الفصل 36 – كانت المرة الأولى
كان كل ما أمام عينيّ ظلامًا دامسًا.
غاص وعيي في فراغ عميق كالمستنقع العكر.
تاه عقلي في مكان ضبابي، بين الحلم والوهم، بين الواقع والخيال.
أردت أن أفتح عينيّ، لكنهما لم تستجيبا.
بدني كان كالصخر، لم أستطع تحريك إصبع واحد.
كيف وصلت إلى هذه الحال؟
آه، صحيح…
لقد أغمي عليّ أثناء المحاكمة.
يبدو أنّ أحدهم وضعني على السرير.
شعرت بالغطاء الدافئ يلفّ جسدي.
لكن… كيف انتهت المحاكمة؟
كيف بدا وجوه أولئك الذين افتروا عليّ وأهانوني؟
ماذا عن الوصيفات؟
أتمنى أن لا يكنّ قد فزعن كثيرًا.
أما سيدريك، فلا بد أنّه لم يتفاجأ. لقد كان يعلم أنّ الأمر سينتهي بي إلى هذا.
لكن الآخرين لم يكونوا يعرفون شيئًا.
ربما كان يجدر بي أن أُلمح لكونتيسة كلوي.
بينما أفكّر في ذلك، تذكّرت فجأة.
قبل أن أفقد وعيي، لمحْت وجه جيروم مضطربًا.
ضحكت في داخلي.
لقد أصبته في مقتل هذه المرة.
لو كنت قادرة على الحركة، لارتسمت ابتسامة عريضة على وجهي وما اختفت.
يا ليتني استطعت أن أتأمل وجهه المصدوم أكثر.
متى يمكن أن أرى ثانيةً ذاك الرجل البارد القاسي وهو يضطرب هكذا؟
حتى إنني شعرت بالأسف لأنني لم أدوّن تلك اللحظة.
بينما كنت أتنهّد داخليًا، سمعت همسًا بجانبي:
“جلالة الإمبراطورة… لم تستيقظ بعد، صحيح؟”
“نعم، يبدو أنّها ما زالت غائبة عن الوعي.”
رغم أنّ جسدي لم يستجب، إلّا أنّ سمعي كان يعمل جيدًا.
سمعت بوضوح أصوات وصيفاتي.
“لم أتخيل أنّ جلالتها ستتألّم هكذا. لو كنت أكثر فائدة…”
كان صوت ماري مختنقًا بالبكاء.
لا يا ماري، لا تبكي.
أردت أن أنهض لأربّت على كتفها. لكن جسدي بقي ثقيلاً بلا حراك.
سمعت أصواتًا أخرى تهدئها:
“لا تبكي يا آنسة ماري.”
“نعم، لقد قمت بما عليك وأكثر.”
كانت تلك كلوي والوصيفات يواسونها.
بالفعل، لقد فعلت ماري ما يكفي وزيادة.
تذكّرت حين طلبت منها أن توصل رسالة إلى سيدريك.
رسالة لم تعلم هي بمحتواها.
كانت ورقتي الأخيرة… خطتي الاحتياطية.
لهذا هي تبكي الآن.
لأنها لا تعرف أنّ ما حدث كان جزءًا من خطة مرسومة.
صحيح أنّني ترددت قبل أن أخفي الأمر عنها، لكنني رأيت أنّ الأفضل أن لا أقلقها.
ومع ذلك، لم أشعر بالراحة وأنا أسمعها تبكي.
سمعت الوصيفات يقلن:
“الساحر قال إن جلالتها بخير، وستستعيد وعيها بعد أن ترتاح قليلًا.”
“صحيح، لقد عالجها حامي الغابة بنفسه.”
“وكان بحوزته ترياق جاهز. يا لها من معجزة!”
ابتسمت داخليًا.
الوصيفات يظنن أنّ الأمر محض صدفة.
لكنّني كنت أعلم الحقيقة.
من الأساس… سيدريك هو من صنع السم.
وهكذا كان الأمر كله جزءًا من خطتنا.
كنت أعلم أنّه مهما قلت دفاعًا عن نفسي، فلن يصدّق أحد.
حتى الدليل القاطع لم يكن ليُسكت الشكوك.
كنت بحاجة إلى ضربة قاصمة.
شيء يبدّد كل الظنون دفعة واحدة.
وهكذا خطرت لي الفكرة: أن أتظاهر بأنني أصبت بالسم نفسه الذي أصاب الإمبراطورة الثانية.
