الفصل 176. إن لم تكن لي
“هيلينا… هيلينا، أرجوكِ…”
عندها فقط أدركت فاي.
جيروم لم يكن يحدّق في النافذة شاردًا فحسب؛ كان يطارد طيف الإمبراطورة في الهواء.
“ماذا أفعل؟ ماذا عليّ أن أفعل لتعودي وتنظري إليّ؟ ها؟”
تمتم بلا توقف.
هو، الذي يقف في أعلى مقام،
هو، الذي اعتاد أن ينال ما يشاء،
بدا الآن عاجزًا ومُحطّمًا إلى حدٍ مؤلم.
عضّت فاي على شفتها.
لا…
كرهت أن يطلب امرأة أخرى أمامها.
كرهت أن يتوسّل لامرأة أخرى وهي واقفة هنا.
لا، لا… لا!
قبضت على ذقنه بقسوة ورفعت رأسه إليها:
“انظر إليّ!”
“انظر جيدًا لمن تقف أمامك الآن!”
صرخت في عينَيه الحمراوين الخاويتين:
“التي أمامك لست تلك المرأة، أنا! فاي!”
ربما بلغ صوتها قلبه أخيرًا، إذ قال بصوتٍ منخفض وقد عاد إليه وعيه:
“إذًا… أنتِ.”
ثم وضع يده على جبينه وكأن ألمًا ضرب رأسه.
“جلالتك! هل أنت على ما يرام؟”
مدّت فاي يدها إلى جبينه—
طَرق!
أزاح جيروم يدها ببرود وقال محذّرًا:
“ما الذي تفعلينه هنا؟ أمرت بألّا يدخل أحد.”
حدّقت فاي إلى يدها المصفوعة، ثم ابتسمت باهتة:
“ولمَ لا آتي؟ هل دخلت مكانًا محرّمًا عليّ؟”
“لست في مزاجٍ لألاعبكِ بالكلام. اخرجي بهدوء قبل أن أغيّر رأيي.”
“لا. لن أخرج. سأبقى.”
بل اقتربت منه أكثر استفزازًا.
ثوبها الخفيف أبرز انحناءات جسدها، وعطرٌ حلوٌ نافذ تسلّل بين رائحة الخمر.
طوقت عنقه وهمست:
“ضمّني، جلالتك.”
قطّب جيروم حاجبيه. لم تكن المسألة مسألة جرأة فقط؛
فمع اقترابها، ازداد ذلك العبق الغريب الذي ميز أنه ليس عطرًا عاديًا.
أبعدها عنه دفعةً واحدة.
“آه!” شهقت فاي من القسوة.
قال بوجهٍ خالٍ من التعابير:
“لم أتوقع أن تنحدري لهذه الحيل. هل أنتِ بوعيِك؟”
كانت تعلم أنها لم تعد بكامل وعيها.
لكن أيّ شخص لا يجنّ إذا رأى حبيبه يتلهّف لامرأة أخرى أمام عينيه؟
بأيّ حالٍ وصلتُ إلى هنا…؟
أحسّت بالمهانة. لم ترد أن تسقط إلى هذا القاع أمام من تُحب.
وحمّلت جيروم ذنب دفعها إلى هذه الحافة.
“لِمَ تغيّرت هكذا؟” انفجرت باكية.
“إن كان هذا هو الحال، فلِمَ دلّلتني من البداية؟”
“لِمَ كنت رقيقًا معي؟ لماذا جعلتني إمبراطورة ثانوية؟”
كان ألين الناس معها يومًا؛ يمسح دموعها أولَ من يصل.
أما الآن، فمهما بكت، لم يبدِ سوى برودٍ قاسٍ وكأن أمرها لا يعنيه.
زادها ذلك بؤسًا.
“هل… ولو للحظةٍ واحدة…”
همست بالكاد:
“هل أحببتني يومًا؟ حبًا صادقًا؟”
قال ساخرًا:
“حب؟”
وأمال رأسه؛ ظلُّ القمر رسم قسوةً على ملامحه.
