الفصل 79 – “سأذهب بدلاً منك”
“تقول إنك لا تتذكر؟”
ابتسم جيروم بسخرية.
من الواضح أن ادعاؤه بعدم معرفة ما حدث كذب.
كانت تلك الليلة الأخيرة من مهرجان التأسيس.
صحيح أنه شرب عدة زجاجات من ذلك الخمر اللعين، لكن كل شيء لا يزال محفورًا في ذاكرته بوضوح.
لماذا قلت ذلك الكذب الغريب…
مسح جيروم وجهه براحة يده.
حتى هو نفسه لم يعرف لماذا نطق به.
كانت كلمات خرجت بدافع لحظة عابرة، بلا تفكير.
خفض نظره نحو يده.
كانت أصابعه الطويلة تدير برفق صندوقًا صغيرًا للموسيقى.
يداه، المعتادتان على القوة، تحركت بحذرٍ غير مألوف.
♩♬♩
ارتفع اللحن الناعم، وجعل جيروم يغلق عينيه.
ـ “كيف حصلتِ على هذا…؟”
ـ “كنتُ هنا صدفة، فاكتشفت وجوده.”
مع أنغام الموسيقى، طفت على السطح ذكرى تلك الليلة بوضوح.
ـ “صدفة؟”
ـ “نعم، صدفة… حقًا صدفة بحتة.”
حتى ملامح هيلينا وهي تقولها ما زالت حيّة في ذاكرته.
“كيف عرفتِ أصلاً أن هذا المكان يحوي صندوق موسيقى؟”
تجعد جبين جيروم.
كلما فكر أكثر، زادت حيرته.
الموسيقى توقفت.
وفي تلك اللحظة، سُمِع طرق خفيف على الباب.
طرق، طرق.
حتى قبل أن يأذن، فُتح الباب بهدوء.
“جلالتك، كنت هنا.”
التي دخلت كانت فَيّ.
“يا إلهي، ما هذا المكان؟ لم أكن أعلم أن في القصر غرفة مثل هذه.”
قالت وهي تتأمل الغرفة بعينيها المتسائلتين.
ثم ابتسمت وتقدمت نحوه بخطوات رقيقة.
“ما الذي كنت تفعله هنا؟”
جيروم لم يرد.
كان يحدق فقط بما في يده.
ما الذي يراه هكذا…؟
اتجه نظر فَيّ إلى ما يمسك به.
“هذا… صندوق موسيقى، أليس كذلك؟”
كان قديماً واضحًا أن أيدٍ كثيرة قد مرّت عليه.
مدّت فَيّ يدها بفضول لتلمسه.
لكن يدها لم تصل إليه.
فقد سحب جيروم الصندوق خلفه فجأة.
شهقت فَيّ بدهشة.
مرة أخرى…
كان يرسم خطًا خفيًا بينها وبينه.
شعرت كأن شيئًا حادًا يضغط على قلبها.
رفعت يدها لتضغط على صدرها، ثم حاولت أن تسأل: ما الذي يجعلك تتمسك به هكذا…؟
لكن جيروم تكلم قبلها.
“ماركيز نيكلاد.”
“نعم، جلالتك.”
ظهر نيكلاد، الذي كان ينتظر خارج الغرفة.
“قلت لك ألا تسمح لأحد بالدخول إلى هنا.”
صوته كان باردًا.
انحنى نيكلاد بسرعة:
“أعتذر، جلالتك. لكن… صاحبة السمو كانت مصرّة على الدخول، وأنا―”
“أنا التي رجوت منه ذلك، جلالتك. لا تلومه.”
قاطعتهم فَيّ بسرعة.
“سامحني… اشتقت إليك كثيرًا، فلم أتمالك نفسي…”
كانت عيناها تلمعان، وعلى وشك أن تبكي.
“أنت تعلم ما يقوله الناس عني هذه الأيام. أخاف أن أخرج من غرفتي.”
خفضت رأسها أكثر.
“لذا… قلبي مضطرب، ولم أجد غيرك لألجأ إليه…”
ارتجفت يداها وهي تشد على طرف ثوبها.
وفجأة، التفّت يد قوية على يدها المرتعشة.
رفعت رأسها بصدمة، لترى عينَي جيروم تنعكس في عينيها الخضراء الدامعة.
“لا تهتمي بما يقوله الناس. دائمًا سيكون هناك من يريد الاصطياد في الماء العكر.”
قالها بصوت لطيف، كما اعتادت أن تسمعه منه.
“وإن كنت لا تزالين منزعجة، فسأرسل من يُخرسهم.”
توقف ارتجافها، وهدأت دموعها شيئًا فشيئًا.
“حقًا… ستفعل ذلك من أجلي؟”
“نعم.”
“تعدني؟”
“أعدك.”
أومأ بثقة.
زفرت فَيّ بارتياح، ثم ارتمت في حضنه.
“شكرًا لك… حقًا لا أحد غيرك بجانبي، جلالتك.”
لكن داخلها، بقي ذلك الوخز المؤلم في صدرها.
بعد أن غادرت فَيّ، استدعى جيروم نيكلاد مجددًا.
نيكلاد توقّع توبيخًا حادًا بسبب ما حدث.
فهو يعرف جيروم، لا يتسامح مع الأخطاء.
