الفصل 83 — الساحر الذي يُزهِرُ الزهور (2)
دقّ دقّ… ارتفعت خفيفةً أصوات حوافر الخيل مع انطلاق العربة.
جلس سيدريك مقابلي، وقال بصوتٍ يحمل شيئًا من الانزعاج:
«الموعد، في الأصل… يكون بين شخصين فقط.»
كان يرمق النافذة بعيونٍ متحسّرة. اتبعتُ نظره، فإذا بـكونراد وفيليكس يمتطيان خيولهما إلى جانب العربة.
«……؟»
التفت كونراد فجأة وكأنه شعر بنظراتنا، ثم ابتسم ولوّح بمرح. ازداد وجه سيدريك تعكّرًا، بينما لم أتمالك إلا أن ابتسمت لألطّف الجو.
«اعذرني. تعلم أنّ كونراد شديد التمسك بالحراسة. أصرّ على المجيء معنا ولم يقبل بالانسحاب.»
أجاب سيدريك بحزم:
«إن كان الأمر يتعلّق بحمايتك، فأنا وحدي كافٍ.»
«هكذا تظن؟»
«أجل، وأعني ما أقول.»
ابتسمت بخبث وقلت:
«بالطبع… فأنت حارس الخُضرة الشهير.»
…! في لحظة، احمرّت أذناه حتى الجذور.
تمتم مرتبكًا: «أنتِ تقولين ذلك عمدًا لتسخري مني، أليس كذلك؟»
«أبدًا… حارس الخُضرة.»
«آه… يا صاحبة الجلالة!»
ضحكتُ بصوت عالٍ، فاشتدّ حُمرة وجهه.
«تعلم، كلّما بالغ الطرف الآخر في ردّ الفعل… ازداد إغراء المزاح.»
ضحكتي تلك كانت صافية وخفيفة، شعرت معها أنّ صدري قد انشرح منذ زمنٍ لم أشعر بمثله. كان قرار الخروج معه اليوم قرارًا صائبًا.
كما أن… هناك شيئًا أريد أن أهديه إياه. نظرت للحظة إلى الصندوق في مؤخرة العربة.
قطع أفكاري سؤاله المفاجئ:
«بالمناسبة… مرّ وقت طويل على غياب اللورد ليونارد. أما زال بلا خبر؟»
«آه…» ارتبكت قليلًا، ثم قلت بابتسامة متكلّفة:
«نعم، لم يصلني منه أيّ شيء.»
«ولا تعرفين ما شغله؟»
«لا، إطلاقًا.»
أطرق برهة ثم قال بجديّة:
«إذن أمرٌ يخفيه حتى عنكِ…»
رفع بصره فجأة، وعيناه تشعّان بجديةٍ غير معهودة:
«لا تقلقي. أنا لن أخونكِ أبدًا.»
«ها؟ خيانة؟!»
تلعثمت للحظة أمام قسمه المفاجئ. ثم قلت سريعًا: «أ- أجل، هذا… أمرٌ محمود.»
(ولم أعلم إلا لاحقًا أنّه كان يقصد ليونارد بكلامه ذلك).
* * *
في مكانٍ آخر، في حانةٍ يافطتها تقول: «كُلْ ثم مُتْ»، والتي لم تكن في حقيقتها إلا مخبأً سريًا تديره جماعة ليونارد.
جلس نوكس، الرجل في منتصف العمر، بجوار ليونارد، وزفر:
«سيدي… ألا نخشى أن ينقلب كل هذا علينا؟ لا تُفكّر حقًا في محو كل نقابات الاغتيال في الإمبراطورية؟»
أكثر من عشر نقابات انهارت بالفعل. ومجرّد استفزاز واحدةٍ منها كان كافيًا لإشعال جحيم مطاردة.
لكن ليونارد قال بهدوء بارد: «هل تخاف؟»
لوّح نوكس بيده بمرارة: «إن كنت أخشى أحدًا، فليس سوى أنت.»
وفي تلك اللحظة دخل أكسيون، ذو العين الواحدة، وقدّم تقريرًا مفصّلًا.
قلب ليونارد الأوراق سريعًا حتى توقّف عند الاسم الأخير. حدّقت عيناه الضيّقتان في الصفحة طويلاً.
«هذا الاسم… أكيد؟»
قال أكسيون بثبات: «نعم، تأكّدت أكثر من مرة.»
ألقى نوكس نظرة، فتجمّدت ملامحه:
«مستحيل! هذا الاسم بالذات؟ لا يمكن! كل الإمبراطورية تعرف كم يعزّ ابنته، فمَن يجرؤ على انتحاله؟!»
ظلّ ليونارد صامتًا قليلًا، ثم قال ببرود:
«لنحسم الأمر حين نلتقي به وجهًا لوجه.»
* * *
توقّفت العربة أخيرًا. تركنا كونراد وفيليكس عند المدخل، معلنين أنّهما سيبقيا على مقربة لحمايتنا.
(لا أدري أكان ذلك باتفاق أم لا، لكنّ غيابهما جعل ملامح سيدريك أهدأ بكثير).
قادني إلى أعماق الغابة. وما هي إلا لحظات حتى انكشف أمامي مشهد مهيب: سهل مترامٍ تغطيه الأزهار، ينساب بجواره جدول، وتتناثر الفراشات بين الألوان.
شهقتُ مبهورة: «ما أروعه!»
سأل بخجل: «أأعجبكِ؟»
«جماله يفوق الوصف… شكرًا لك يا سيدريك.»
سرنا بين الأزهار. عند قدميّ وجدتُ برعمًا بنفسجيًا صغيرًا سقط قبل أن يتفتّح. التقطتُه متحسّرة:
«لو طال به العمر قليلًا… لأزهَر.»
اقترب سيدريك وقال: «اسمحي لي.»
غطّى يدي بكفّيه الكبيرتين، فأضاء بين أصابعه نورٌ دافئ. وما هي إلا لحظات حتى تحوّل البرعم إلى زهرةٍ متفتّحة.
اتسعت عيناي وانفرجت شفتاي بابتسامة:
«مذهل! لم أكن أعلم بوجود مثل هذا السحر!»
لكن سيدريك أجاب بهدوء:
«الزهرة التي تُستدرج بالسحر لا تعيش طويلًا… نصف عمر الزهرة الطبيعية فقط.»
تردّدت: «إذن… لماذا استخدمتَه الآن؟»
ابتسم بهدوء: «إن أردتِ أن تعرفي السبب… أغمضي عينيكِ لحظة.»
أغمضتُ عيني دون تردّد. وفجأة شعرت بلمسةٍ دافئة، خفيفة على جبيني. فتحت عينيّ مرتبكة، فرأيته يبتسم، وقرطه الأبيض يتلألأ، وعيناه الذهبيتان تحدّقان بي.
قال بصوتٍ خجولٍ صادق:
«لأنّ هذا اليوم… يومٌ مميّز.»
التعليقات لهذا الفصل " 83"