الفصل 77.
من تكون حقًا؟
دونغ، دونغ، دونغ―
رنّت الأجراس معلنةً منتصف الليل.
إشارةٌ إلى نهاية احتفالات مهرجان التأسيس.
تركتُ جيروم في الغرفة خلفي وخرجت.
حتى لحظة إغلاق الباب، لم يتحرّك قيد أنملة.
أيّ أفكار كانت تجتاحه؟
كان من المفترض أن يُظهر الفرح، فقد عثر أخيرًا على الذكرى التي ظلّ يبحث عنها طوال حياته.
لكن بدلاً من ذلك، بدا هادئًا بشكلٍ يثير الريبة.
في الرواية الأصلية، إن لم تخنّي الذاكرة، لم يقل أكثر من كلمة شكر قصيرة لفيي، بابتسامةٍ خفيفة.
أما الآن، فقد رأيتُ على وجهه شيئًا آخر:
ابتسامة مشوبة بالبكاء، مزيج متضارب من مشاعرٍ لا حصر لها، وكأن الكلمات خانته.
وما زالت تلك النظرة تطاردني حتى وأنا أنزل الدرج.
انتظرني هناك شخص واحد.
“جلالة الإمبراطورة.”
كان ليونارد.
ابتسمت وأنا أقترب:
“انتظرت طويلًا؟”
“أبدًا.”
هزّ رأسه نافيًا.
“آسفة… الحديث طال أكثر مما توقعت.”
“هل حدث لكم شيء؟”
“لا، لا شيء.”
“الحمد لله.”
ابتسم قليلًا، لكن وجهه تجمّد فجأة، وكأن أمرًا لم يَرُقه.
سألته بقلق:
“لماذا؟ هل هناك خطب ما؟”
“… اسمحي لي لحظة، جلالتك.”
مدّ يده نحوي ببطء.
ارتجفتُ من لا وعي حين لامست أصابعه الباردة أذني، تُزيح خصلات شعري.
ثم التقط شيئًا صغيرًا.
“…ورقة شجر.”
تمتم بصوت منخفض.
“آه… لم ألاحظها حتى.”
متى تعلّقت هذه الورقة بي؟
أجل، بالتأكيد عندما دفَعني جيروم فسقطت على الأرض…
ابتسمت وأنا أقول:
“شكرًا لك. لولاك لعدت إلى القصر وأنا لا أعلم بوجودها.”
لم يعلّق.
فتذكرت فجأة وسألته:
“بالمناسبة، هل عثرتم على أولئك الرجال؟”
كنت أقصد أولئك المريبين الذين رأيتهم وأنا عالقة داخل الخزانة.
أجاب ليونارد وهو يهز رأسه نافيًا:
“أمرت الفرسان بالبحث سرًا في كل مكان داخل القصر وخارجه، ولكن…”
“لم تجدوهم، صحيح؟”
“… نعم. أعذروني.”
“لا بأس. كنت أتوقع ذلك.”
ولم يكن ذلك لتطييب خاطره فحسب…
كان لدي يقين حقيقي أنهم لن يُقبَض عليهم.
بل إن شعورًا مُقلقًا تسلّل إلى قلبي:
هذه مجرد بداية.
رافقني ليونارد حتى جناح الإمبراطورة.
هناك، ساعدتني الوصيفات على تبديل ثيابي إلى ملابس مريحة.
وفجأة تذكّرت شخصًا.
“آه… ماذا عن سيدريك؟”
لم أره منذ حُبس مع آيزاك في الخزانة.
وسط كل الأحداث المتلاحقة، كدت أنساه.
حينها، سُمِع طرق خفيف على الباب.
“من هناك؟”
“إنه أنا، سيدريك، يا جلالة الإمبراطورة.”
تفاءلت: سبحان الله! نذكره فيأتي!
فتحت الباب بسرعة.
“سيدريك! أين كنت كل هذا الوقت؟”
كان مغطى بالغبار والتراب من رأسه حتى قدميه، على عكس مظهره المعتاد الأنيق.
ابتسم بخجل وهو يخرج صندوقًا صغيرًا من بين يديه.
كان صندوقًا ذهبيًا متلألئًا.
شهقت وأنا أتعرف عليه فورًا.
الصندوق الذهبي!
الجائزة الأندر في فعالية البحث عن الكنوز…
التي لم يتمكّن أحد من العثور عليها لسنوات.
قالت الأسطورة إن داخله أثمن هدية أعدّتها العائلة الإمبراطورية.
“مذهل… لقد وجدته حقًا؟ لم ينجح أحد قبلك منذ أعوام!”
