بعد أن غادرت لارييت، بقي آستر في الحديقة وأطلق تنهيدة عميقة. في العادة كان آستر ينتقل بعيدًا بمجرد انتهاء عمله، لكن شيئًا ما في كلماته منعه من المغادرة. على وجه التحديد الكذبة التي قالها للارييت…
[دعينا نُجرّب التنويم المغناطيسي.]
كانت هذه بداية خداعه. لم يستطع آستر حقًا أن يمنحها ما تريده. لم يكن التنويم المغناطيسي مستحيلاً في حد ذاته، كان آستر ينوي القيام به بعد غد.
تمتم آستر في نفسه: “لم أكن أنوي السماح لها بمواجهة الرجل في أحلامها كما كانت تأمل.”
وبدلاً من ذلك، وكما وعدها، زوراً، خطط آستر للتلاعب بأحلامها من خلال التنويم المغناطيسي. ليُساعدها على التخلي عن الرجل، ليُقنعها بأنه ليس سوى وهم وقطعة لا معنى لها لا تستحق التمسك بها.
تمتم آستر في نفسه: “لأن أحلامها لم تكن مجرد كوابيس، الرجل في أحلامها لم يكن وهما كما أخبرتُها… بل كان الأرشيدوق الأكبر سايارد. منذ اللحظة الأولى التي ذكرت فيها لارييت أحلامها، كنتُ أشك في أنه هو. ولم تكن أحلامها مجرد كوابيس، بل كانت عبارة عن أجزاء من ذكريات السيدة بلانتيه المختومة، والتي ظهرت على السطح دون وعي. في البداية، لم أكن قلقًا للغاية. لم يكن من الغريب أن تتسلّل الذكريات المختومة إلى اللاوعي بسهولة. حتى لو رأت بعض الأحلام، كنتُ أعتقد أنها إذا اتبعت نصيحتي وتناولت الدواء، فستعود إلى استقرارها بسرعة. ولكن تبيّن أن افتراضي كان خاطئًا. أصبحت لارييت متورطة في الأحلام لدرجة أنها كذبت بشأن تناول الدواء وحاولت حتى إبعاد نفسها عني. لم يكن الأمر كما في المرة الأولى، عندما قبلتني كأخ لها دون تردّد. لقد تمَّ إعادة بناء ذكرياتها بشكل مثالي وقد تكيّفت بسلاسة مع حياتها الجديدة كلارييت. لكن هذا كان يحدث، هذا يعني أن إرادة السيدة بلانتيه لم تكن هي المسيطرة، بل إرادتها المكبوتة التي بدأت تطفو على السطح. وكانت أقوى بكثير مما توقعتُه. لم أكن أعلم لماذا بدأ ختمها يضعف فجأة بعنف، لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا. إذا تُركت دون رادع، فإن العقل الباطن للسيدة بلانتيه سوف يُدمّر حتمًا ذكريات لارييت. لم يكن بإمكاني أن أدع ذلك يحدث. لقد كانت في يوم من الأيام على استعداد لمحو كل ذكرى من حياتها كآرييل بلانتيه، حتى حُبّها للأرشيدوق الأكبر، لدرجة التضحية بحياتها. من غير الممكن أن ترغب امرأة اتخذت مثل هذا الاختيار في أن تُصبح السيدة بلانتيه مرة أخرى… أليس كذلك؟”
ولهذا السبب قرّر آستر أنه من الضروري التدخّل في أحلامها مرة أخرى. وكما فعل من قبل عندما اكتشف السبب الذي دفع آرييل إلى إلقاء نفسها في البحر، فإنه سيُساعدها الآن.
فكر آستر: “سأفعل ما اعتقد أنها تُريده. ولكن لماذا كان قلبي ثقيلاً هكذا؟”
على عكس ما حدث من قبل، لم يتمكن آستر من إسكات الشك المتبقي في ذهنه.
