الفصل 76 –
ليس لدي سبب لقتلك
ليلٌ يختلط فيه وهج القمر الغائم بظلال الحديقة الخلفية للقصر.
هناك، عند أطراف البستان الملكي، أمام ضريح الإمبراطور الراحل، وقفتُ أمام جيروم.
لكن… لم يكن هو الإمبراطور البارد المتعالي الذي اعتدت رؤيته.
خصلات شعره البلاتينية المشرقة بدت شاحبة تحت ضوء القمر.
وجهه الذي لم يكن يقبل أدنى خدشٍ في كبريائه، غمره حزنٌ مهيب.
قال بصوتٍ يحمل أثر الخمر:
“هيلينا… ما زلتِ كما أنتِ.”
حول قدميه انتشرت زجاجات فارغة. رائحة الخمر الثقيلة عبقت في المكان. لا بد أنه شرب كثيرًا.
ومع ذلك لم يظهر عليه سُكرٌ واضح. أو لعلّه كان ثَمِلًا حتى العظم، ومع هذا ظل متماسكًا.
لم يكن طبيعيًا.
ذلك الجبار المتجمد صار يبتسم لي بوجهٍ بشريّ، هشّ… حزين.
ولوهلة، بدا لي بائسًا على نحوٍ يوجع القلب.
ابتسامته الضعيفة كانت كفيلة بأن تعصر صدري ألمًا.
جلس في صمتٍ، يكتفي بأن يحدّق بي، ثم ابتسم باهتًا وقال:
“لم أتوقّع أن تأتي إلى هنا.”
أجبته:
“هل الأمر مفاجئٌ لهذه الدرجة؟”
هزّ رأسه، أولًا بالإيجاب ثم نفى:
“لا… في مكانٍ ما بدا لي أنّك ستأتين.”
وبنظرةٍ نصف مغمضة، أضاف:
“نعم… هيلينا الآن ربما تفعل ذلك.”
لم أجب. فاكتفى بأن يبتسم ويقول:
“لماذا تصمتين؟ هذا لا يُشبهك… هل أربكك مظهري هذا؟”
أشرت برأسي نفيًا.
ابتسم مرة أخرى:
“بالفعل… لقد تغيّرتِ.”
كان يبتسم، لكن ابتسامته مثقلة بالأسى.
ثم حدّق بي وسأل بحدة:
“قولي لي، بأي هراءٍ جئتِ الليلة؟”
أجبته ببرود:
“هل سبق أن قلتُ هراءً؟”
ضحك قصيرًا:
“في الآونة الأخيرة كثيرًا.”
عيناه التصقتا بي، حادتان كالنصل.
“لقد تغيّرتِ… لم تعودي كما كنتِ. ما الذي غيّرك؟”
لم أجب.
كنتُ أنا أيضًا أريد أن أسأله السؤال ذاته.
… هو الذي كان يقف دائمًا في صفّي سرًا، بينما يهاجمني أمام الآخرين.
هو الذي حملني يوم سقطتُ في المحكمة، رغم قسوته الظاهرة.
كل تلك المواقف المتناقضة جعلتني في حيرةٍ منه.
ثم فجأة، قال ببرود:
“لقد قالت لي شيئًا غريبًا.”
أدركت فورًا أنه يتحدث عن “فاي”.
لقد جاءت تبحث عنه كما في الأصل… لكنها هذه المرة رحلت سريعًا.
الأمر مختلف عمّا أعرفه من القصة.
همست:
“وماذا أجبتها؟”
ابتسم هو باهتًا، ابتسامة لم تحتج تفسيرًا.
سألته مباشرة:
“أين هي الآن؟”
قال ببرود:
“رحلت. بعد أن سمعت جوابي، تنفست الصعداء ثم مضت.”
أدركت أن السبب… أنا.
لقد أفسدتُ مسار الأحداث بكلماتي.
لكن المدهش أنني لم أشعر بالقلق.
على العكس، شعرت بالارتياح… كأنّ الأمور صارت في نصابها الصحيح.
غير أن صورة جيروم الشاحبة أمامي أثارت قلقي.
سألني فجأة:
“أما زلتِ لم تخبريني؟ لماذا أتيتِ؟ لتشتميها أمامي مثلًا؟”
قلت بجدية:
“وهل هذا ما تريده مني؟”
ضحك بسخرية، ثم ملأ كأسه من جديد.
