الفصل 183. الوليمة (4)
لهذا إذن اختفى
منذ البارحة وهو غائب عن الأنظار لأن لينارد توقّع أن يحدث شيء كهذا
مثلما فعل في حفل الشاي السابق هو دائمًا يتقدّم لإزالة الخطر قبل أن يصل إليّ
ليته فقط أخبرني مسبقًا بما كان يدبّره
يعرف كيف يفاجئ الناس في أسوأ توقيت
ومع ذلك فرؤيته الآن أزاحت عن صدري ذلك الضيق الثقيل دون أن أشعر
مجرّد وجوده هنا منحني سندًا لا يتزعزع
عندها قالت في فجأة وقد تمالكَت نفسها بصعوبة
“ما الذي تفعله بظهورك هكذا بلا مقدمات؟
أتريد إفساد الوليمة التي أعددتُها؟”
أجبتها أنا قبل لينارد
“إفساد؟ ألم تعترفي أنتِ قبل قليل بأن استقبال الضيوف من شأن الإمبراطورة؟”
“صحيح لكنه أمرٌ أوكلني به جلالته الإمبراطور”
وعادت لتحتمي باسم جيروم كدرعٍ لا يُخترق
لكنها تغفل أمرًا واحدًا
أنا لم ألتزم الصمت خوفًا من مخالفة أمر الإمبراطور
بل كي لا أُري الضيوف قبح الخلاف على الملأ
هذه الوليمة عقدٌ محتمل مع مملكة فيوري
ويكفينا أن نظهر في أفضل صورة لا أسوأها
لذا آثرتُ الصبر كي لا تتضخم الفوضى بجدالٍ طويل
غير أنّ الاحتمال له حدود
لا أستطيع أن أُهان أمام الضيوف إلى ما لا نهاية
ولا أن أترك لينارد عُرضةً للألسنة بسبب ضعفي
قلت بهدوء
“ثم ماذا؟
حتى لو صدّقنا روايتك فبمَ يضيرك أن أقدّم أنا هدية للضيوف؟
أم أنك تجرئين على منع ما أعددتُه لهم؟”
عضّت في شفتها ولم تجد جوابًا
تجاهلتُ نظرتها وحدّثتُ لينارد
“فلنرَ ما أعددت يا سير لينارد”
“أمرُكِ مولاتي”
أشار إشارة قصيرة
فدخل الخدم يحملون عدة الطبخ ومكوّناته
وفي طرف الحديقة ارتفع مطبخٌ خارجي أنيق في لحظات
وليس مطبخًا واحدًا بل اثنان
قال لينارد بنبرة شرحة
“مجرد الاستمتاع بالطعام قد يكون تقليديًا
ولذلك أضفنا متعة صغيرة
نرجو من ضيوفنا الكرام تحكيم منافسةٍ بين طاهيين”
قال الملك أسمان وقد برق في عينيه الفضول
“لم يسبق أن تولّيتُ تحكيم الطعام بنفسي يبدو ممتعًا”
“إذن دعوني أقدّم لكم الطاهيين اليوم”
دخل رجلان إلى ساحة الوليمة
أحدهما بثوبٍ أبيض أعرفه جيدًا
ماكس
طاهي جناح الإمبراطورة بشاربيه الضخمين المعهودين
أما الآخر فكان أشيب الشعر بزيّ غريب على أهل الإمبراطورية
تساءل النبلاء وهم يتهامسون
“من هذا؟ هل هو من مطابخنا؟”
وكانت الملكة رافيا أول من تعرّف عليه
“أهذا… الطاهي ريم؟”
ابتسم لينارد
“نعم هو بعينه”
اتسعت عيناها دهشة
وقال الملك لأميره
“أليس ريم هذا من أشهر طهاة قريتكِ؟”
أومأت الملكة
تذكّرتُ ما قرأتُه في المذكرات الأخيرة
رافيا ملكة فيوري تنحدر من قرية صغيرة اسمها لودِن ومن شعبٍ قليل العدد
موهبتها النادرة هي الاستبصار
ولهذه الموهبة أُخذت إلى القصر في صغرها بحجة صونها وإدارتها
ومع ذلك فودّها مع الملك صادق كما تُشيع الأخبار
ونظرة الملك إليها تؤكد ذلك بلا كلام
وأما الطبول التي سمعناها قبل قليل فلا ريب أنها من آلات لودِن
ولذلك اضطربت الملكة حين دوّت
تمتمت رافيا غير مصدّقة
“قيل إنه اختفى منذ زمن… كيف حضر إلى هنا؟”
فأجابها لينارد بلطف
“استقدمناه خصيصًا لهذا اليوم”
بدأ الطهاة عملهم أمام الجميع
شعلاتٌ تتراقص وحركات سكّينٍ كأنها رقصةٌ مرسومة
لم يملك أحد وقتًا ليملّ
ماكس كان في مزاجٍ عالٍ على غير عادته
“ها!”
