الفصل 37. كأنّه كان على وشك البكاء
مرّت أيّام عدّة منذ انتهاء المحاكمة.
كنت قد تعافيت وجلست قرب النافذة.
بفضل علاج سيّدريك الدقيق، كادت أعراض التسمّم أن تختفي تمامًا.
ومع ذلك ظللت أشعر بنوع من الشرود.
تردّد في أذني باستمرار ذلك الاعتراف.
“كان الأمر أوّل مرّة.
أن أشعر بالخوف من فقدان شخص ما، كان ذلك أوّل خوف عرفته.”
كلمات لِنرد لم تفارقني.
بعد أن غادر ظللت ليالٍ عدّة أتقلّب على فراشي غير قادرة على النوم.
كانت عيناه المليئتان بالقلق الصادق، ودفء يديه اللتين أمسكتا بي حتى اللحظة الأخيرة، جميعها عالقة في ذهني بوضوح، حتى كدت أصدّق أنّها حقيقة خالصة.
“وكأنّ الجميع هنا لا يعرفون سوى الكلام الجميل والملامح الساحرة. حقًّا… كلّهم يتفنّنون في جعل قلبي يخفق بلا جدوى.”
هززت رأسي محاوِلة طرد صورة لِنرد من فكري.
في أثناء غيابي تغيّر الكثير في القصر الإمبراطوري.
فبعد سقوط الإمبراطورة الأولى بالتسمّم، ثمّ أنا كذلك، كان طبيعيًّا أن تعمّ الفوضى المكان.
قالت كونتيسة كلوي:
“لا تتخيّلين كم كان الجوّ مشحونًا في البحث عن الجاني.”
حين سقطت الإمبراطورة وحدها، وُجّهت أصابع الاتهام إليّ مباشرة.
لكن حين سقطتُ أنا أيضًا، انقلبت الموازين.
“يقولون إنّ هناك من يستهدف العائلة الإمبراطورية نفسها. وبدأت أسماء مجرمين خطيرين تُتداول.”
ابتسمت في داخلي.
هل يا تُرى هناك أبرياء يُعانون الآن ظلمًا بسببي؟
لكن على الأقل انحسرت عنّي النظرات المليئة بالشك.
صحيح أنّ البعض ما زال يشكّ بي، لكن الأمر عاد تقريبًا إلى طبيعته.
حين أفقت من غيبوبتي، كانت ماري من أسعد الناس.
تذكّرتُ يوم وجدتني بالصدفة جالسة على السرير بعد أن غادر لِنرد. شهقت وكأنّها رأت شبحًا، ثم انفجرت باكية.
قلت لها:
“لا تقلقي، لقد أصبحت بخير الآن.”
قالت وسط دموعها:
“أرجوكِ، لا تمرضي ثانية. وعدٌ؟”
عانقتني وهي تبكي بحرقة، ووجدت نفسي لا إراديًّا أربّت على شعرها من الخلف.
أدركت حينها أنّي بدأت أتعامل معها بحميمية، كما لو كانت أختًا صغرى.
قلت مبتسمة:
“أنا بخير فعلًا. فلا تبكي أكثر.”
قالت متوسّلة:
“هل يمكنني البقاء هكذا قليلًا فقط؟”
ضحكتُ في سرّي.
هي تعلم أنّ ما تفعله يخالف التقاليد بين الإمبراطورة ووصيفتها، لكنها مع ذلك دلّلت مثل طفلة.
قلت لها:
“سمعت أنّك كالأخت الكبرى التي ترعى إخوتها الصغار وحدها. ومع ذلك تبدين كثيرة الدموع.”
ردّت وهي تمسح عينيها:
“هذا فقط أمام جلالتك. ذلك اليوم… لن أنساه ما حييت.”
ثمّ أضافت:
“حين حملك الإمبراطور بنفسه إلى هنا، كدتُ أفقد وعيي من شدّة الصدمة.”
تسمرت مكاني.
“انتظري… من قلتِ أنّه حملني؟”
“جلالته الإمبراطور.”
“جيروم؟!”
تذكّرت المشهد الأخير قبل أن أفقد الوعي.
