لقد كان انتصارًا سيُسجّل في التاريخ، لكنه لم يجلب لكايلانس المجد. الشيء الوحيد الذي كان كايلانس يتمنى الحصول عليه على الإطلاق: آرييل، لكن تلك الأُمنية لم تتحقق.
كانت العاصمة التي عاد كايلانس إليها مليئة بآثار آرييل، لأنها كانت بمثابة الخلفية لجميع ذكرياتهما معًا. ولعلّ هذا هو السبب الذي جعله يجد نفسه دون وعي يبحث عنها بين عدد لا يحصى من الناس من حوله. على الرغم من أن كايلانس كان يعلم في ذهنه أنها رحلت، إلّا أنه في كل مرة تعبر فيها امرأة ذات شعر أحمر طريقه، كان يتوقّف على أمل، ولو للحظة عابرة أن تكون هي.
لكن في النهاية، اضطر كايلانس لمواجهة الحقيقة القاسية وهي أنه لن يرى آرييل مرة أخرى، فغرق في اليأس أكثر فأكثر مع كل إدراك لهذا الأمر.
يومًا بعد يوم، كان الفراغ الذي تركه غيابها ينمو، ويملأه بفراغ لا يُطاق…
يبدو أنه لم يُخفِ مشاعره جيدًا، أصبح يأس كايلانس واضحًا لدرجة أن الإمبراطور لاحظ ذلك. بينما كان ينظر إلى النافذة بنظرةٍ فارغة، تذكّر كايلانس المُحادثة القصيرة التي أجراها مع الإمبراطور قبل مغادرة القصر الإمبراطوري.
“عندما قرَّرتَ مغادرة المهرجان والذهاب إلى برج السحر، ظننتُ أن السبب هو أهمية عملكَ مع برج السحر. وعندما لم تظهر إلّا لفترة وجيزة في الحفلات قبل مغادرتكَ، ظننتُ أن السبب هو ببساطة أنكَ لم تكن من مُحبّي التجمٌعات الصاخبة والحيوية. هذا ما ظننتُه في البداية. لكن يبدو أنني كنتُ مخطئًا. هناك شائعات بين النبلاء، كما تعلم. يقولون إن تعبير وجهكَ يتغيّر كلما رأيتَ سيدة ذات شعر أحمر، يا كايلانس. إنها ليست مجرد ثرثرة فارغة، أليس كذلك؟”
“أنا أعتذر.”
تأمّله الإمبراطور في صمت، وكان عدم إنكار كايلانس يؤكد الحقيقة، قبل أن يُطلق تنهدًا عميقًا.
“عندما أخبرتني أنكَ ستقود حملة الإخضاع، أكّدتَ لي أن ذلك ليس بهدف التخلص من حياتكَ. ظننتُ أنكَ تجاوزتَ الأمر. لكن الآن أرى أنني كنتُ مخطئًا. لم تنسها أبدًا ولو للحظة.”
“لا أستطيع نسيانها يا صاحب الجلالة. ذنبي عظيم جدًا، فلا أستطيع نسيانها بسهولة.”
“هل هكذا تريد أن تعيش بقية حياتكَ؟ مُثقلاً بالذنب، مرتديًا وجه رجل يعيش فقط بدلًا من أن يعيش حقًا؟”
“سأكون أكثر حذرًا. لن أسمح لنفسي بأن أكون موضوعًا للشائعات المُخزية مرة أخرى.”
أدّى رفض كايلانس الإعلان عن أنه سينسى آرييل في النهاية إلى إثارة غضب الإمبراطور.
“هل تظن أنني أقول هذا لأني أهتم بقيل تافه نبيل؟ أقول ذلك لأني أهتم لأمركَ! أن تُقيّد نفسكَ بالموتى لبقية حياتكَ أليس هذا أمرًا مرعبًا؟”
نزل الإمبراطور من الكرسي وأمسك كايلانس من كتفيه، وكأنه يُريد أن يُخرجه من يأسه.
“تقبَّل الأمر. تقبَّل موت السيدة بلانتيه، دعها ترحل. على الأحياء أن يستمروا في الحياة. وأنتَ من بين جميع البشر، لا يجب أن تتراجع. لم تعد ابن أخ الإمبراطور ولا أرشيدوقًا. منذ اللحظة التي أصبحتَ فيها مُتسامٍ، أصبحتَ شخصية مؤثرة في جميع أنحاء القارة، وليس الإمبراطورية فقط. لا يمكنكَ أن تسمح لنفسكَ بالسقوط. وحتى لو حاولتَ، فإن من يتبعونكَ، والمسؤولية المُلقاة على عاتقكَ، لن يدعوكَ تنهار. مع كل هذه الأعباء التي تحملها، لماذا تُكبّل نفسكَ بالمزيد؟ لقد تجاوزتَ عمر الإنسان العادي. إذا قضيتَ تلك السنوات الطويلة غارقًا في اليأس، فكيف لي أن أرقد بسلام، حتى في الموت؟”
انخفض صوت الإمبراطور وهو يُشدّد قبضته على كتفي كايلانس.
