الفصل الرابع: كُنتَ تعرف كل شيء؟
“يا إلهي.”
تمتمتُ وأنا أتمشّى في الحديقة الخلفية، أُحرّك رأسي يمنة ويسرة.
كان هناك شيء مريب منذ البداية.
منذ أن لاحظتُ أنّ التقارير التي تصلني عن الإمبراطور دقيقة بشكل مفرط، كان عليّ أن أشكّ.
كم يا ترى كان عدد الأشخاص الذين جنّدتهم هيلينا؟
طباخون، مصمّم أزياء، حرّاس… أشخاص متوزّعون في كل أرجاء القصر الإمبراطوري.
إنها ليست مجرد غيرة زوجة… بل أشبه بفيلم تجسّس!
قلت في داخلي وأنا أتنهد:
“لقد بالغتِ حقًّا يا هيلينا. هذا جنون.”
سألت كلوي، وصيفة الإمبراطورة الكبرى:
“كم تبقّى منهم بعد؟”
أجابت بثبات:
“المؤكَّد حتى الآن ثلاثمئة وثمانية وثلاثون شخصًا.”
“ماذا؟!”
تذكّرت أنّني قضيت يومًا كاملًا بلقاء أشخاص، وها قد بقي هذا العدد الهائل.
كيف استطاعت هيلينا أن تُقنع كل هؤلاء بالوقوف إلى صفّها؟
هززت رأسي بذهول.
“حقًّا… كانت امرأة مخيفة أكثر من كونها عظيمة.”
حتى كلوي نفسها بدت مصدومة.
“لم أتوقّع أن يكونوا بهذا العدد.”
كان صداعًا يزداد يومًا بعد يوم.
قررت أن أستريح قليلًا، فخرجت إلى الحديقة مع الوصيفات.
قالت إحداهن مبتسمة:
“يا لجمال الطقس اليوم!”
وأضافت أخرى:
“حتى الأزهار تبدو أجمل.”
المنظر كان رائعًا فعلًا: أزهار متفتّحة تتنافس بألوانها، عرائش مغطّاة بأزهار البنفسج، ومجرًى مائي يتلألأ تحت ضوء الغروب.
لكن صوتًا ناداني فقطع لحظة الهدوء:
“يا جلالة الإمبراطورة؟”
التفتُّ، فرأيت امرأة تقترب بخطى واثقة.
كانت في غاية الجمال، حتى أنّ المكان من حولها بدا مضيئًا بحضورها.
شَعر وردي يلمع مع كل خطوة، عينان بلون الزمرد، وملامح رقيقة متناسقة.
لم يقدّمها أحد لي، لكنني عرفت فورًا من هي.
“…الإمبراطورة الصغرى.”
المرأة التي كانت بطلة هذه الرواية: “فَي”.
انحنت بابتسامة ناعمة وقالت:
“كنتُ أبحث عنكِ، يا جلالة الإمبراطورة.”
أجبتها بابتسامة مصطنعة:
“لم أتوقّع أن نلتقي هنا.”
كنت أعلم أنّ هذا اللقاء سيحدث يومًا ما، لكنني لم أتخيّله اليوم.
شدَدت أنفاسي في صدري. من الآن فصاعدًا، عليّ أن أكون حذرة.
في الرواية، كانت فَي فتاة طيبة وبريئة، لكن معاناة القصر وقسوة هيلينا حطّمت ثقتها بنفسها.
أما أنا، فكنت أعلم: إن أردت النجاة، عليّ ألّا أضع نفسي في مواجهة معها أبدًا.
لا تقلقي يا بطلة القصة. لن أعيد أخطاء هيلينا. لن أكون عدوّتك.
ابتسمتُ وأنا أتهيأ لأبدأ تحية لطيفة، لكن المفاجأة أن فَي سبقتني بالكلام:
“يا جلالة الإمبراطورة! كأننا لم نلتقِ منذ زمن طويل.”
ارتبكت. أهذه هي البطلة الخجولة الضعيفة؟
لكنها واصلت بابتسامة مشرقة:
“سمعتُ أنّكِ كنتِ مريضة مؤخرًا. هل تحسّنت صحتكِ الآن؟”
أجبت مرتبكة:
“نعم، أصبحتُ بخير. أشكركِ على اهتمامك.”
ابتسمت براحة وقالت:
“الحمد لله. بالمناسبة، هل جئتِ تتمشين؟ أنا أيضًا كنتُ أتمشّى مع جلالته.”
