الفصل السادس: إنّكم جميعًا مخدوعون
كلّ شيء انغمس في حمرةٍ مخيفة.
النافورة، التي كانت تتلألأ بالذهب والرخام.
والحديقة، التي كانت تفوح بعطر الزهور.
لم يعد أيّ من ذلك يدخل عيني.
والسبب؟ رجل واحد فقط.
من بعيد، كان حضوره طاغيًا.
قبل لحظات، زالت حياةٌ هباءً.
لكنّ أحدًا ممّن رأوا المشهد لم يجرؤ على إطلاق حتّى أنينٍ صغير.
الجميع وقفوا مذهولين، كأنّهم مسحورون، يحدّقون به.
أمّا هو، الذي كان محور كلّ تلك النظرات، فظلّ وجهه خاليًا من أيّ انفعال.
انتزع سيفه من صدر خصمه، نفض الدم عنه ببرود.
وكأنّه لم يفعل أكثر من إزاحة حشرة مزعجة.
شهقت الوصيفات حولي، متجمّدات من الخوف.
وفي تلك اللحظة، تحرّكت عيناه الزرقاوان الباردتان نحوي.
“آه…”
التقت نظراتنا.
كانت عيناه شديدة الجمال، وفي الوقت نفسه تفيض بالحزن.
تردّد بصره قليلًا، ثمّ خطا نحوي.
انتظر، نحوي؟!
وحين أفقت من ذهولي، كان قد صار أمامي بالفعل.
“يا جلالة الإمبراطورة.”
انحنى بخطواتٍ رصينة، وصوته العميق يتردّد:
“أعتذر عن تأخّري في تقديم التحية. إنّي ليونارد هيلبيرت، قائد فرسان الحرس الإمبراطوري.”
“…!”
ارتجف بصري.
ليونارد؟ ذلك الاسم؟
كيف نسيت؟
في الرواية الأصلية، لم يكن البطل الذكر الوحيد هو جيروم.
كان هناك آخرون، ومن بينهم ليونارد، الذي قورن بجلالته. بل قيل إنّه يفوقه في الشعبية والمهابة.
صديقتي التي عرّفتني على الرواية كانت دومًا تقول:
“إنّه مبارز لا يُقهر. نقيّ القلب، مخلص، نبيل الأخلاق.”
لكن لم يكن جماله وقوّته فقط ما جعلاه أسطورة…
إنّه…
“يا جلالة الإمبراطورة؟”
قطع صوته أفكاري.
كان يحدّق بي باستفهام، إذ يبدو أنّني تجمّدتُ بملامح جديّة.
“أهناك ما تودّين قوله لي؟”
“آه… لا، لا شيء. لكن… ما الذي حدث للتو؟”
فقد سقط رجلان من السماء فجأة.
تقاتلا أمام أعيننا، قتالًا لم يكن ندّيًا على الإطلاق.
قال بهدوء:
“لقد رصدنا متسلّلين بالقرب من جناح الإمبراطورة الصغرى، فاعترضناهم. وهذا أحدهم.”
“جناح الإمبراطورة الصغرى؟”
ذاك جناح فَي.
لكن في الرواية لم يحدث مثل هذا المشهد.
“هل أصيب أحد بأذى؟”
“لحسن الحظ، لا.”
ألقيت نظرة على النافورة المحطّمة والجسد المطرُوح.
فتنهّد ليونارد قائلًا:
“كنت أتمنّى لو استسلم بهدوء… لكنّه قاوم بعنف، واضطررت إلى الحزم.”
حزم؟! بل محوته محوًا.
ثمّ انحنى ليعتذر:
“آسف لأنّي أرغمت جلالتكِ على رؤية مشهدٍ كهذا.”
كان صوته وملامحه صادقين، جادّين.
لكنّي كنت أعرف الحقيقة.
أعرف من يكون حقًّا هذا الرجل.