نفس السؤال الذي سأله ثيودن ذات مرة.
[هل هذا ضروري حقًا؟ هل تعتقد حقًا أن هذا هو التصرّف الصحيح يا سيدي؟]
ظلّ السؤال يُطارد آستر: “هل كان هذا حقًا أفضل شيء للسيدة بلانتيه؟ لقد سلبتُها فرصة أن تصبح السيدة بلانتيه، هل كان من الصواب أن أفعل ذلك مرة أخرى؟ ماذا لو لم يكن كسر الختم خطأ؟ ماذا لو كانت إرادتها الحقيقية، رغبة صادقة في استعادة هويتها؟ لو كان الأمر كذلك… ألن يكون تدخّلي خاطئًا تمامًا؟”
تنهد آستر بعمق، وكانت أفكاره مثقلة بعدم اليقين. رغم شكوكه، لم يستطع ترك الأمور على حالها. تمتم في نفسه: “لو تلاشت ذكريات لارييت وعادت ذكريات السيدة بلانتيه، مما يؤدي بها إلى اليأس ورفض واقعها….. لم أستطع أن أتحمّل ذلك. إذا كانت هي التي تحمل مثل هذا التشابه المذهل مع فايلين انهارت في عذابها وألقت باللوم عليَّ… لا أستطيع أن أسمح بحدوث ذلك.”
أغمض آستر عينيه بإحكام وابتلع أنفاسه المرتعشة. تمتم في نفسه: “عندما أطلقتُ عليها اسم لارييت، قطعتُ وعدًا بأن أحميها مهما كلّف الأمر. لن أخسرها، كما فعلتُ مع فايلين.”
لقد كان آستر قد بدأ بالفعل في التفكير فيها كأخته، ولهذا السبب كان قادرًا على منحها الكثير من حمايته ومودّته الحقيقية.
فكر آستر: “لقد كان الأمر بعيدًا جدًا للعودة الآن. نعم… هذا هو القرار الصحيح.”
تردّد تحذير في ذهن آستر: “هذه المرة قد يؤدّي الأمر إلى الندم. لقد تصرّف كل من لارييت والأرشيدوق الأكبر بالفعل بما يفوق توقعاتي. إنهما يفرضان هذا عليّ.”
لكن آستر هزّ رأسه ودفع الفكرة جانبًا.
عازمًا على حماية لارييت مجددًا، أخذ آستر نفسًا عميقًا وفتح عينيه. اختفى الغموض الذي كان يلفُّ عيونه الزرقاء الثاقبة.
عازمًا على ذلك، قام آستر بتفعيل جهاز الاتصال الموجود على أذنه.
“نعم سيدي رئيس برج السحر.”
جاء صوت ثيودن.
وبنبرةٍ حازمة لا تتزعزع، أعطى آستر أمره.
“ثيودن، كما ذكرتُ هذا الصباح، سأجري التنويم المغناطيسي على لارييت بعد غد. تأكد من أن كل شيء جاهز.”
“هل هذا ضروري حقًا يا سيدي؟ كلما فكرتُ في الأمر، ازداد اعتقادي بضرورة الامتناع عن التدخّل في حياة السيدة بلانتيه…..”
“هي الآن لارييت. اختارت السيدة بلانتيه إنهاء حياتها، ومنذ تلك اللحظة أصبحت لارييت. عليّ حمايتها.”
قوبل صوت آستر الجليدي بصمت قصير من ثيودن.
في هذا الصمت، شعر آستر بالذنب الثقيل يثقل كاهله، لكنه اختار الاستمرار بغض النظر عن ذلك.
“لهذا السبب يجب القيام بذلك. يجب أن نُعيد ذكريات لارييت إلى وضعها الطبيعي قبل وصول الأرشيدوق الأكبر بعد عشرة أيام.”