لم يتمكّن كايلانس من إقناع نفسه بإخبار الإمبراطور الحقيقة.
لم يستطع كايلانس الاعتراف بأنه لن ينسى آرييل أبدًا، وأنه مُصمم على التكفير عن خطاياه، بغض النظر عن المدة التي يستغرقها الأمر، حتى لو استغرق الأمر حياته كلها. حتى لو كانت كذبة، أو حتى كلمة: سأنساها، لم يستطع كايلانس أن يقول ذلك، ولم يستطع أن ينطق بعبارة طمأنينة مؤقتة للإمبراطور.
لم يكن هناك سوى شيء واحد يستطيع كايلانس قوله.
“اعتذاري.”
ازدادت الظُلمة على وجه الإمبراطور، لكن كايلانس اعتذر بهدوء. فالبقاء لفترة أطول سيزيد من استياء الإمبراطور.
عندما انتهت ذكرياته، رمش كايلانس ببطء، وفُقد في التفكير. ألقى نظرة مرة أخرى من النافذة، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت العربة قد مرّت عبر ساحة العاصمة وكانت تقترب من مقر إقامة الأرشيدوق الأكبر.
جمع كايلانس رباطة جأشه، وخرج من العربة التي كانت متوقفة الآن.
“مرحبًا بكَ مرة أخرى، صاحب السمو.”
قام كبير الخدم الذي جاء لاستقباله بتحيته واستمرّ في الحديث.
“الحمام جاهز. هل أرشدكَ إلى غرفتكَ؟”
“لا، سأذهب إلى المكتب. سأتصل بلوييل.”
تردّد كبير الخدم للحظة، وألقى نظرة على الساعة، التي أظهرت أنها تجاوزت منتصف الليل، لكنه أجاب بسرعة.
“مفهوم.”
لقد كان من المعتاد بالفعل أن يستدعي الأرشيدوق الأكبر لوييل فور عودته من الحملة، دون حتى لحظة راحة.
توجّه کایلانس مباشرةً إلى المكتب. خلع معطفه، وعلّقه بلا مُبالاة، وبدأ فورًا بفحص الرقوق الموضوعة على مكتبه.
كانت تلك سجلات للحادث الذي تورّط فيه الأرشيدوق الأكبر الراحل، وهي وثائق لم يتمكن كايلانس من دراستها بشكل شامل قبل رحيله المفاجئ للحملة. عند عودته من حملة الاخضاع، طارد كايلانس بلا هوادة الجاني الحقيقي وراء عملية قتل الأرشيدوق الأكبر الراحل ومؤامرة الماركيز بلانتيه.
كان الكشف عن هوية الجاني الحقيقي ضروريًا إذا كان كايلانس يُريد التكفير بشكل صحيح عن خطاياه ضد آرييل.
وفي تلك اللحظة سُمع طرقًا على باب المكتب.
“ادخل.”
انفتح الباب ودخل لوييل وهو ينحني باحترام. أشار كايلانس إلى إنهاء الإجراءات الرسمية وأشار إليه بالذهاب مباشرة إلى النقطة.
“لقد ذكرتَ سابقًا أن رسالة من فيلوكا وصلت بعد ظهر اليوم.”
“نعم، ها هو.”
أجاب لوييل وهو يُسلّم الرق.
فك كايلانس الشريط بسرعة، وفحص محتوياته بعد لحظة، تنهد قليلاً، ثم وضع الرق على المكتب.
“مرة أخرى… طريق مسدود.”
كُتب في الرق ما يلي:
(يظهر اسم تومار في سجلات فيلوكا، لكن إقامته هناك كانت قصيرة جدًا. لا يوجد دليل على أنه عاش في المنطقة، ولا يبدو أن أحدًا يتذكره. يبدو أنه كان يمر بها فقط.)
كان تومار هو سائق العربة الذي اختفى يوم الحادث، وهو شاهد رئيسي يمكن أن يقود إلى الجاني الحقيقي.
لقد مرّ أكثر من شهرين منذ أن بدأت عملية البحث عنه. قبل مغادرته إلى حملة الإخضاع، أصدر كايلانس تعليماته إلى لوييل لتعقّبه.
في غياب كايلانس، بذل لوييل قصارى جهده، فأرسل جواسيس عبر الإمبراطورية للبحث عن أي أثر لتومار. لكن للأسف، لم تظهر أي خيوط مهمة. كل ما وجدوه كان آثارًا خافتة وعابرة، لا أحد يعرفه جيدًا، ولا يوجد أي مؤشر على أي مكان ربما أقام فيه لأي فترة من الزمن.
أحنى لوييل رأسه ووقف أمام كايلانس في اعتذار صامت.
“اعتذاري، سموكَ.”
رفع كايلانس عينيه وهو ينظر إلى الرق. طوى الرق ووضعه جانبًا، وأجاب.
“ارفع رأسكَ. هذا ليس ذنبكَ. ألم أقل لكَ؟ لن يكون الأمر سهلاً أبدًا. لقد مرّت أكثر من عشر سنوات على اختفائه… لن يكون منطقيًا أبدًا ملء فراغات عقد من الزمن في شهرين فقط.”
