الفصل 196:
لا تهربي
كان قبله مجنونًا، يخطف أنفاسي على نحوٍ لا أسيطر عليه.
كلما فتحت عيني تبدّل المشهد: مرّةً فوق الطاولة، وأخرى على أريكةٍ جوار السرير، ثم سقف الحجرة وأنا على الفراش.
كانت قواي تخور، لكنني لا أريد التوقف.
وحين ضاق نفسي أخيرًا، أفلت شفتيّ قليلًا.
“هاه…”
التقطت أنفاسي لحظةً قصيرة… ثم عاد، كأن حتى أنفاسي القليلة لا يريد أن يتركها لي، فطبع فمي من جديد.
امتدّت لمسةٌ دافئة تحت قميصي الخفيف، فشهقت دهشة.
انتهز الفرصة واقترب أكثر.
بان جزءٌ من جسده العاري، فاعتراني ذهولٌ لم أملك معه سوى التفكير: يا للجمال…
أدركت أنني أحدّق طويلاً فأشحت بصري متأخرة، وقد سبقني ضحكه الخافت.
قال هامسًا وهو يقود كفّي إلى صدره:
“يمكنكِ أن تلمسي.”
ثم أضاف بابتسامةٍ تزلزل القلب:
“بل… أريدك أن تفعلي. كل هذا لكِ.”
نظرتُ إليه كأنني مسحورة، وأتبعت أناملي خطوط جسده القويّ المصقول بسنين من التدريب.
عنقٌ مجسّم، كتفان عريضان، وصدرٌ يعلو ويهبط مع أنفاسه… وكلما تحركت يدي، ارتجف برهافة.
وعندما لامست راحتي موضع قلبه أحسست خفقانه العنيف—لم يكن هادئًا كما يبدو.
هو متوترٌ أيضًا… ربما أكثر مني.
فشجّعني ذلك، وازدادت جرأتي.
انفلت أنينٌ مكبوت من بين شفتيه، ثم عاد يغمرني قبلاً، كأنه يريد أن يطبع نفسه على كل موضعٍ فيّ، أن يتركني لا أنسى.
تداخلت الأحاسيس حتى خيّل إليّ أن روحي تتماوج… إلى أن لمعت ومضةُ ألمٍ مباغت.
“آه!”
دمعت عيناي من إحساسٍ غريبٍ أول مرّة أذوقه.
قرّب شفتيه من وجهي هامسًا:
“شش… هيلينا، انظري إليّ. لا تقلقي.”
راح يمسّد ظهري برفق، ينتظرني حتى أعتاد. شيئًا فشيئًا خفّ الألم، فاستأنف حركته رويدًا رويدًا.
وكان يرفع ذقني كلما أردتُ أن أطمر وجهي في الوسادة، وعيناه الزرقاوان لا تفلتان ردّ فعلي.
“ناديني باسمي.”
“اللورد… ليونارد.”
“مرةً أخرى.”
“ليونارد… آه—”
كان استراتيجيًا بالفطرة: يكتشف نقاط ضعفي كما لو كان يطوّق خصمًا في ساحة قتال.
تدفّقت الموجات عليّ حتى ضاق النفس، وانكمشت أطراف قدمي بلا وعي.
منذ لحظات كان الألم يوجعني، والآن هو ثقلٌ من نوعٍ آخر.
غرزت أظافري في ظهره بلا قصد، فأعطاني ظهره راضيًا وأدناني أكثر، وكأنه يطلب أن أتشبث به.
الغريب أنني—وهو سببُ ارتباكي—كنت أتشبث به وحده.
أما هو، فلم تبدُ عليه علامات الإعياء؛ بل ازداد جرأةً كلما مضى الوقت، يدفعني كمن لا يرويه شيء.
خفتُ من حدّ طاقته التي لا نهاية لها.
“كفى… لا أستطيع أكثر!”
بحَّ صوتي من الرجاء. لقد بلغت حدودي.
أعلنت الاستسلام مرارًا، لكنّه ما كان يتراجع.
كان يداعبني بصوتٍ مبحوح:
“آخر مرة فقط.”
“قلتَ هذا قبل قليل أيضًا—”
“هذه المرة حقًا الأخيرة.”
غير صحيح!
تعثّرتُ مجددًا في وجهه الذي يخدعني بابتسامته.
“أما زلت لا تتعب؟ كيف—”
تزحزحتُ مبتعدةً، أجرّ ساقي المرتجفتين محاوِلةً الفرار، فإذا بمحاولتي لا تزيده إلا توثّبًا.
امتدّت يده الكبيرة كالصيّاد والتقطت خصري:
“لا تهربي.”
عدت إلى مكاني قبل أن أبلغ طرف السرير، وحاصرني بذراعين:
“هيلينا… أنتِ التي قلتيها: لا أكبح نفسي.”
“أسحب كلمتي إذن! يبدو أنك تحتاج أن تكبح قليلًا.”
