الفصل 194:
بعد أن فاتت فرصة الكلام
كانت السماء الرمادية محمّلة بغيومٍ داكنة، تصبُّ مطرًا غزيرًا كأن ثقبًا انفتح فيها.
بردٌ لا ينقطع، وأناسٌ بثيابٍ سوداء التفّوا حول قبرٍ واحد:
أصدقاء، ومعارف… وعائلة.
ليحزنوا معًا على راحلَيْن، ويودّعوهما.
قال أحدهم هامسًا:
“قيل إن السفينة انفجرت فجأة وهما عائدان إلى الإمبراطورية، أليس كذلك؟”
“الحادث كان هائلًا، لا ناجين.”
“ولكن كيف تنفجر سفينة سليمة هكذا؟”
“يُقال إن أحدهم زرع بارودًا على متنها.”
“يا إلهي! من يفعل فعلًا شنيعًا كهذا؟”
“وهل أمسكوا بالفاعل؟”
“التحقيق جارٍ، لكن الأدلة شبه معدومة.”
“سمعتُ أنهما كانا عائدَيْن بعد غياب ثلاث سنوات.”
“إذًا لم يريا ابنيهما آخر مرة…”
“مؤلم حقًا.”
“آهِ، ما أقسى القدر.”
كان القبران لزوجَي آل هيلبرت، المركيز وزوجته.
حادثٌ مباغت لم يتنبّه له أحد.
عائدان بعد زمن، لكن الموت سبق أقدامهما إلى البحر، فأغمضت عيناهما قبل أن تطأ السفينةُ أرضَ الإمبراطورية.
وضع الناس زهورًا بيضاء على القبرين، ثم انصرفوا واحدًا فواحدًا.
وبعد أن خلت المقبرة، ظلّ رجلٌ واحد واقفًا تحت المطر، لا يتقيه، ولا يزحزحه عن موضعه شيء.
“…أخي.”
جاءه صوتٌ من خلفه. كان آيزاك، أخوه الأصغر، عائدًا بعد توديع المعزّين.
اقترب وظلّل رأسه بمظلّة:
“ما بالك هكذا من دون مظلّة؟ لقد غادر الجميع، فلنعد إلى البيت يا أخي.”
تمتم ليونارد:
“أنا… آسف.”
“على ماذا؟”
“لك… وللسيد المركيز والسيدة المركيزة… لا وجه لي أمامكم.”
أطرق رأسه وهمس:
“كنتُ ابنًا عاقًّا.”
وفهم آيزاك مراده:
كان أخوه دائم الابتعاد عن العائلة، يخطو هم يقتربون.
لكن آيزاك كان يعلم أن ذلك لم يكن كرهًا—بل لأن ليونارد كان يظنّ نفسه غريبًا عن مكانٍ ليس مكانه.
ومع ذلك، هو أكثر من حمل العائلة في قلبه.
قال آيزاك بحزم:
“أيُّ كلامٍ هذا؟ كنتَ ابنًا صالحًا بما يكفي. وأبوانا كانا يريان ذلك، فلا تُثقِل نفسك بهذا الحزن.”
ووضع يده على كتفه:
“هيا بنا نعود.”
قال ليونارد بصوتٍ مبحوح:
“سأبقى قليلًا.”
“ستمرض إن وقفت هكذا.”
“لا بأس. اليوم… أريد أن أؤدي ما على الابن.”
وبقي على عناده. حاول آيزاك إقناعه مرةً بعد مرة، ثم استسلم:
“حسنًا… لكن عد قبل أن يحلّ الظلام.”
ومضى.
ظلّ ليونارد بعدها وحده أمام القبرين، لا يتحرّك.
ومضت ساعةٌ أو أكثر، حتى خيّل إليه أن ظلالًا خففت عنه وطأة المطر.
لم يتوقّف المطر—بل أحدهم ظلّله بمظلّة.
قال دون أن يلتفت:
“أنا بخير يا آيزاك.”
لكن الصوت الذي أجابه لم يكن صوت أخيه:
“اللورد ليونارد.”
انتفض.
ذلك الصوت يعرفه، لا تخطئه أذناه.
التفت بعنقٍ متيبّس، فرأى شقراء متلألئة وسط العتمة:
“…جلالتكِ الإمبراطورة.”
هِيَ—هيلينا. أسمى نساء الإمبراطورية… وحبيبته.
قالت بلطف:
“ستؤذي نفسك إن بقيت تحت المطر هكذا.”
“أنا بخير.”
“وأنا لست بخير إن تأذّيت.”