لكن جيروم قال بهدوء:
“ماذا تفعل الإمبراطورة الآن؟”
“…عفواً؟”
اتسعت عينا نيكلاد.
لم يكن هذا السؤال ضمن أي توقع.
“في هذا الوقت، من المفترض أنها أنهت اجتماعها وعادت إلى جناحها.”
“أرى.”
“هل تريد أن أستدعيها إلى هنا، جلالتك؟”
هز جيروم رأسه.
“إذن… لماذا؟”
تردّد نيكلاد قبل أن يسأل، ثم سمع ما لم يتوقعه:
“يبدو أن هناك من يستهدف الإمبراطورة.”
“ماذا؟! من يجرؤ على ذلك؟ وكيف عرفتَ، جلالتك؟”
“هي نفسها أخبرتني.”
“الإمبراطورة؟!”
ارتبك نيكلاد أكثر.
“اسمح لي… لكنك لا تنوي تصديقها، أليس كذلك؟”
سكت جيروم.
“ربما ادّعت ذلك فقط، لتستحوذ على اهتمامك.”
أكمل نيكلاد بجرأة.
تذكر ماضي هيلينا يجعل الأمر ممكنًا جدًا.
لكن جيروم ظل صامتًا، مغمض العينين.
فهم نيكلاد الإشارة، فانحنى مجددًا.
“سأباشر التحقيق فورًا، جلالتك.”
في وقت متأخر من الليل.
كان القصر غارقًا في الصمت، إلا من قلة من الخدم المناوبين.
في الإسطبل الملكي، جلس كونراد متخفّيًا في الظلال، يترقب.
لماذا لم يأتِ بعد…؟ هل غادر بالفعل؟
تململ بقلق.
لكن بعد قليل…
صرير الباب.
“أخيرًا!”
حبس أنفاسه وهو يترقّب.
خطوات ثابتة دخلت.
لا تردّد فيها.
تمامًا كما توقعت…
حين يقترب ويمسك جواده، سأنقض عليه!
ابتسم بخبث وهو يجهّز نفسه.
لكن الخطوات… لم تبتعد.
بل اتجهت نحوه مباشرة.
حتى توقفت أمامه.
ظل طويل غطّى جسده المنكمش.
ابتلع ريقه، ورفع رأسه ببطء.
“ماذا تفعل هنا؟”
“…!”
صوت بارد انحدر فوقه.
لقد كُشف.
لا يمكن… كيف شعر بوجودي بهذه السرعة؟!
تظاهر بالهدوء، ثم ابتسم بوقاحة:
“هاها… كما توقعت، لا يفوتك شيء يا قائد.”
وقف ومسح الغبار عن ملابسه، كأن شيئًا لم يكن.
ليونارد، القائد، كان يحدق به ببرود.
“سألتك، ماذا تفعل هنا يا كونراد.”
“أنتظرك، طبعًا.”
“تنتظرني؟”
“بالضبط. عندي سؤال.”
“قل.”
“هل حدث لك شيء؟”
“لا شيء.”
“لا شيء؟ لكنك تغيّرت مؤخرًا. تغادر القصر كثيرًا، وهذا لم يحدث من قبل.”
رفع ليونارد حاجبه.
“يبدو أنك تملك وقتًا لتلاحقني بدلًا من التدريب.”
“هاها، قاسٍ كالعادة.”
لوّح كونراد بيده.
ثم أصبح جديًا:
“هل تنام جيدًا على الأقل؟”
ليونارد لم يرد.
فابتسم كونراد مرًا:
“طبعًا لا. أراك تحرس جلالتها، ثم تخرج مجددًا وتعود لتباشر عملك مع الفرسان. لا أحد يستطيع تحمل ذلك طويلاً.”
“إذن، ماذا تريد؟”
“دعني أذهب بدلاً منك.”
“مستحيل.”
“إن واصلت هكذا، ستسقط في النهاية. حتى أنت، قائد.”
“هذا لا يخصك.”
ليونارد قاطعه بصرامة.
“لا يخصني؟ هذا مؤلم… أنا أكثر الفرسان ولاءً لك.”
كونراد ابتسم، لكنه لم يتراجع.
تنهد ليونارد.
“ما قصدته… أن هذا لا علاقة له بالفرسان. لن أجرّكم إلى هذا.”
“آها.”
ابتسم كونراد وكأنه فهم.
“إذن الحل بسيط. سلّمني مهمة حراسة جلالتها. هكذا تتفرغ لما تفعله.”
“…ماذا؟”
تجعد جبين ليونارد.
بدا وكأنه لامس وترًا حساسًا.
ضحك كونراد بخفة:
“لا تقلق، ليس لسبب آخر. فقط لتوزيع الأعباء. إما أن تعطني وجهتك، أو تدعني أتولى المهمة.”
ليونارد ظل مترددًا.
لكن كلمات كونراد كانت منطقية.
تذكر كلمتها في الصباح:
“هل يحدث لك شيء سيء مؤخرًا؟”
أغمض عينيه بقلق، ثم تمتم:
“…كونراد.”
اقترب منه الأخير، بعينين متوسلتين:
“أرجوك، دعني أساعد.”
وأخيرًا…
رفع ليونارد رأسه، وقد حسم أمره.
التعليقات لهذا الفصل " 79"