نعم، لقد أغفلتُ أمرًا شديد الأهمية:
قوةُ ليونارد ولياقته—أقوى فرسان الإمبراطورية—ليستا من العالم ذاته الذي أنتمي إليه.
لقد تعدّى حدود احتمالي.
قال بصوتٍ لا يحمل اعتذارًا:
“للأسف… لا عودة الآن. عليكِ أن تتحمّلي المسؤولية.”
ثم همس، مبتسمًا:
“أنتِ من أوصلني إلى هذا.”
المسؤولية… ثقيلة حقًا.
تعلّمت الدرس مرةً أخرى:
لا تتفوهي بكلامٍ لا أطيق تبعاته.
لن أقول له ثانيةً: لا تكبح نفسك.
لأنني إن قلتها مرتين… فستكون مصيبة.
وهذا لا يعني أنني كرهتُ ما جرى—بل على العكس.
كانت اللحظات معه جميلةً حتى تمنيتُ أن يتوقف الزمن.
أحببت نظراته التي لا ترى غيري، وطريقة قوله بجسده: أحبك.
لكن—
إنه مرهق!
لم يبقَ في جسدي عصبٌ يتحرك، وألمُ خصري شاهد.
وفي نهايةٍ بدت طويلةً جدًا، يبدو أنني أنا من فقد الوعي أولًا.
وحين فتحتُ عيني ثانيةً كان الفجر قد زحف، وضوء القمر يتسلل عبر النافذة.
قال بصوتٍ منخفض:
“يمكنكِ النوم أكثر.”
كان ينظر إليّ بعينيه العميقتين كأنهما تحملان ضوء القمر نفسه.
أسندتُ رأسي إلى ذراعه وسألته:
“أكنت تراقبني طوال الوقت؟”
“نعم. كنتِ تبحثين عني في الحلم.”
“أنا؟” اتسعت عيناي. هل هذيتُ بكلامٍ عن الخلفية الشريرة وكوابيسي؟
ضحك بخفة:
“دعابة. لم تقولي شيئًا.”
ثم تمتم:
“فقط… أردتُ أن أنظر إليكِ. تبدين جميلةً وأنتِ نائمة.”
قلت بخجل: “وما هذا الكلام!” واستقر قلبي قليلًا.
لثم أذني هامسًا:
“كيف حالكِ الآن؟ هل ما زال يؤلمكِ؟ آسف… كان عليّ أن أتمهّل.”
“لا بأس.”
كان الألم موجودًا، لكنه محتمل. ومع حضوره تسرّبت ذكريات ليلة الأمس، فخجلتُ وأنزلت نظري.
مهلًا…
نظرت إلى ثوبي: كنتُ مرتديةً منامتي، وجسدي نظيفٌ مرتاح.
رفعت عيني: أأنتَ من ألبسني إياها؟
هزّ رأسه إيجابًا.
توقفت عن السؤال التالي (وهل غسلني…؟) ووأدت الفكرة قبل أن يحمرّ وجهي أكثر.
بدّلت الحديث:
“نم الآن أنت أيضًا.”
“أمرُكِ.”
“لا تقل كلامًا فحسب.”
ابتسم بدل الردّ، وسحب الغطاء إلى عنقي.
لم يبدُ أنه سيغفو قبل أن أسبقَه.
مع هذا التحديق… كيف سأنام؟
لكن النعاس كان أقوى. لقد بلغتُ قاع طاقتي، واحتجتُ لإعادة الشحن.
تثاءبتُ، وبينما أنا أغرق في النعاس، داعب اسمي شفتيه:
“…هيلينا.”
“لقاؤكِ كان أعظم حظي.”
حدّقتُ به ذاهلةً، وقد بدأت جفوني تثقل.
“أول مرة أشعر بهذا… مع أحد.”
هل نثرت جنيةُ النوم غبارها على عيني؟ كانت تنغلق ببطء.
“أحبك.”
همست:
“وأنا أيضًا…”
واتخذتُ من صوته لحنًا لأعود إلى النوم.
كنتُ مطمئنةً تمامًا—ولم أرَ كابوسًا تلك الليلة.
“أين ذهب؟”
حين استيقظت ثانيةً كان الموضع إلى جواري خاليًا، كأن السرير اتسع فجأةً على غير عادته.
لا تزال حرارةٌ خافتة في مكانه، ما يعني أنه كان هنا قبل لحظات.
ربما خرج ليشرب ماء؟
انتظرتُ… طال الوقت، ولم يعد.
جاءت الوصيفات يوقظنني، وتهيأت مائدة الإفطار—ولا أثر له.
“إلى أين ذهب؟”
لماذا لا يظهر؟
تملكتني رعشة قلقٍ ثقيلة، حتى وقعت عيني على ورقةٍ صغيرةٍ موضوعةٍ بعناية على الطاولة الجانبية:
ورقةٌ مطويّة بعناية.
سأعود حالًا.
كانت رسالة ليونارد.
التعليقات لهذا الفصل " 196"