مدّت إليه يدها:
“لنعد الآن، يا لورد ليونارد.”
لو كان في حالته المعتادة لأخذ يدها فورًا.
لكنّه همس:
“لا أستطيع.”
كانت قدماه مثقلتين، كأنّ أصفادًا تشدّ كواحلَه إلى الأرض.
تلك الأصفاد اسمها: الذنب.
انعقد وجهه ألمًا:
“لم أنادِهما قط… بأمي وأبي.”
كلمةٌ تمنياها، وردّدها قلبه مرارًا، لكنه لم يخرجها يومًا.
كان غضبُ الطفولة يتمرّد لأنه ليس ابنهما من الدم.
وكان ذلك أقصى ما استطاعه من تمرّدٍ صبياني.
“ولم أقل لهما… شكرًا لأنكما احتضنتماني.”
لم يدرِ أنّ الوداع سيأتي بهذه الفجاءة.
لو علم… لترك كبرياءه جانبًا، وللانَ، بل ولتشبّث بثوبهِما كطفلٍ مدلّل.
“أريد أن أقول… سامحاني.”
لكن الفرص انقضت.
“الآن… لا أستطيع فعل شيء.”
لمّا فاتته فرصةُ الكلام، لم يبقَ سوى الندم، يلوكُ الزمن الذي لا يعود—كالأحمق.
حين رأيتُه واقفًا عند القبرين قبل قليل، هوت روحي إلى قدميّ.
أحلامي المقلقة الأخيرة—وخصوصًا ذلك الحلم الذي أرّقني—تجسّدت أمامي.
لم تكن الجثث المكدّسة، ولا بركة الدم كما في المنام، لكن هيئةُ وقوفه أمام القبر كانت نفسها، حدّ القشعريرة.
إن انجرف الآن نحو الجنون كما في الحلم فماذا أفعل؟
أنا التي عاهدت نفسي أن أحميه… هل أقدر حقًا أن أصدَّ ظلامه؟
لم أره هكذا من قبل:
كان دائمًا قويًّا، راسخًا، كاملًا في عينيّ.
أما الآن فهو هشّ، على وشك الانهيار.
احتضنته.
هذه حصّتي الصغيرة من المواساة.
استسلم لحضني بصمت، واسند ثِقله عليّ.
همست:
“كانا يعلمان.”
سكت.
“كانا يعلمان ما في قلبك، وما تفكر به. فبعض القلوب تُفهم بلا كلام.”
بين الآباء والأبناء قوّةٌ لا تُرى—ولو لم يربطهم الدم.
وآمنتُ أن الزوجين علما بحقيقة قلبه:
أنه أحبّهما، وآمن أنّهما عائلته.
زاد التصاقه بكتفي، وارتجفت يداه فوق ذراعيّ.
ارتجافا نافذا عبر جلدي إلى قلبي.
كان يُظهر لي ضعفه بلا حواجز، فآلمني المنظر.
وكأنّ طفلَ ليونارد القديم التائه يهمس: ساعديني.
ربّتُّ ظهره ببطء. وكان ذلك كإشارة البدء:
“…هَـهْ…”
أخيرًا انفجر سدُّ مشاعره.
بلّل الدمع كتفي.
وتهدّج صوته كعويل حيوانٍ جريح.
اندفعت العواطف المتراكمة سنين طويلة موجةً إثر موجة، حتى خِلتني أغرق معه.
ومع ذلك لم أفلِتْهُ—كيلا يجرفه التيار وحيدًا.
انهمر المطر، وغطّى صوته.
وكلّما اشتدّ ارتعاشه، ضممتُه أكثر.
ليت المطر يخفي دموعه، ويحمل حزنه بعيدًا.
“جلالتك!”
“يا الهي —لا موضع جافّ في ثوبك! كم من المطر لاقيتِ؟!”
حين عدتُ إلى جناح الإمبراطورة، شهقت الوصيفات.
“أعددنا ماءً دافئًا، تفضلي إلى الحمّام فورًا.”
“ستُصابين بالزكام إن بقيتِ هكذا.”
لمحتُه خلفي: كان أكثر ابتلالًا مني.
لم أستطع تركه وحده، فجئتُ به معي.
طوال الطريق لم ينطق بكلمة.
ترددتُ لحظة، ثم قبضتُ على يده—باردةٌ كالثلج.
كان وجهه شاحبًا، يبدو وكأنه سيهوِي.
لا بد أن ندفئ جسده أولًا.
رفعت رأسي وقلت:
“يا لورد ليونارد… استحمّ أنت أيضًا.”
✨ انتهى الفصل 194.
التعليقات