الفصل 98: لأنك ظللتِ تحدقين به طويلاً
بعد أن غادرت هيلينا برفقة كارسين ورفاقه.
“أخي، هذا فعلاً لذيذ.”
“كلي على مهل، هناك المزيد هنا.”
كان هاربر وليلي يتقاسمان الطعام بودّ.
“آه؟ عمّي!”
وفجأة، ابتسمت ليلي بفرح وركضت نحو رجل ما.
“ليلي! كم مرة قلتُ لكِ ألا تناديه عمّاً!”
أمّ الطفلين ارتبكت، وسارعت بالاعتذار.
“أعتذر يا سيدي، أنبّهها في كل مرة لكنها لا تنتبه…”
“لا بأس. لا مشكلة.”
كان واضحاً أنّ الرجل النبيل قد اعتاد مثل هذه المواقف، فبادل الطفلة التحية.
“عمّي! لماذا جئت بعد كل هذا الغياب؟ ألم تفتقدني؟”
“بالتأكيد افتقدتكِ. لكنني كنت مشغولاً بالعمل فلم أجد وقتاً للمجيء.”
“وهل انتهيت من عملك الآن؟”
“همم… تقريباً.”
“إذن، عليك أن تأتي لزيارتنا كثيراً من الآن فصاعداً.”
“حسناً، أعدك.”
حين حصلت على وعد منه، ابتسمت ليلي برضا. ثم أشارت إلى العصا التي كان يتكئ عليها.
“هذا… هل ما زلت تتألم؟”
“لا، لا أشعر بأي ألم الآن.”
“الحمد لله.”
ثم التفت الرجل حوله وقال:
“على ما يبدو أنكم استقبلتم ضيوفاً؟”
نظر إلى المائدة فوجدها ممتلئة بأطعمة نادرة مثل الجبن والدجاج والبيض. وإلى جانبها بطانيات ولوازم لمقاومة البرد.
كانت تلك هدايا بعث بها كارسين عبر موريتس.
وبفضلها، عاش الناس لحظة فرح نادرة، يأكلون ويغنّون ببهجة.
“هاه… وصلت متأخراً إذن. لم تعد هداياي ذات نفع.”
إذ بيده أيضاً سلة مشابهة.
“آه… ذلك الأخ الفضي الشعر أعطانا هذه الهدايا قبل قليل.”
قالت ليلي، فارتسم الاهتمام في عيني الرجل.
“الأخ الفضي الشعر؟”
“حتى هذه الدمية أهداها لنا!”
ورفعت ليلي دميتها الدب لتريه. ثم راحت بحماس تروي كيف التقت هي وهاربر بهيلينا وكارسين عند متجر الفطائر، وكيف أنقذاهما من الأشرار الذين حاولا أذيتهما.
“أشرار؟ كاد الأمر أن يتحول إلى كارثة إذن… هل هؤلاء هم من جرحوا وجهك يا هاربر؟”
قطّب الرجل جبينه.
“لا بأس، لم يؤلمني كثيراً. لكن لو رأيتهم بنفسك، عمّي، لأعجبت بهم. كانوا حقاً أشخاصاً رائعين.”
“أه… حتى أنتَ تقول هذا، يا هاربر؟”
تعجّب الرجل، إذ كان هاربر نادراً ما يمدح الغرباء، بل حتى حين تعلّق به لم يكن يفتح قلبه بسهولة.
ازداد فضول الرجل أكثر.
“لكن… أعتذر يا عمّي.”
“مم؟ عن ماذا؟”
“ذهبت إلى متجر الفطائر كما طلبت منّي، تقريباً كل يوم… لكنني لم أرَ السيدة التي تحدثت عنها.”
“آه… لا تقلق. لم يعد هناك داعٍ لزيارة ذلك المكان.”
“لكن… ألم تكن تبحث عن شخص مهم؟”
ابتسم الرجل ابتسامة غامضة وقال:
“وربما قد وجدتها بالفعل.”
* * *
عندما عاد كارسين إلى القصر بعد أن افترق عن هيلينا، رجع إلى جناحه الخاص.
طَق.
أغلق موريتس الباب خلفه، ثم لم يستطع كبح لسانه.
“مولاي! ألم تقولوا إنكم ستكتفون بجولة في السوق؟ كيف انتهى بكم المطاف في ذلك المكان؟ هاه؟”
تذكّر موريتس صدمته حين رآه.
كان قد وعد بالبقاء في الشوارع المزدحمة فقط… فإذا به يقضي وقته في حيّ الأكواخ بين عامة الناس، يضحك ويمرح معهم.
بل والأسوأ أنه، فور رؤيته له، قال له بكل بساطة:
ـــ “أحسنت المجيء. اذهب واشترِ طعاماً يصلح لهم، وأيضاً بعض الأغطية لو وجدت.”
أي طلب غريب هذا!
بالطبع، كان كارسين معروفاً في بلاده بحبه لمخالطة البسطاء، وكرهه العميق للتفرقة الطبقية.
لكن موريتس شعر أن الأمر قد تجاوز حدّه هذه المرة.
“ثم تقول لي أن أترك كل شيء عليك… هل تعلم كم عانيت خلال غيابك، مولاي؟”
رفع يديه يائساً، وكاد أن يصفع ظهر سيده العريض مراراً لولا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة.