ولم تكن كلمات كايلانس تهدف إلى مواساة لوييل، بل كان يتحدث في اعتراف حقيقي بمدى صعوبة المهمة.
وضع كايلانس الرق جانبًا، وفتح خريطة ومرّر أصابعه على الأماكن التي قيل أن تومار ظهر فيها.
“همم…”
ولم تظهر الأماكن المتفرّقة نمطًا واضحًا، لكنها كانت تميل إلى التجمع حول أماكن في المناطق الجنوبية الشرقية.
“وبدا وكأنه يتحرّك تدريجيًا نحو الجنوب. جنوبًا… إذا استمرّ تومار نحو أقصى الجنوب…”
في أقصى نقطة جنوبية على خريطة بنتيوم، توقف إصبع كايلانس عند الحدود. وبشكل أكثر تحديدًا، توقّف عند مملكة بريتا، الواقعة خلف الحدود الجنوبية.
تمتم كايلانس في نفسه: “مملكة بريتا، المكان الذي لن أنساه أبدًا.”
ليس لأن كايلانس كان يتطلّع باستمرار إلى الأراضي الجنوبية للإمبراطورية بطموح. بل لأنها المملكة التي استخدمها لفبركة جرائم الماركيز بلانتيه.
تمتم كايلانس في نفسه: “وبطبيعة الحال، فإن قرار إشراك مملكة بريتا لم يكن قراري وحدي… لكن لم يكن هذا هو المهم. ولم تكن لدي رغبة في أن يعلق تفكيري على وجه عمتي، الذي تبادر إلى ذهني لا محالة.”
ما زال كايلانس لا يُريد مواجهة الدوقة ميليش فياستيس. لهذا السبب تجنبها تمامًا عند عودته. وكانت رسائل التهنئة والشوق قد وصلته إلى المنزل، وحاولت عمته ميليش التقرب منه في الحفلات عندما التقيا، لكن كايلانس كان يبتعد دون تردّد.
تمتم كايلانس في نفسه: “ربما بعد أن أكشف الجاني الحقيقي وأتصالح مع آرييل، سلاتمكن من مواجهتها. حتى ذلك الحين، أنا مُصمم على تجنبها تمامًا. لقد قرّرتُ عدم مواجهتها حتى يتم الكشف عن الجاني الحقيقي وتخفيف عقوبة آرييل إلى حدٍ ما. وكان عليّ أيضًا اكتشاف السبب الحقيقي وراء تظاهر عمتي بعدم معرفة أي شيء عن ماضي الماركيز بلانتيه. فقط عندما تكون الحقيقة بين يديّ ستتوقف عمتي عن الكذب عليّ. في الوقت الراهن، كان العثور على تومار هو الأولوية.”
عاد نظر كايلانس إلى مملكة بريتا. فكر: “هل كان حقًا قد ذهب إليها؟ لم يكن هناك يقين، لكن رفض هذا الاحتمال ترك شعورًا مزعجًا بالقلق. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تتدخّل مملكة بريتا مرة أخرى في شؤون الماركيز بلانتيه.”
نادی کايلانس على لوييل.
“لوييل.”
“نعم؟”
“بعد التحقّق من مسار تومار، يبدو أنه لم يعد ضمن الإمبراطورية.”
“هل تقول…؟”
“لا أقول إنه مات، بل أقول إنه على الأرجح لم يعد في الإمبراطورية.”
تصلّبت نظرات لوييل المتردّدة للحظة.
“هل تقصد أنه عبر الحدود؟”
“بالضبط. يبدو ذلك. تحرّكاته تتّجه جنوبًا بثبات.”
“الجنوب… هل يمكن أن تكون هذه حقًا مملكة بريتا…؟”
أومأ كايلانس برأسه.
“أرسل الناس إلى الحدود ابحث إن كان أحد هناك يعرف شخصًا يدعى تومار.”
“نعم، سموكَ.”
قام کایلانس بطيّ الخريطة، ثم جلس على مكتبه عازمًا على مراجعة المزيد من المستندات.
كان لوييل ينظر إليه بنظرة قلق في عينيه. تمتم في نفسه: “ذکر ديريل أن صاحب السمو لم يستريح بشكل صحيح حتى أثناء حملة الإخضاع، ولم تكن هناك لحظة راحة منذ عودته. مع ذلك، لم أستطع إقناعه بأخذ استراحة. ففي النهاية، كان العمل هو الوقت الوحيد الذي تشرق فيه عينا سموه بالحياة. وبعيدًا عن ذلك….. فعلى الرغم من أفعاله، كان من الصعب رؤية أي شرارة من الحيوية فيه. لا بد أن يكون ذلك بسبب شوقه للسيدة بلانتيه.”
كان لوييل قد أدرك ذلك بالفعل. منذ عودته إلى العاصمة، كان كايلانس يتوق إلى آرييل…
التعليقات لهذا الفصل " 86"