أفضل ما يمكنها فعله. لم ترغب لارييت في إفساد سعادة أوفيليا، لكنها لم تستطع تجاهل حقيقة أنها كانت تتجوّل في الدفيئة لساعات تنظر إلى النباتات السحرية.
“لقد قضيتُ في برج السحر ما يُقارب عشر سنوات، لكن هذه أول مرة أزور فيها حقل الأعشاب. لا يمكن المجيء إلى هنا دون إذن رئيس برج السحر….. أختي، شكرًا جزيلًا لكِ! لنتأكد من رؤية جميع النباتات النادرة اليوم.”
بصراحة، لو لم تقل أوفيليا تلك الكلمات لكانت لارييت قد استسلمت منذ زمن.
لم تستمر روعة النباتات التي لا تُعد ولا تُحصى تحت الدفيئة الزجاجية الضخمة طويلاً. وبمرور الوقت، تحوّل اهتمام لارييت تدريجيًا من داخل الدفيئة إلى العالم الخارجي، بدأت أفكارها تتجه نحو برج السحر. وبشكل أكثر تحديدًا، الرجل الموجود داخل برج السحر الأرشيدوق الأكبر سايارد. لسبب ما عقلها ظلّ يعود إليه…
تمتمت لارييت في نفسها: “کایلانس سايارد. أتساءل أي نوع من الرجال كان؟”
ولم يكن ذلك فقط بسبب الألقاب العظيمة المرتبطة بكايلانس، قاتل الوحش الشيطاني القديم، فاتح الغابة الغربية، المُتسامي. لقد بدأ فضولها تجاهه قبل فترة طويلة من انتصاره الكبير على الغابة الغربية.
تمتمت لارييت في نفسها: “بدأ الأمر منذ اللحظة التي سمعتُ فيها اسمه لأول مرة، وتزايد عندما علمتُ بالوفاة المأساوية لخطيبته السابقة. في الحقيقة، لم يكن هناك سبب منطقي يجعلني مُنشغلةً به إلى هذا الحد. ولكن لم يكن الأمر وكأنني كنتُ عاطفية أو ساذجة إلى الحد الذي يمنعني من تجاوز قصة حُبّه الفاشلة. لم أكن من النوع التي تحمل قصص الحب المأساوية للغرباء في قلبي، ولم أكن مهتمة بشكل خاص بشؤون الآخرين…..”
ولكن منذ ذلك اليوم، وجدت لارييت نفسها تتوقف عن كل ما كانت تفعله كلما تم ذكر اسم الأرشيدوق الأكبر سايارد غير قادرة على مقاومة التركيز على المحادثة. لقد استمعَت باهتمام إلى كل كلمة قيلت عن كايلانس. لقد زاد هذا الاهتمام غير المُبرّر به خلال الأيام القليلة الماضية.
تمتمت لارييت في نفسها: “مع انتشار خبر زيارة الأرشيدوق الأكبر سايارد إلى برج السحر، تم ذكر اسمه مرارًا وتكرارًا طوال اليوم. ربما لأن أمر حظر الحديث الذي أصدره أخي آستر قد تمّ رفعه، فقد تحدّث الناس بحريةٍ وحماس عن الأرشيدوق الأكبر من طفولته وحتى يومنا هذا، أصبحت حتى القصة المأساوية للمرأة التي كان مخطوبًا لها والتي ماتت، موضوعًا مُتكرّرًا للنقاش.”
وبطريقةٍ حتميّة، اكتشفت لارييت المزيد من التفاصيل عن كايلانس. بما في ذلك اسم خطيبته السابقة.
تمتمت لارييت في نفسها: “آرييل بلانتيه. الابنة الوحيدة لعائلة ماركيز بلانتيه في إمبراطورية بنتيوم.”
وجدت لارييت نفسها تتذكر اسم المرأة المتوفاة، وهو الاسم الذي ظلّ واضحًا في ذاكرتها مثل اسم الأرشيدوق الأكبر سايارد… ما زالت غير قادرة على فهم سبب ترك هذا الانطباع القوي، لكنها لم تُفكر في الأمر بعمق.
تمتمت لارييت في نفسها: “في هذه اللحظة أنا بحاجةٍ إلى شيء للتركيز عليه شيء لتشتيت انتباهي. شيء لمساعدتي على نسيان الرجل من أحلامي.”