لم يكن وهمًا إذًا.
لكن لماذا؟
لقد قضى المحاكمة كلّها ينهشني باتهاماته!
سألتها:
“أهو الذي أحضرني إلى جناحي هنا؟”
“نعم، بنفسه.”
شهقت، وفغرت فمي ذهولًا.
لم أستطع تصوّر جيروم، ذلك البارد القاسي، وهو يهرع حاملًا إيّاي.
قالت ماري:
“بل وزارك عدّة مرّات وأنتِ نائمة.”
“ماذا؟!”
ابتسمت ماري ببساطة:
“يبدو أنّه يكنّ لك اهتمامًا منذ زمن. الكلّ قال إنّهم لم يروه قلقًا إلى هذا الحدّ قط.”
تمتمت متحيرة:
“غريب فعلًا…”
فأجابت:
“إنّه بلا شك كان قلقًا عليكِ.”
لكنّي لم أقتنع.
ذلك الرجل هو أوّل من وجّه لي التهمة.
أيعقل أن يخشى عليّ؟
مستحيل.
ربّما كان هذا مجرّد أحد تصرّفاته الغريبة.
ابتسمت في داخلي.
المهم أنّ الأمر انتهى.
لقد ربحت أكثر من مجرّد تبرئة نفسي.
ربحت “الشرعية” و”الذريعة”.
نعم… أخيرًا بلغت الهدف الأسمى.
“لقد انتهى الكابوس… سيبدأ الحظّ أخيرًا.”
شدَدت قبضتي خفية، ممتلئة بالفرح.
سألتني ماري:
“ما سرّ ابتسامتكِ يا جلالتك؟”
أجبتها:
“لا شيء، مجرّد شعور لطيف بالتحسّن.”
ابتسمت هي الأخرى:
“ما دمتِ بخير، فأنا سعيدة.”
وبينما تبادلنا الابتسامة، دخلت الكونتيسة كلوي تحمل زجاجة صغيرة.
قالت:
“حان وقت الدواء.”
شربت ما قدّمته لي. كان طعمه عبقًا بالزهور.
سألتها:
“ألم يقل كبير الكهنة البارحة إنّي شُفيت تمامًا؟ فما هذا إذن؟”
قالت الكونتيسة:
“ليس ترياقًا. بل دواء خاص صنعه الحكماء لجلالتك. سمعت أنّه مزيج نادر من أزهار وأعشاب يصعب الحصول عليها.”
تذكّرتُ وجه سيّدريك يوم سقطت، كان على وشك البكاء.
سألت:
“وأين هو الآن؟ لم أره منذ أيام.”
نظرت كلوي إلى ماري بتردّد. بدا أنّهما تخفيان شيئًا.
فقلت بقلق:
“هل أصابه مكروه؟”
تنهدت الكونتيسة وقالت:
“الحقيقة هي…”
* * *
في حديقة القصر الخلفية، حيث تنتشر الورود والأشجار، قام سيّدريك ببناء كوخ صغير مغطّى بالكروم.
كان ذاك مختبره.
من الخارج يبدو متواضعًا، لكن تحته مخبأ كبير يضمّ أدواته.
كان هذا أحد شروطه حين قَبِل منصب ساحر البلاط.
لكنّي لم أفهم يومًا لمَ اختار أن يبنيه تحديدًا بجوار جناحي.
طرقت الباب قائلة:
“هل أنت هنا؟”
لم يجبني أحد.
تنهدت:
“إذن ليس هنا…”
كنت قد سمعت من كلوي وماري أنّه لم يعد يقترب من جناحي منذ سقوطي.
قالتا إنّ وجهه يومها كان شاحبًا كالميّت، ومنذ ذلك الحين اختفى عن الأنظار.
بدأ القلق يتملّكني، فبحثت في أرجاء الحديقة.
وفجأة لمحته.
كان يسير مثقل الخطى عائدًا نحو الكوخ، يحمل حقيبة صغيرة على ظهره.
بدا منهكًا، شاحبًا، كأنّه يحمل أوجاع الدنيا كلّها.
ناديت:
“سيّدريك.”
…
التعليقات لهذا الفصل " 37"