وفجأة، صاح جنديّ عند مدخل الحديقة:
“سيدي القائد!”
وقف الفرسان، غبار المعركة يعلوهم، وأيديهم على مقابض السيوف.
الوضع بدا عاجلًا.
فقال ليونارد باحترام:
“يا جلالة الإمبراطورة، أأستطيع أن أستأذن؟”
“بالطبع، المهم أن تنجز عملك.”
“شكرًا لكِ.”
ثمّ غادر بخطى سريعة، يقود جنوده.
نظرتُ خلفه مذهولة.
أن ألتقيه هنا… لم أتوقّع أبدًا.
* * *
في اليوم التالي، عادت ماري وهي تحمل صينية الشاي، تبرق عيناها فرحًا.
“جلالتكِ! لقد أُمسك بجميع المتسلّلين!”
شهقت الوصيفات إعجابًا.
فسألت الكونتيسة كلوي بجدّية:
“كيف تسلّلوا أصلًا؟”
“يبدو أنّهم تنكّروا في زيّ تجّارٍ يوردون المؤن للمطبخ. مع كثرة الداخلين والخارجين بسبب التحضير للوليمة، تسلّلوا بين الصفوف.”
“يا إلهي!”
لكنّ الغرابة كانت في شيء آخر.
قالت ماري متردّدة:
“حين حاولوا استجوابهم، تبيّن أنّهم بلا ألسن.”
“ماذا؟!”
ارتفعت أصوات الدهشة.
من دون ألسن، يستحيل معرفة هويتهم أو غايتهم.
ارتجف جسد ماري قائلة:
“فكّرت… ماذا لو كانوا استهدفوا جناح جلالتكِ بدلًا من جناح الإمبراطورة الصغرى؟”
“يا للعجب، كان ذلك ليكون كارثة.”
أومأت بصمت.
في داخلي، أدركت أنّ هذا المشهد من المؤكّد أنّه لم يكن موجودًا في الرواية.
* * *
لكن لم يطل الوقت قبل أن ينحرف الحديث إلى موضوع آخر:
“ألم يكن ليونارد مذهلًا؟”
“حقًّا، كدت أفقد أنفاسي حين رأيته!”
“وسيم أكثر من كلّ الشائعات!”
“ولم يترك لخصمه أدنى فرصة.”
راحَت الوصيفات يصفن كيف أنّه لم يلقِ بالًا لكلّ النساء اللواتي يلاحقنه بالرسائل والهدايا، بل لا يعرف غير السيف.
“إنّه قدوة الفرسان! رمز النقاء!”
كتمت ضحكة ساخرة.
قدوة؟ رمز نقاء؟ لو عرفتن حقيقته…
في الرواية، لم يكن ليونارد مجرّد قائد فرسان.
كان أحد أخطر الرجال وأكثرهم غموضًا، حتّى أنّ خطره قد يفوق جيروم نفسَه.
أيّها الحمقاوات، إنّكم جميعًا مخدوعون!
لكن لم أُظهر شيئًا من ذلك، بل احتسيت الشاي بهدوء، متظاهرة بالبرود.
ما دمتُ لا أحتكّ به، فلن أُصاب بسوء.
لكنّ القدر لم يتركني طويلًا.
دخلت الكونتيسة كلوي بخطوات ثابتة وقالت بابتسامة:
“يا جلالة الإمبراطورة، ثمّة زائر ينتظركِ.”
“زائر؟”
لم أكن قد استقبلت أحدًا اليوم.
قالت الكونتيسة بلهجة رقيقة تحمل وقعًا ثقيلًا:
“إنّه السيّد ليونارد، يطلب مقابلتكِ.”
“كح، كح!”
اختنقت بالشاي.
ماذا؟! هو؟!
تسمّرت في مكاني، والكونتيسة تتابع بابتسامة هادئة:
“أتريدين أن أُدخله؟”
✨ انتهى الفصل السادس.
التعليقات لهذا الفصل " 6"