“بل تمنيتُ لو فعلتِ ذلك.”
أدار كأسه بين أصابعه، وصوته صار أجوفَ، كأنه يبكي بلا دموع:
“هذا الاحتفال… بدأ قبل خمسةٍ وعشرين عامًا. كان أبي، الإمبراطور الراحل، يقيمه من أجلي وحدي. لابنه الصغير…”
وعيناه الجافتان امتلأتا بالحزن وهو يتابع:
“رغم جنونه الذي أفسد عقله، لم ينسَ يومًا أن يترك لي هدية في هذا اليوم. حتى آخر لحظة من حياته.”
همس بصوتٍ متصدع:
“لكن تلك الليلة… وجدتُه ميتًا، وبصدره مغروز سيفي أنا.”
ظل صوته يتهشم كأن كل كلمة تفتّت في صدره.
“ومنذ ذلك الحين… كل عامٍ أفتح القصر وأجعل الناس يبحثون عن الكنز. بينما أنا… كنت أبحث فقط عن هدية أبي. ذكرى لم أستطع أن أجدها وحدي.”
كان مؤلمًا… أكثر مما توقعت.
تنفست بعمق ثم قلت:
“أعرف معاناتك… لكن لديّ ما يجب أن أخبرك به.”
بلمح البصر وقف أمامي، نظراته كسيوف مسلولة:
“تحذير… الليلة لا تختبري صبري.”
عيناه في القمر كانت مخيفة، كعيني وحشٍ جائع.
اقترب، أنفاسه الساخنة تجوب وجهي وعنقي.
ثم ابتعد بخطوات بطيئة.
لكنني نطقت قبل أن يرحل:
“هناك من يريد قتلي.”
توقف في مكانه.
لم يسخر، لم يتهمني بالخيال… بل همس بصوتٍ كالصاعقة:
“من هم؟”
سردت له باختصار كيف سمعت محادثةً بالصدفة.
لكن فجأة… وجدته يندفع نحوي.
لم يرمِني أرضًا، بل أسندني بذراعيه.
صرخ غاضبًا:
“أي حماقة ارتكبتِ لتجدي من يريد حياتك؟!”
كان غاضبًا… ليس ببروده المعتاد، بل غضبًا هائجًا.
قلت بصوتٍ مرتجف:
“ظننتُ أنك أنت.”
اتسعت عيناه بدهشة، ثم ضحك ساخرًا:
“ولِمَ أقتلك؟ ليس لديّ سبب لذلك.”
كلماته تسللت إلى أذني كهمسٍ حارق.
ثم اقترب أكثر، يده تُمسك بذراعي بقوة:
“ألا تعرفين… كم قاومتُ حتى الآن؟”
عينيه تتقدان كالجمر.
وشعرت أنني على وشك أن أُبتلع بالكامل… حتى صرختُ بالكلمة الوحيدة التي قد توقفه:
“الكنز!”
تجمد مكانه.
“أعرف مكان الكنز الذي تبحث عنه.”
***
قادته إلى غرفة صغيرة في أعلى القصر.
غرفة طفولته، مخبؤه السري.
همس بدهشة:
“هنا؟! لقد قلّبتُها عشرات المرات.”
ابتسمت وقلت:
“اعزف أول مقطوعة علمك إياها والدك.”
ارتبك، لكنه جلس أمام البيانو الصغير وبدأ يعزف لحنًا بسيطًا… طفوليًا.
وبينما تتردّد النغمات، تحركتُ فوق أرضية الغرفة كمن يتبع خطوات لحنٍ قديم.
وفجأة…
طَق!
أحد ألواح الأرضية انفتح.
اقترب جيروم بارتجافٍ واضح.
فتح اللوح… وأخرج صندوقًا صغيرًا.
كان صندوق موسيقى (أورغن).
مهترئًا، مُحمّلًا بالخدوش… لكنه ما زال يعمل.
دار المفتاح، فانطلقت الألحان.
اللحن نفسه الذي عزفه الآن.
اللحن الذي علمه إياه والده… والذي لم ينسه قط.
عيناه الحمراوان ارتعشتا بشدة.
همس بصوتٍ مبحوح:
“كيف… عرفتِ؟”
ابتسمت بمرارة:
“صدفة… صدفة فقط.”
لكنه ظل يحدق بي، عينيه مهددتان بالانكسار… كأن قلبه كله يتهاوى.
التعليقات