بعد وقت قصير من إرسال برج السحر رسالة التهنئة بتولي الأرشيدوق الأكبر عرش الإمبراطورية، وصل رد سريع على غير العادة. كان التوقيت مُفاجئًا، إذ كان الأرشيدوق الأكبر قد عاد لتوّه إلى العاصمة. وكان الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو محتوى رسالة الأرشيدوق الأكبر، الذي انحرف عن توقعات آستر وتركه مضطربًا بعض الشيء.
(شكرًا لتهنئتكَ الكريمة. أما بالنسبة لاتفاقية غابة الوحوش الغربية، فأودُّ زيارة برج السحر شخصيًا بعد عشرة أيام لمناقشة الأمر بمزيد من التفصيل. لديّ أيضًا بعض الأمور التي أودُّ مناقشتها معكَ مباشرة، يا سيد برج السحر. أتطلّع إلى رؤيتكَ حينها.)
ونظراً لطبيعة حملة الاخضاع الأخيرة، فقد افترض آستر بطبيعة الحال أن الأرشيدوق الأكبر سيرسل شخصاً آخر في مكانه.
تمتم آستر في نفسه: “لم أتوقع زيارة الأرشيدوق الأكبر إطلاقا، خاصةً بعد رفضي القاطع لدعم حملة الاخضاع. كنتُ متأكدًا من أنه ربما مستاءً، لن يكون لديه سبب للمجيء. ومع ذلك، ذكر الأرشيدوق الأكبر أن لديه سؤالًا… سؤالاً مهمًا بما يكفي لتبرير زيارة شخصية. مهما كان، فقد أوضحَ أنه سيأتي إلى برج السحر خلال عشرة أيام. ورغم أنني وجدتُ الزيارة غير مريحة، إلّا أنه لم يكن لديه مُبرّر لرفضها. باعتباري سيد برج السحر، كانت فرصة التفاوض على تجارة الموارد من غابة الوحوش الغربية بالغة الأهمية ولا يمكن تجاهلها. بالطبع… بصفتي أخ لارييت، أتمنى أن أتمكن من منع زيارة الأرشيدوق الأكبر تمامًا.”
بدلاً من ذلك، قرّر آستر التأكد من أن تكون لارييت بعيدة قدر الإمكان عن المبنى الرئيسي خلال تلك الفترة.
تمتم آستر في نفسه: “بكل الوسائل المُمكنة، سأضمن عدم لقاءهما، حتى لو كان صدفة.”
وبينما كان آستر يفكر في المكان الذي سيرسل لارييت إليه، وتنهد بهدوء، تحدّث ثيودن أخيرًا، الذي كان صامتًا حتى تلك اللحظة.
“مفهوم. لكن يا سيدي، هذه ستكون المرة الأخيرة.”
“المرة الاخيرة؟”
“نعم. إذا سنحت لها فرصة العودة إلى السيدة بلانتيه مرة أخرى، فلن أمنعها. حتى لو كان ذلك بأمر من سيدي رئيس برج السحر، فلا ينبغي لأحد أن يتحدّى القدر.”
أجاب ثيودن ببرود، وقطع الاتصال أولاً، وهي المرة الأولى بالنسبة له. لقد كان خيبة أمله فيه واضحة.
أنهى آستر المكالمة وأخذ نفسًا عميقًا لتخفيف الثقل في صدره، الذي شعر به وكأن حجرًا يضغط عليه.
“القدر، هاه…”
وبينما كان آستر يزفر ببطء، كان وجهه يكشف عن قلق عميق يتناقض مع قراره السابق.
لقد بدأ يقين آستر يتزعزع…
وبعد أسبوع، في عاصمة إمبراطورية بنتيوم. على الرغم من أن الوقت كان متأخرًا، إلّا أن العاصمة كانت لا تزال مُضاءة بشكل ساطع. ربما أصبح المهرجان الذي يبدو أنه لا ينتهي أبدًا مرهقًا الآن، لكن الناس كانوا لا يزالون يحتفلون بوجوه مبتسمة. وبعد كل هذا، لم يتبقّ سوى يومين على انتهاء الاحتفالات. كلما اقتربوا من النهاية، كلما احتفلوا بحماس أكبر.
