الفصل 86 – رجاءً، لا تكرهيني
قال جيروم وهو يقترب أكثر:
“لقد أمرتُ ألا يدخل أحد، لذا يثير فضولي أن أعرف من تجرأ على خرق أمري.”
اقترب وجهه مني شيئًا فشيئًا. حاولت المقاومة، لكني لم أستطع الإفلات من قبضته. وفي النهاية، أدرتُ رأسي بقوة بعيدًا عنه.
في تلك اللحظة، توقف كل شيء. سكنت حركاته فجأة، لكنني شعرت بنظراته ما زالت مركزة عليّ. لم أجرؤ على النظر إليه، لذلك لم أعرف أي ملامح ارتسمت على وجهه.
وفجأة، سمعت ضحكة قصيرة ساخرة منه، ثم ابتعد عني ورفع جسده. عندها فقط تحررت قبضته عن معصمي، فسارعت بالابتعاد عنه.
لكن لم يمض وقت طويل حتى دوّى صوت صاخب خارج الغرفة.
“توقفوا! لا يمكنكم الدخول الآن!”
كان صوت الخادم يائسًا وهو يحاول منع أحدهم.
ثم سُمعت صرخة:
“آه! لا يمكنكم فعل هذا!”
وبقوة، انفتح الباب بعنف.
كان القادم رجلاً واحدًا، يجرؤ على تحدي أوامر الإمبراطور نفسه. عيناه الزرقاوان تألقتا بصلابة.
شهقت بدهشة:
“السير ليونارد…؟”
لقد عاد.
* * *
في تلك الأثناء، في مقر الفيلق الثاني للفرسان بالقصر.
“آآه! سأموت من الملل!”
صرخ كونراد وهو يتقلب على سريره.
“لا أستطيع حراسة جلالتها، ولا أستطيع حتى الذهاب للتدريب! ما هذا العقاب؟!”
أخذ يضرب وسادته بعنف، حتى بدا الأمر وكأنه يعاقبها ظلمًا. لم يكتفِ بذلك، بل بدأ يلوّح بها كأنها سيف.
قال زميله في الغرفة فيليكس ببرود وهو جالس متأملًا:
“اهدأ، أنت تزعجني.”
صرخ كونراد:
“كيف يمكنك التأمل في مثل هذا الوضع؟!”
ثم أطلق ضحكة ساخرة:
“أترى؟ هذا ما أقوله دائمًا. حماسك نحو جلالتها ضعيف جدًا. ألا تعترف؟”
رد فيليكس بهدوء:
“الغضب لن يغير شيئًا.”
“يا للعجب! رجل مثالي حقًا. لماذا لا تتفرغ للفلسفة بدلًا من المبارزة؟”
لم يرد فيليكس.
فغضب كونراد أكثر وقال:
“آه، حتى لم تعد ترد! هذا يعني أنك خائف مني، صحيح؟”
وفي لحظة، تلقى ضربة وسادة على رأسه.
“آه! هل تجرؤ على الهجوم غدرًا؟!”
التقط كونراد الوسادة، لكن فيليكس كان قد عاد إلى التأمل بهدوء وكأنه لم يفعل شيئًا.
ابتسم كونراد بخبث: “الآن جاء دورك.”
اقترب بخفة، موجهًا الوسادة نحو رأس فيليكس.
“العين بالعين، والوسادة بالوسادة!”
لكن قبل أن يضربه، انفتح الباب فجأة.
وقف الرجل في المدخل، وعيناه الزرقاوان مألوفتان.
شهق كونراد:
“مستحيل… قائدنا!”
سقطت الوسادة من يده، وارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة.
حتى فيليكس، رغم هدوئه، رحّب به باحترام:
“سيدي القائد.”
أسرع كونراد يتحدث بعاطفة:
“حقًا عدتَ إلينا؟ هل تدرك كم انتظرناك؟”
ثم بدأ يتفحصه بعين قلقة:
“هل كنت تأكل جيدًا؟ وجهك صار أنحف… لا تقل إنك أهملت نفسك.”
دفعه ليونارد جانبًا قليلًا وقال:
“قبل ذلك، لماذا ما زلتما هنا؟ ألم يكن من المفترض أن تكونا بجانب جلالتها؟”
أجاب كونراد مترددًا:
“في الحقيقة… تم وضعنا تحت الإقامة الجبرية معًا منذ اليوم.”
ارتفع حاجب ليونارد:
“عقوبة؟ ماذا فعلتما هذه المرة؟”
“لا شيء! أقسم أننا لم نفعل شيئًا!”
سارع كونراد بالنفي.
“لا أجرؤ على ارتكاب حماقة كهذه. لم نُخبر بالسبب، لكن… أعتقد أنه بسبب خروجنا مع جلالتها البارحة.”