يرفع يده عاليًا لينثر الملح كأنه يُطرّز السماء
“هيا!”
يقلّب المقلاة بحركاتٍ مبالغٍ فيها
ونظراته تصرخ من بعيد
مولاتي انظريني
مبالغته صارت عرضًا ممتعًا بحد ذاته
وأما طاهي لودِن فكان نقيضه تمامًا
صامتًا هادئًا
لا حركة زائدة ولا كلمة
جاذبيةٌ من نوعٍ آخر
وما هي إلا برهة حتى وُضعت أمام الحضور صحون الطبقين
تعالت أصوات الدهشة
“انظروا إلى تزيين الزهور”
“أهذه فواكه محفورة؟”
“حقًا إن طاهي القصر فنان”
ولم يقِلّ الإعجاب بطبق ريم
“أشم رائحةً لم أعرفها من قبل”
“توابل لا توجد عندنا في الإمبراطورية”
“تلسع اللسان ثم تُرضيه… غريبٌ لكنه محبوب”
قبل أن يتذوقوا حتى انهالت المديحان على الطبقين
قال لينارد
“تفضلوا واستمتعوا بما أُعدّ لكم”
بدأت الأطباق تدور
ابتدأنا نحن والملك والملكة ثم لحقنا الجميع
وسُمعت عبارات الاستحسان من كل ناحية
سألتُ الملك أسمان
“أتلائمكم الأطعمة؟”
ضحك راضيًا
“شهية للغاية
ماهرٌ طاهيكم يا مولاتي”
رأيت كتفي ماكس يعلوان فخرًا هناك في البعيد
وتابع الملك
“وطبقُ ريم ممتاز أيضًا
التعامل مع التوابل القوية فنٌّ صعب
لقد فاق ما سمعته عنه”
التفت ليكمل رأيه مع زوجته
“وأنتِ ماذا ترين—”
لكن كلماته انقطعت
دمعة صافية انزلقت من عين الملكة رافيا
“حبيبتي”
غطّى الملك يدها بكفه قلقًا
هزّت رأسها تطمئنه ثم قالت بصوتٍ ابتسم لأول مرة هذا المساء
“لذيذ جدًا
إنه طعم الوطن”
طعـم القرية البعيدة أيقظ قلبها
ونظرة الملك إليها كانت دافئة لا حدّ لها
مسحتُ القاعة بنظري
كان الجميع مندمجًا في الدفء والرضا
شخصٌ واحد فقط ظلّ جامدًا كالصخر
في
لم تمسّ طعامها
جلست كتمثالٍ مكسوٍّ بالغيظ
قبل قليل كنتُ أنا من يحمل هذا الوجه
تبدّل المشهد قلبًا وقالبًا
الآن هي التي تجلس على كرسيٍّ من شوك
التعليقات لهذا الفصل " 183"