كارسين، الذي ظل يستمع بصمت، قال أخيراً:
“أشكرك. أحسنت عملاً.”
“…؟”
توقف موريتس، مرتبكاً من كلمات الثناء.
“ماذا حصل هناك؟”
“لا شيء.”
هزّ كارسين كتفيه، ثم سلّمه ورقة.
“خذ. كما وعدت، هذه لك الآن.”
ضيّق موريتس عينيه.
غريب… لم أتوقع أن يسلّمها بهذه السهولة.
“لستَ راضياً؟ لا تريد أخذها؟”
لوّح كارسين بعينيه وكأنه يختبره.
“لا، بالطبع آخذها! لهذا عانيت كثيراً.”
وخطف الورقة بسرعة قبل أن يغيّر سيده رأيه.
وأخيراً شعر بالارتياح.
بينما كان موريتس يتأمل الورقة، غرق كارسين في التفكير بهيلينا.
رغم أحداث اليوم، استمتع كثيراً. بل وجد الأمر منعشاً.
إلا أن شيئاً ما ظل يزعجه…
ـــ “على ما يبدو، لم تكن عملية تولّي العرش عندكم سلسة.”
الكلمات الغامضة التي تبادلتها هيلينا مع تلك المرأة.
لم يقصد أن يتنصّت، لكن حاسته القوية وقدرته على قراءة حركة الشفاه جعلت الأمر سهلاً.
همم… ما العمل إذن؟
وجد نفسه وقد علم نقطة ضعف لعدوّ بلاده.
عادة، لم يكن يخفي شيئاً عن موريتس، الذي كان أقرب المقرّبين إليه. بل كان موريتس سيطير فرحاً لو علم بهذا.
لكنه، لسبب ما… لم يشأ أن يخبره.
ليظل هذا سراً إذن.
والسبب… كان وجه هيلينا، وتلك النظرة المربكة التي لم تغادر مخيلته.
ابتسم بمرارة ثم نهض.
“إلى أين تذهبون، مولاي؟”
“للاستحمام.”
أشار بيده ألا يتبعه، وغادر بسرعة.
موريتس تمتم بدهشة:
“لكن الحمّام موجود داخل الغرفة أيضاً…”
* * *
الممر المؤدي إلى جناح الإمبراطورة.
طَق… طَق…
خطواتنا نحن الاثنين فقط كانت تتردد في الصمت. الجوّ البارد امتلأ بتوتر غامض.
لا أستطيع العودة بهذه الحالة.
توقفتُ والتفتُّ. فتوقف ليونارد أيضاً وحدّق بي.
“هل أنت غاضب؟”
“…لا.”
“لكن يبدو أنك كذلك.”
“…”
صمته كان كافياً ليؤكد لي شكوكي.
منذ أن رآني مع موريتس، ظلّ طوال الطريق صامتاً وهو يرافقني.
كنت أعلم أن صمته مخيف أكثر من أي غضب. فسارعت أقول:
“أنا آسفة… لقد أقلقتك حين اختفيت فجأة.”
بالفعل، كان ذنبي أن تركته خلفي. طبيعي أن يغضب. بل غالباً قد عانى كثيراً وهو يبحث عني.
“أعدك… لن يحدث هذا مجدداً أبداً.”
لكنه قال وهو يهز رأسه:
“ليست جلالتك من يجب أن يعتذر. لستُ غاضباً من جلالتك.”
“…؟”
تطلعتُ إليه بحيرة.
“أنا غاضب من نفسي.”
قالها بهدوء، وتابع:
“خشيتُ كثيراً أن يحدث لكِ شيء وأنا بعيد.”
اقترب مني خطوة.
“لو كان الأمر بيدي… لخبأتك في مكان لا يستطيع أحد الوصول إليك.”
تمتم كأنه يعضّ على كلماته.
“…”
وقبل أن أسأله، مدّ يده الكبيرة وأمسك يدي. أحسست ببرودة معدن يلتف حول معصمي.
رنن…
صدر صوت رقيق.
خفضتُ نظري فرأيتُه:
“آه…”
كان ذلك السوار نفسه الذي رأيته في السوق! عقدة منسوجة يتوسطها حجر أبيض دائري.
تجمد لساني من المفاجأة.
سألني بقلق:
“هل لا يعجبك؟”
لا… بل أعجبني كثيراً.
لكن كيف علم أنني أردته فعلاً؟
“كيف عرفت… أنني كنت أريده؟”
حينها، ابتسمت عيناه بلطف، وقال بصوت دافئ:
“لأن جلالتكِ ظللتِ تحدقين به طويلاً.”
“…آه.”
أخفضت بصري بخجل. لقد كشف مشاعري.
وكلما تأملت السوار، زاد إعجابي به.
ذلك الحجر الأبيض اللامع، كان يضيء كالنجم.
انتظري… ألم يقل البائع إن الحجر لا يضيء إلا إذا كان السواران معاً؟
رفعت عيني بسرعة. ولم أحتج طويلاً للبحث.
لأن يده التي لا تزال ممسكة بيدي… قد ظهرت من تحت كمّه، يتلألأ فيها حجر أسود.
التعليقات