الحقيقة هي أنه على الرغم مما قالته لآستر، فإن لارييت لم تتعافَ تمامًا. على الرغم من أن التنويم المغناطيسي أظهر لها بوضوح تام أن الرجل كان مجرد وهم، إلّا أنها لم تستطع التخلي عن ارتباطها المستمر به.
تمتمت لارييت في نفسها: “لقد بذلتُ قصارى جهدي لمنع هذا الارتباط من أن يصبح هوسًا، لكن… يبدو أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت.”
في كل مرة أغمضت فيها عينيها، كانت صورته وهو ينهار إلى حفنةٍ من الرمال تلعب بوضوح في ذهنها، ودموعها سوف تتبع ذلك حتمًا. بمُجرّد أن تبدأ دموعها، كان من المستحيل إيقافها، مما يودّي إلى سحبها إلى حزنٍ عميق يُثقل على قلبها مثل حجر ثقيل. لقد كان الأمر أشبه بأنها عالقة في مستنقع، كل خطوة تتّخذها تسحبها إلى عمق أكبر. حتى الآن، بمجرد أن تحوّلت أفكارها إلى الرجل، تسلَّل حزن ثقيل من أصابع قدميها، كما لو كان ينتظرها…
“كافٍ…”
همست لارييت بهدوء، وأجبرت نفسها على إعادة توجيه أفكارها. لقد أعادت الأرشيدوق الأكبر سايارد إلى مُقدَّمة ذهنها. سُرعان ما تبدَّد الظلام القمعي الذي تسلَّق جسدها. لدهشتها، نجح الأمر. فلا عجب أن اهتمامها بكايلانس كان يتزايد…
تمتمت لارييت في نفسها: “في حالتي الحالية، حيث لم يعد حتى دواء الساحر العظيم قادرًا على مساعدتي، أصبح الأرشيدوق الأكبر هو راحتي الوحيدة. وعلى الأقل كان حقيقيًا. على عكس الرجل في أحلامي، كان الأرشيدوق الأكبر حيًا يتنفس.”
مع تنهيدة مريرة، أدارت لارييت رأسها بعيدًا. نظرت إلى برج السحر في المسافة، مجرد نقطة صغيرة خلف الدفيئة الزجاجية الضخمة.
تمتمت لارييت في نفسها: “لقد كنتُ آمل أن أراه شخصيًا، ولو مرة واحدة. لكي أعرف ما إذا كان بالضبط كما صوَّرتهُ الشائعات المبالغ فيها، أو إذا كان رجلًا آخرًا تمامًا. ولكن لم يكن هناك جدوى من الخوض في هذا الأمر. لم يكن الأمر كما لو أن أخي آستر قد أرسلني إلى هنا اليوم عمدًا لمنعي من مقابلة الأرشيدوق الأكبر. لقد تركت القوة الهائلة في قلب المانتيكور القديم له خيارًا واحدًا فقط وهو إرسالي بعيدًا. جسدي، شديد الحساسية للسحر، كنتُ قد مررتُ بالفعل بمحنة صعبة بسبب ذلك. كانت تجربة واحدة من الشعور بالإرهاق من السحر والوقوع في أحلام غريبة أكثر من كافية. ربما كان القدر… مصير منعني من مقابلة الأشخاص الذين أثاروا فضولي. بعد كل شيء، لم أكن قادرة على مقابلة الرجل في أحلامي أو الأرشيدوق الأكبر سايارد…”
ثم همست لارييت بابتسامةٍ خفيفة ساخرة من نفسها.
“إنها فكرة سخيفة، لكنها تحمل معنىً غريبًا نوعًا ما.”
مع ذلك، نظرت لارييت بعيدًا عن برج السحر الذي بالكاد يمكن رؤيته. تمتمت في نفسها: “حتى لو لم أتمكن من رؤيته الآن، فسوف أسمع كل شيء عنه لاحقًا.”
بعد أن تخلّصت من خيبة أملها المُتبقية، وجّهت لارييت انتباهها مرة أخرى إلى أوفيليا.
في تلك اللحظة، عبست أوفيليا قليلاً، وبدا عليها الإحباط قليلاً، وتحدثت.
“هل تُريد مني أن أحضره الآن؟”
“ماذا؟”
توقفت لارييت مرتبكة من كلمات أوفيليا، عندها رفعت أوفيليا معصمها واستمرّت في الحديث.