انضم الجميع، الجميع باستثناء واحد. كان هذا الرجل الوحيد يشقُّ طريقه عبر قلب الاحتفالات. كان الرجل يجلس في عربة، ينظر إلى الوجوه المبتهجة خلف النافذة، وكان تعبيره هادئًا وغير مبالٍ، على النقيض تمامًا من تعبيراتهم. ومن الغريب أنه كان هو الذي كان لديه الكثير للاحتفال به.
أُقيم هذا المهرجان الذي استمر عشرة أيام تكريماً لهذا الرجل. كان احتفالًا بالأرشيدوق الأكبر سايارد، صعوده إلى التسامي وحملته الناجحة ضد الوحوش الشيطانية. وبمجرد أن تلقّى الإمبراطور الخبر، أمر بفتح مخازن الحبوب الملكية وتوزيعها في جميع أنحاء العاصمة، إلى جانب إصدار مرسوم بإقامة مهرجان كبير.
وكان فرح الإمبراطور ملموسًا. حتى أن كبير المرافقين مازح بأن الإمبراطور بدا أكثر فرحًا مما كان عليه عندما حصل على العرش بعد عملية التطهير الناجحة. ومن شدة سعادته، لم يدّخر الإمبراطور أي جهد في تنظيم المهرجان، حيث دفع كافة التكاليف من الخزانة الإمبراطورية. على الرغم من أن تكلفة المهرجان كانت كبيرة، إلّا أن العائلة الإمبراطورية لم تكن مُثقلة بسبب الموارد الوفيرة التي اكتسبتها من إخضاع كايلانس المنتصر لغابة الوحوش الغربية. وكانت الغنائم وفيرة للغاية إلى درجة أنها كانت أكثر من كافية لكي يكون الإمبراطور كريمًا بها مع الاحتفاظ بفائض. ولم تُساهم هذه البادرة إلّا في زيادة فرحة النبلاء والمواطنين الذين احتفلوا بانتصار الأرشيدوق الأكبر بحماسٍ شديد. وقد اعتبروه إنجازا سيُسجّل في التاريخ.
وعند عودته، استقبل الإمبراطور كايلانس شخصيًا ورحّب به وسط هتافات لا حصر لها من المواطنين الذين تجمّعوا في شوارع العاصمة. حتى أطفال الأحياء الفقيرة نسوا جوعهم في غمرة حماسة تلك اللحظة.
ولكن على الرغم من الترحيب والتكريم الذي حظيَ به من كل البلاد، فإن كايلانس الذي كان محور كل هذا ظلّ بعيداً كل البعد عن البهجة. لم يحضر حفلات العودة إلّا لفترة وجيزة ومن باب الرسمية، على الرغم من كونه ضيف الشرف، وكان دائمًا أول من يغادر. ولم ينتبه كايلانس إلى النظرات المُعجبة التي وجّهها إليه النبلاء والشابات الذين اقتربوا منه. شعر البعض بالندم وهم يشاهدونه، بينما شعر آخرون بالحيرة، غير قادرين على فهم لامبالاته.
ولكن ماذا عساهم أن يفعلوا؟
بالنسبة لكايلانس، لم تكن الاحتفالات الباذخة ولا الانتصار الذي حقّقه يجلب له أي شعور بالسعادة…
♣ ملاحظة المترجمة: ماذا تعتقدون بشأن تصرّف آستر؟ هل تؤيدون ذلك أم لا؟
وماذا تعتقدون بشأن كايلانس الآن؟ طلبتم أن تروا ندمه وعقابه، هل ترون أنه كافٍ أم لا؟
التعليقات لهذا الفصل " 85"