ثم لاحظ آثار جروح على يد ليونارد، فعبس بقلق:
“سيدي… ما هذا؟”
قال ليونارد ببرود:
“مجرد إصابة بسيطة.”
لكن فيليكس قطع الحديث فجأة بنبرة جادة:
“سيدي… يجب أن تذهب فورًا إلى جناح الإمبراطور.”
“إلى جناح الإمبراطور؟ لماذا؟”
قال فيليكس بثبات:
“لأن جلالتها هناك الآن.”
تجمدت ملامح ليونارد.
* * *
حين التقت عيناي بعينيه، بدا لي مختلفًا عمّا عهدته. لم يكن مجرد غيابه الطويل… بل الجو المحيط به صار أكثر خطورة.
تواجهت نظراته القوية بعيني جيروم.
قال جيروم ساخرًا:
“تجرؤ على كسر أمر الإمبراطور؟ ألا تخشى الموت؟”
أجاب ليونارد ببرود:
“ما أتيتُ إلا لأن لدي أمرًا عاجلًا. أرجو أن تتفهموا.”
ابتسم جيروم بسخرية:
“إذن فلنسمع ما هو هذا الأمر المهم.”
لكن ليونارد التفت نحوي أولًا وقال:
“مولاتي… هلّا تركتينا قليلًا؟”
* * *
بعد أن عدت إلى جناحي، لم أستطع التركيز في أي شيء. ظللت أتساءل: ما الذي دار بينهما؟
لم أجد جوابًا.
حينها، دخلت ماري متحمسة:
“مولاتي! لدي أخبار رائعة! لقد عاد السير ليونارد، وتم رفع العقوبة عن السير كونراد والسير فيليكس، بل حتى إلغاء قرار فصل سيدريك!”
ابتسمتُ بارتياح:
“حقًا… الحمد لله.”
قررتُ التوجه مباشرة إلى مكتب ليونارد.
وهناك، التقيت بكونراد وفيليكس عند الباب. قال كونراد:
“مولاتي… رجاءً، قولي شيئًا للقائد. إنه لا يسمع منا إطلاقًا.”
لم أفهم مقصده، لكن فيليكس فتح الباب لي وأدخلني.
في الداخل، استقبلني ليونارد بابتسامة هادئة:
“لقد كنتُ في طريقي إليكِ الآن، يا مولاتي.”
بدا أكثر هدوءًا من لقائنا السابق.
سألته بلهفة:
“أين كنت طوال هذه المدة؟”
“كان عليّ إنجاز أمر مهم.”
“ألم يكن من الممكن أن تخبرني على الأقل؟”
ابتسم بخفة:
“سأفعل في المرات القادمة.”
لكن نظري وقع على يده المخفية خلف ظهره. لمحْتُ قطعة قماش بيضاء ملطخة بالدم.
شهقت:
“ليونارد… أنت مصاب؟”
قال بسرعة:
“لا، هذا ليس دمي.”
اقتربت منه، أمسكت بيده قبل أن يمنعني. ورأيت الحقيقة: يده كانت مليئة بجروح عميقة لم تلتئم بعد.
ارتجف صوتي:
“كيف تجرؤ على قول إن الأمر بخير؟ هذا خطير! يجب أن تذهب إلى الطبيب فورًا!”
لكنه أبعد يدي بحدة:
“قلت لكِ إنه لا يهم.”
تجمدت في مكاني، مصدومة من قسوته. بدا أنه ندم فورًا، فأضاف بسرعة:
“قصدي… لا تقلقي، حقًا لست بحاجة إلى علاج.”
لكن صرخت دون أن أشعر:
“وكيف لا أقلق؟! غبتَ أكثر من شهر دون أي خبر، ثم عدتَ مصابًا ومغطى بالدم! كيف لا أقلق؟!”
لم أستطع كبح دموعي أو صوتي المرتجف.
قلت بمرارة:
“كنتُ أظن أننا… على الأقل نهتم ببعضنا. لكن يبدو أنني كنت مخطئة.”
أدرتُ ظهري بسرعة، لا أريد أن يراني أضعف.
لكن فجأة، أحاطني ذراعيه بقوة. سحبني إلى صدره، ويده الكبيرة لامست عنقي بلطف، قبل أن يُطبق شفتيه على شفتيّ في قبلة حارة.
ارتجف جسدي تحت لمسته، لكن الدفء الذي منحني إياه بدّد اضطرابي، وبدلًا من مقاومته وجدت دموعي تنهمر أكثر.
حين ابتعد أخيرًا، مرر أصابعه ليمسح دموعي بحنان وقال:
“أعتذر… لأني تركتكِ قلقة. أعتذر لأني عدت مجروحًا. إن كنتِ تريدين، سأعتذر ألف مرة.”
ثم نظر في عيني بعمق، وصوته ارتجف قليلًا:
“فقط… أرجوكِ، لا تكرهيني.”
التعليقات لهذا الفصل " 86"