“لا، لستُ في البرج الآن….. أنا في حقل الأعشاب. السير إيديم ألَا يمكنني إحضار الدائرة السحرية لاحقًا اليوم؟”
استخدمت أوفيليا جهاز اتصال للتحدّث مع ساحر في برج السحر.
“إيديم؟”
فكرت لارييت عند سماع الاسم المألوف: “كان إيديم هو الرئيس المباشر لأوفيليا وكان شخصًا تافهًا كان يحسدها على نجاحاتها كثيرًا. كان لديه عادة اختيار معارك مزعجة مع أوفيليا كلما تفوّقَت في شيء ما. والآن، بدا وكأنه يفعل ذلك مرة أخرى.”
لم تكن لارييت بحاجة لسماع التفاصيل لتخمين السبب. تمتمت في نفسها: “ربما كان ذلك بسبب السماح لأوفيليا بالوصول إلى حقل الأعشاب، وهو مكان ربما لم يره إيديم عن قرب من قبل.”
في تلك اللحظة، تنهدت أوفيليا وأجابت بتعبير حزين، وعيناها متدليتان قليلاً.
“حسنًا، سأعود إلى برج السحر الآن وأحضره لكَ.”
“كما هو متوقع. لم يستطع أن يتحمل رؤية أوفيليا تستمتع بنفسها وكان عليه أن يُفسد الأمر.”
وبينما كانت لارييت تهز رأسها بسبب تصرّفات إيديم التافهة، خطرت لها فكرة فجأة.
“أوه أختي، أعتقد أنني بحاجة للعودة إلى برج السحر أولاً…..”
قبل أن تتمكن أوفيليا من الانتهاء، تقدّمت لارييت للأمام وقالت.
“سأذهب بدلًا من ذلك.”
أومأت أوفيليا بدهشة.
“أنتِ ذاهبة؟”
“نعم. لم تنتهِ من البحث، أليس كذلك؟ سأوصلها له. الدائرة السحرية التي يحتاجها إيديم هي دائرة الاستكشاف من أمس، أليس كذلك؟”
“صحيح، لكن….. كيف لي أن أسمح لكِ؟ لم يكن لديكِ وقت كاف للاستكشاف أيضًا. هذه وظيفتي…..”
“لا بأس. يمكنني دائمًا العودة لاحقًا. كما تعلمين، أخي لا يرفض رغباتي أبدًا. حتى أنه أخبرني اليوم… إن لم أتمكن من رؤية كل شيء، يمكنني دائمًا العودة والاستكشاف كما يحلو لي.”
ارتجفت شفتا لارييت قليلاً عندما قالت الكذبة، لكن يبدو أن أوفيليا لم تلاحظ ذلك.
ارتدت كل من لارييت وأوفيليا أغطية للوجه لمنع الرائحة القوية للأعشاب، مما جعل من السهل على أوفيليا تفويت الارتعاش الطفيف في صوت لارييت.
قرّرت لارييت أن تدفع أوفيليا أكثر للتخفيف من تردّدها.
“أوه، ما الذي بيننا؟ لقد ساعدتيني كثيرًا.”
وأخيرًا، تخلّت أوفيليا عن تردّدها وابتسمت.
“حسنًا….. سأدعكِ تفعلين ذلك هذه المرة يا أختي، إضافة إلى ذلك، من المفترض أن يكون استخراج طاقة المانتيكور قد انتهى الآن.”
فكرت لارييت: “حتى لو انتهى استخراج الطاقة… فمن المُرجح أن الأرشيدوق الأكبر لا يزال هناك.”
استغلّت لارييت ذلك كذريعة لزيارته. شعرت بوخزة ذنب تجاه أوفيليا، لكنها تجاهلتها.
“بالضبط. لذا لا تقلقي بشأن ذلك. خذي وقتكِ واستمتعي بكل ما ترغبين برؤيته. ففرص كهذه لا تتكرّر كثيرًا.”
“شكرًا لكِ أختي.”
ساعدت ابتسامة أوفيليا المشرقة المليئة بالحماسة في تخفيف الشعور بالذنب الذي كان يراود لارييت.
تمتمت لارييت في نفسها: “هذا هو الصواب، إنه لمصلحة كلينا.”
بعد وداعٍ سريع استدارت لارييت بعيدًا دون تفكير ثانٍ.
على عكس الرجل في أحلامها، كان الأرشيدوق الأكبر سايارد حقيقيًا، وكانت مُصممة على رؤيته…
التعليقات لهذا الفصل " 88"