تجمدت.
“جلالته؟”
أجابت بحماس طفولي:
“نعم. لكن الفرسان استدعوه للحظة. يبدو أننا تلاقينا بالصدفة.”
ثم أشارت بفخر إلى فستانها الجديد:
“انظري. ما رأيكِ به؟ إنه هدية من جلالته.”
لم أستطع إنكار الأمر. الفستان الأصفر الذي ارتدته بدا رائعًا عليها.
قلت بإخلاص:
“جميل فعلًا.”
ابتسمت برضا وأضافت همسًا:
“كنتُ حزينة لأن فساتيني السابقة تمزّقت… لكن بفضله حصلتُ على هذا الأجمل. حتى أودّ شكر من سبّب لي ذلك!”
أحسست بوخز في ضميري.
يا الله… ألا تعلمين أنني أنا السبب؟
همست دون وعي:
“قالوا إنّ وصيفتكِ الكبرى وراء الأمر…”
رفعت حاجبيها بدهشة:
“ماذا قلتِ؟”
أسرعت أقول:
“لا، لا شيء.”
لكن فَي لم تشكّ بي أبدًا. ابتسمت من جديد، وكأنها لم تسمع.
وقبل أن نواصل، جاء صوت بارد مألوف:
“ها أنتما هنا.”
كان جيروم. اقترب بخطوات ثقيلة تحيط به الحراسة.
لكن صوته تغيّر فجأة، إذ التفت نحو فَي وقال بنبرة دافئة لم أسمعها منه يومًا:
“قلقتُ عليكِ حين لم أركِ.”
ابتسمت هي بخجل:
“كنتُ أتمشّى فقط.”
شدّ على يدها قائلًا:
“سمعتُ عن وجود متسلّل في القصر. يجب أن نعود.”
ارتجفت أنا في مكاني.
هذا الرجل… هل يمكن أن يكون بهذه الرقة فعلًا؟
ثم التفت إليّ ببرود وقال:
“أمّا أنتِ، فعُودي إلى جناحك. من الأفضل ذلك الآن.”
كلماته كانت كطعنة. لم يكن فيها ذرة دفء، مجرد مجاملة فارغة.
أما مع البطلة، فكان مختلفًا تمامًا: يحميها، يربّت على كتفها، يكاد يحيطها بجناحيه.
في لحظة، فهمت سبب غيرة هيلينا القديمة.
آه… هكذا إذن كانت تشعر.
لكن قبل أن نبتعد، تعثّرت فَي فجأة. صرخت وهي تمسك قدمها:
“آه… حذائي!”
انحنى جيروم فورًا. كان كعب حذائها قد انكسر.
“من اعتنى بحذائكِ سيتحمّل المسؤولية.”
أمسكت هي بذراعه متوسّلة:
“لا، رجاءً. لم يكن ذنبه. أرجوك لا تعاقبه.”
صمت جيروم للحظة، ثم أجاب:
“حسنًا. لن يُعاقَب.”
وبينما حاولت أن تنهض، مال عليها وقال بصوت حاسم:
“لكن لا يمكنكِ المشي هكذا.”
وبكل بساطة، حملها بين ذراعيه.
رأيت المشهد أمامي ببرود.
نعم، هذا هو المشهد نفسه الذي قرأته في الرواية.
حينها بدا رومانسيًّا، أما الآن… فكان كالسهم في صدري.
عدت بذاكرتي إلى الوصيفات، وإلى “المؤامرة الصغيرة” التي دبّرنها بخصوص حذاء البطلة.
لكن النتيجة لم تكن أذى… بل لحظة حميمية تجمعها بالبطل.
الوصيفات اقتربن وهم يتهامسن بوجه حزين:
“نحن آسفات يا جلالتك. لم نقصد أن ينقلب الأمر ضدّنا.”
ابتسمت بتعب:
“لا بأس. لن أهتم بعد الآن.”
لكن في تلك اللحظة، التقطت أذناي حديث جيروم وهو يسير مبتعدًا مع فَي:
“ألم أقل لكِ أنّ الإمبراطورة هي من مزّقت فساتينكِ؟”
أجابت البطلة بابتسامة مشرقة:
“لا بأس. لقد عوّضتني بفستان أجمل.”
ارتجفت عيناي من الصدمة.
انتظر لحظة… أكان يعرف منذ البداية؟!
✨ انتهى الفصل الرابع.
التعليقات لهذا الفصل " 4"