ابتسم وهو يشرح:
“كنت أعقد الأمور أكثر من اللازم. حاولت التفكير بعين إنسان عادي، لا بعين فارس، فعثرت عليه بسرعة. لم يخطر ببالي أنهم أخفوه في… المدخنة.”
ضحكت بدهشة.
“إذن أنت الفائز بلا شك. سيدريك، هذه الليلة لك.”
وهنا قدّم الصندوق إليّ بكل جدّية.
“تفضلي، خذيه يا جلالتك.”
ارتبكت.
“أنا؟ لكنك أنت من وجدته بعد كل هذا العناء.”
“من البداية، كنت أبحث عنه لأقدّمه لك. ولولا كلماتك، ما كنت اهتديت إليه أصلًا.”
احمرّت وجنتاه بخجل وهو يضع الصندوق بين يدي.
“إنه هدية متواضعة مني.”
ابتسمت، وأضاء الغبار العالق على ثيابه ملامحه وكأنها نجوم متكسّرة على كتفيه.
ليلةٌ بدا فيها أجمل من أي وقت مضى.
بينما كنت أتحدّث مع سيدريك…
غادر ليونارد القصر ممتطيًا جواده، متوجّهًا نحو حيّ مهجور يزدحم بالحانات السرّية.
أشهرها حانة صغيرة، راقية ومخفية، يرتادها النبلاء حين يرغبون بالاختفاء عن الأنظار.
رحّب به الحارس الأصلع:
“وصلتم.”
أومأ ليونارد ببرود.
“هو هنا؟”
“نعم. في الغرفة الداخلية.”
دخل ليونارد إلى غرفة خاصّة، حيث كان رجل ذو ملامح كئيبة ينتظره.
ابتسم ليونارد بخفة:
“أعتذر عن التأخير.”
قدّم له خادمه النبيذ الفاخر.
شرب الرجل وأشرق وجهه:
“هكذا يُحسن التعامل مع من سيعمل لديك. طعم رائع!”
لكن وجهه سرعان ما تغيّر وهو يستمع لليونارد يتلو من ملفّ أمامه:
“لايمان هارت، 29 عامًا. عملت خادمًا لدى عائلات عدّة: آل تورن، آل داس، وآخرهم آل بيلهيم.”
ابتسم الرجل متصنّعًا.
لكن ليونارد أكمل ببرود:
“الغريب أن كل عائلة خدمت لديها… شهدت وفاة مشبوهة بعد مغادرتك. الكونتيسة في بيلهيم، الوريث في تورن، وحتى المركيز داس نفسه.”
شهق لايمان وقد انقلبت ملامحه.
“أنت… من تكون بحق الجحيم؟!”
ابتسم ليونارد ببرود.
“عجيب، كل بيتٍ تدخله يترك خلفه جثة. صدفة؟ لا أظن.”
زمجر لايمان وهو يبصق:
“أتدري من تعبث معه؟ أنا من نقابة المنهارين! أتعلم ما يعنيه أن تلمسنا؟ الموت لك ولجميع من حولك!”
لكن ليونارد لم يرمش. بل تقدّم بخطوات هادئة، كوحش يتثاءب قبل الانقضاض.
همس فجأة:
“هل سمعت باسم… ألبِن؟”
اتسعت عينا لايمان برعب.
“…زعيمنا؟! كيف تعرفه؟!”
ابتسم ليونارد ابتسامة قاتلة:
“مررت به في الطريق. تحدّثنا قليلًا. كان… متعاونًا جدًا.”
انهار لون الرجل كليًا.
لم يكن في ابتسامة ليونارد أي سخرية، بل حقيقة مرعبة.
“والآن…” قال ليونارد وهو يشمّر عن ساعديه،
“أجبني بصدق. من الذي أرادك أن تتسلل إلى جناح الإمبراطورة؟”
ارتجف لايمان وهو يتوسل:
“لا… لا أعرف! أرجوك…!”
لكن صوت ليونارد انخفض حدّ الهمس وهو يبتسم ابتسامة باردة:
“إجابة خاطئة، يا لايمان.”
بعد فترة…
خرج ليونارد من القبو، يرافقه هواء الليل الممزوج برائحة الدم.
تأمل سترته الملطخة بالدماء، فتمتم:
“لا تصلح للبس بعد الآن.”
رفع رأسه نحو القصر المضيء في البعيد.
ثم ابتسم دون أن يشعر.
هل غفت الآن يا هيلينا؟
لقد تسللت صورتها إلى أعماق روحه، تثير فيه اضطرابًا غريبًا، كما لو أن ضبابًا كثيفًا يعكّر صفو عقله.
ثم، وهو يسترجع الورقة الصغيرة التي التقطها من خصلات شعرها الذهبية…
غاص صوته في الليل، باردًا كحد السيف:
“…من تكونين حقًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 77"