لا يمكنهم أن يتّهموا شخصًا تعرّض للسم ذاته بأنّه الفاعل.
لهذا لجأت إلى سيدريك.
هو وحده القادر على صناعة سمّ روزافلو.
في البداية رفض بشدة.
“لا يوجد سم في هذا العالم بلا مضاعفات. ثم إنّ هذا السم يسبب العقم… أخشى لعنة الآلهة.”
لكنني أصررت.
“إن لم يكن هناك سم بلا مضاعفات، فلتصنع أنت واحدًا خاصًا. أو على الأقل، اصنع ترياقًا كامل الشفاء.”
ظل متردّدًا، لكنني طمأنته.
“أنا أثق بك يا سيدريك.”
في النهاية، رضخ لطلبي.
صنع نسخة خاصة من السم، لها الأعراض نفسها، لكن بلا مضاعفات.
ثم في الليلة السابقة للمحاكمة، جاءني بالتفاصيل.
“قد تعانين ألمًا شديدًا… ألمًا يجعلك تفضّلين الموت.”
ابتسمت وقلت:
“لا بأس. إن كان هذا سيبرئني، فأنا أحتمله.”
رغم أنّ ملامحه كانت مظلمة، إلّا أنّه لم يمنعني.
وهكذا، في المحاكمة، شربت السم.
وانهرت أمام أعين الجميع.
تمامًا كما خططنا.
لكن بينما كنت أفكر في شكر سيدريك على جهده، خطر في بالي شخص آخر.
هل عاد؟
ذلك الرجل الذي أوكلته بمهمة أخرى… السير ليونارد.
كنت قد طلبت منه أن يبحث عن روزين.
لكن كل ما وصلني في المحكمة أنّها عُثر عليها جثة باردة.
لا بد أن ألتقيه حين أستيقظ.
انسحب صوت الوصيفات من الغرفة، وأُغلِق الباب.
ظلّ عقلي تائهًا بين النوم واليقظة.
رأيت أحلامًا غريبة، حيّة كأنها واقع.
سمعت همسات، وقع خطوات، ورائحة زهور رقيقة.
وفي حلم ما، سمعت صوتًا مألوفًا يقول بهدوء:
“آسف… يا جلالة الإمبراطورة.”
لكنني لم أتمكّن من رؤية وجهه.
كنت عاجزة عن فتح عينيّ.
مضى وقت لا أعلم مقداره.
ثم أحسست بدفء في يدي.
تأوهت وتحركت قليلًا.
فتحت عيني ببطء. كان الليل قد حلّ.
“آه… أنا عطشى.”
وفجأة ظهر كوب ماء أمامي.
مددت يدي وأخذته من دون تفكير.
شربت جرعة طويلة وقلت بصوت مبحوح:
“شكرًا لك.”
لكن حين التفتّ، تجمّدت عيناي.
لم تكن وصيفة.
كان… السير ليونارد.
شهقت دهشة:
“… ليونارد؟”
جلس بجانبي، يمسك يدي بقوة.
“لقد عدتِ إلى وعيك، يا مولاتي.”
ثم أضاف بصوت متهدّج:
“كان ما فعلتِه متهورًا للغاية.”
نظرت إليه في صمت.
كان يعلم أنّني تناولت السم بنفسي.
“لم أفعل ذلك لعدم ثقتي بك.” قلت بهدوء.
“كنت أعلم أنّك ستنجز مهمتك. لكن… كان عليّ أن أفعل ما بوسعي أيضًا.”
ابتسمت ابتسامة باهتة.
“لم يكن ممكنًا أن أبقى مكتوفة اليدين بينما تعتمدين عليّ فقط.”
لكنّه لم يبتسم.
بل شدّ قبضته على يدي، وقال بمرارة:
“حين عدت ورأيتك ممدّدة بلا حراك، بوجه شاحب كالميت… شعرت بما لم أشعر به من قبل.”
صمت قليلًا، ثم تابع بصوت مبحوح:
“لقد رأيت الموت كثيرًا. رفاقي في ساحة المعركة يسقطون أمامي ولم يهتزّ لي جفن… لأن ذلك هو قدر الحرب.”
ارتجفت عيناه الزرقاوان وهو يحدّق بي:
“لكن هذه كانت المرة الأولى.”
ثم همس، وصوته يختنق:
“للمرة الأولى… شعرت بالخوف من فقدان شخص.”
التعليقات لهذا الفصل " 36"