الفصل السابع والعشرون: كأنّك تتحدّث وكأنّك غريب
في صالون الاستقبال بقصر الإمبراطورة.
“كنتُ أنوي الذهاب لشُكرك بنفسي، لكن بما أنّك سبقتني وجئت، فقد فاجأني حضورك.”
قلتُ ذلك لسيّدريك الجالس مقابلي.
“الحمد لله أنّك بخير.”
“بفضلك أنت.”
“لقد قمتُ بما كان عليّ القيام به فحسب.”
ابتسم سيّدريك ابتسامة خفيفة.
“يسعدني أنّني كنت عوناً لجلالتك.”
“لقد ساعدتني كثيراً بالفعل. فقط خشيتُ أن تكون قد بالغت في استخدام السحر في ذلك اليوم.”
“السحر لم يكن متعباً بحد ذاته.”
خفض سيّدريك بصره قليلاً وهو يتكلّم.
“إنّما محاولة ضبط قوتي كي لا أُظهر لجلالتك صورة مرهقة هي ما كان أصعب…”
“ماذا قلت؟”
“لا شيء. أعني أنّ تعبي لم يكن بسبب السحر فحسب.”
هزّ رأسه نافياً، ثم تابع بصوت جاد:
“لكن الموقف كان خطيراً. هل أصيبت جلالتك بأي أذى؟”
“كما ترى، أنا بخير.”
“هذا حسن… لا، انتظري. ما شأن هذا الضماد في معصمك؟”
يا إلهي.
لو علمتُ لارتديتُ ثوباً بأكمام طويلة.
الثوب القصير لم يستطع إخفاء الضماد الملفوف على معصمي.
غطّيتُ يدي على عجل وأنا أقول:
“لا تقلق. وصيفاتي عالجنه ودهنت الجرح بالدواء.”
“مع ذلك، قد يترك ندبة.”
قطّب سيّدريك جبينه بقلق، كأنّ الجرح أصابه هو.
ابتسمتُ لأطمئنه:
“إنّه مجرد خدش سطحي. سيشفى في غضون أيام.”
فجأة قال:
“اسمحي لي قليلاً.”
مدّ يده نحوي وهو يتمتم:
“بركة الأرض…”
امتلأ جسده بضياء أخضر متلألئ، امتدّ من كفّه حتى أطراف أصابعه.
“قد تشعرين بوخز بسيط.”
وضع يده المضيئة على معصمي.
شعرتُ ببرودة لطيفة كأنني غمستُ يدي في ماء مثلج.
وما هي إلا لحظات حتى اختفى النور الأخضر.
حلّ الضماد، فإذا بالجلد تحته ناعم خالٍ من أي أثر.
“يا للعجب…”
لم أستطع كبح دهشتي.
“إنّه أمر مدهش حقاً.”
كنت أعلم أنّ السحرة والسحر موجودون في هذا العالم، لكن أن أشهد مثل هذه المعجزة عن قرب… شيء يفوق التصوّر.
“كيف حالك الآن؟”
“تماماً بخير. هل جميع السحرة بهذه القوة؟”
ابتسم سيّدريك بخجل، وفي ابتسامته اعتداد غامض.
‘ربما ليس السحر وحده العجيب، بل هو نفسه مميّز…’
“هل تشعرين بألم آخر؟”
“لا إطلاقاً.”
لم يقتصر الأمر على معصمي، بل حتى الخدوش الصغيرة في جسدي اختفت.
سحره أثّر على جسدي بأكمله.
“كنتُ أتساءل كيف أصبحت ساحر البلاط الإمبراطوري. والآن أدرك أنّك ساحر عظيم بحق.”
“ألم أخبرك من قبل؟”
سألني بدهشة.
“لم أكن أعرف التفاصيل. بل في الحقيقة… حين قلتَ إنّك أصبحت ساحر البلاط، ساورتني شكوك أنك متخفٍ.”
اتّسعت عيناه.
“ماذا؟ متخفٍّ؟ أنا؟”
“نعم. فقط لتتمكّن من رؤية الزهور.”
أومأت برأسي.
“فأنت لم تُظهر أي سحر قط. في لقائنا الأول أيضاً… كنت مختلفاً لكن لم أرك تمارس السحر.”
فكّرتُ: من سيصدّق أن ساحراً عظيماً تظاهر بأنه مجرد زائر للزهور؟
“في تلك الليلة، أهدرتُ الكثير من السحر فقط لأخفي نفسي. وسحر الإخفاء يستهلك طاقة كبيرة.”
“آه، هذا يفسّر الأمر. على أي حال، أنا مطمئنة الآن أنّك ساحر حقيقي.”
تساءل بصوت خافت:
“كنتِ قلقة بشأن ذلك طول الوقت؟”
“حتى إنني خطّطت لخطّة فرار في حال كُشفت حقيقتك.”
“هل كنتِ تظنين أنني غير جدير بالثقة إلى هذا الحد؟”
“لا. كنت قلقة فحسب. من كان ليصدّق أنّ شخصاً يقضي يومه بين الأزهار هو ساحر حقاً؟”
“صدقتِ.”
ثم انفجرنا بالضحك معاً، وكأننا أزحنا عنّا حملاً طويلاً.
“لكن حقاً لم أتوقّع أن ألتقيك هناك.”
“كنتُ أجمع أعشاباً وزهوراً قرب المكان صدفة.”
ثم سألني:
“ولِمَ كنتِ أنتِ هناك؟”
“اللورد ليونارد أراد أن يريني مكاناً ما. لم أتخيّل أن ينتهي الأمر هكذا.”
“هل أنتما مقرّبان؟”
“لقد أنقذني سابقاً، فاضطررت لمرافقته وفاءً لذلك.”
ارتسمت على ملامحه غمامة ثقل:
“أخشى أن أولئك قطاع الطرق لم يكونوا عاديين. أظن أنّ وراءهم من يحرّكهم.”
“وراءهم؟”
اقترب بوجهه وقال بجدّية:
“وعديني يا جلالتك. ألا تُقدمي بعد الآن على مغامرات متهوّرة.”
مدّ إصبعه إليّ طالباً العهد.
ضحكتُ قليلاً:
“أهذا انتقامك لما فعلتُ بك من قبل؟”
“وعديني.”
احمرّ طرف أذنه خجلاً.
“حسناً.”
شبكتُ إصبعي بإصبعه.
ارتسمت على وجهه ابتسامة صافية جعلته يبدو بريئاً.
“إذن، أستأذن الآن يا جلالتك. إن احتجتِ إليّ، استدعيني متى شئتِ.”
وما إن غادر، حتى دخل آخر بصوت بارد:
“جلالتك… نحتاج لحديث.”
تنهّدت في داخلي.
‘ولِمَ جاء هذا الآن؟’
* * *
جلس أمامي رجل ذو شعر بلاتيني يرمز للدم الإمبراطوري.
الإمبراطور جيروم.
لكنّه لم يقل شيئاً.
كعادته، جلس بلا تعابير، يكتفي بارتشاف الشاي.
‘إذا كان هذا كل شيء، فلِمَ أتى؟’
ثم تذكّرت ما قالته الوصيفات. لقد جاء يبحث عني حين كنت بالخارج.
هل هناك ما يستدعي أن يعود مرة أخرى؟
لم أتمالك فضولي، فبادرتُ بالكلام:
“سمعت أنّك جئت تبحث عني في غيابي. هل كان هناك أمر مهم؟”
“أين كنتِ؟”
فوجئت. سؤالي له تحوّل إلى سؤال منه.
“ماذا تعني؟”
“وصيفاتك قلن إنّك غبتِ لسبب خاص. فما هو؟ عدتِ متأخرة، فلا بد أنّه كان مهماً جداً.”
كلماته بدت وكأنها استجواب، بل وكأنّه يعرف شيئاً.
والحق أنّه لم يكن هناك ما يمنعني من إخباره. لم أفعل شيئاً خاطئاً.
لكن نبرته الباردة أزعجتني، فامتنعت عن كشف الأمر.
“وهل يلزمني أن أخبر جلالتك بما أفعل؟”
“ولِمَ لا؟ إن لم يكن لديك ما تخشينه.”
“حتى لو كان لديّ ما أخشاه، فما شأنك أنت؟”
قال ببرود:
“تتكلّمين وكأنني غريب.”
“هذا شأن بيني وبينك، لا أكثر.”
قطّب حاجبيه.
ابتسمتُ وسألت:
“هل سبق لي أن سألتك عن تحرّكاتك مع الإمبراطورة؟”
لم ينطق.
ساد الصمت بيننا حتى نهض فجأة.
“سأنصرف.”
‘الحمد لله.’
نهضت لأودّعه بسرور.
لكن وهو يمرّ بي، توقّف فجأة وقال بصوت منخفض:
“الحمد لله…”
استدرتُ إليه.
“ماذا قلت؟”
“لا شيء.”
لكن بدا لي أنّ عينيه كانتا معلّقتين على معصمي
التعليقات لهذا الفصل " 27"