ارتسم على شفتيه شبه ابتسامة ملتوية:
“أدركتِها الآن فقط؟”
“…!”
“كان عليكِ أن تفهمي دوركِ. ما كنتِ إلا وسيلةً لإبقاء تلك المرأة بقربي.”
“كـ… كيف تقول هذا؟”
اهتزّت نظرات فاي بعنف. وسيلة؟ فقط لأجل هيلينا؟
أتكون الرقة كلها تمثيلًا؟
وإن كان تمثيلًا…
ارتعدت. لم يعد هذا تمثيلًا بل قسوة متجذرة.
“كفي عن إزعاجي. رأسي ممتلئٌ بها… ولا مكان لغيرها.”
* * *
صباح اليوم التالي.
“جلالتك.”
“…”
“جلالتك؟”
“آه… ماذا قلتِ؟”
كنتُ شاردة منذ الصباح.
“بماذا تفكّرين؟”
“لا شيء…”
لا أستطيع أن أقول: أفكر في ليونارد.
بعد اعترافي الصريح له، روحي خفيفة كأني أمشي فوق الغيم.
يقولون إن الدنيا تصير وردية حين نحب—مبالغة… لكنها ليست كذبًا تمامًا.
السماء أزرق، والهواء أنقى، وكل تفصيلة لها معنى.
لا. تمالكي نفسك، هيلينا.
ثمة أمر كبير يقترب.
سيصل وفدٌ كريم من مملكة فيوري في القارة الشرقية، وسيقام لهم حفل عشاء استقبال.
“هل وصل ردّ جلالته على الأوراق التي أرسلناها؟”
هزّت كونتيسة كلوي رأسها:
“لا رد حتى الآن.”
جيروم… بمَ تفكر؟
سمعتُ أنه يقضي لياليه بين الخمر وأوراق العمل.
فكرت في زيارته… لكنني عدلت؛ لن يزيد ذلك الوضع إلا سوءًا.
سيدبّره وحده. تجاهلي.
عدتُ إلى التحضيرات.
وحين راجعت قائمة هدايا الضيوف…
هذا يناسب ليونارد جدًّا— لا، لا…
كتبت اسمه بلا وعي، ثم شطبتُه بسرعة.
وحرارتي ترتفع من الحرج، بينما كلوي تبتسم بصمت لمحتى ولم أرها.
* * *
“ها… هاها…”
كانت فاي تضحك وحدها ضحكةً مجوفة.
عادت إلى بيتها القديم، هاربة من العيون، هاربة من القصر ذاته.
أي مكان بعيد عن القصر مقبول؛
فكل زاوية هناك تذكّرها بوجهه البارد وكلماته القاطعة.
لأجل ماذا بذلت كل هذا؟
كل شيء بدا بلا جدوى.
لم يحبّها—كانت مجرد وسيلة لإبقاء الإمبراطورة قربه.
كل محاولة لقلبِ قلبه كانت عبثًا.
أين اختلّ الطريق؟ لم تطلب الكثير؛ كل ما أرادته منذ البداية كان جيروم.
هل كان ذلك خطأً إلى هذا الحد؟
أحبت، وسعت، اجتهدت لتملك قلبه… أهذا ذنب؟
تلك المرأة تملك الحب والسلطة… أما هي فطمعها الوحيد القلب، أفهذا جرمٌ عظيم؟
سألت نفسها مرارًا… والجواب واحد:
إن كان لها ذنب، فذنبها أنها قاتلت من أجل الحب.
“ماذا تفعلين هنا؟”
دخلت أنثيا، أمُّها.
رفعت فاي نظرها إليها هامدة:
“انتهى كل شيء.”
“ما الذي انتهى؟”
“كل شيء… كل شيء، يا أمي.”
“سيدرك من تحتاجه بقربه؟ لا… لن يفعل.”
“لم يحبني يومًا. استعملني فقط.”
ابتسامة باكية ملتوية شقّت وجهها:
“لن يراني أبدًا. مهما فعلتُ، لن يرى غير تلك المرأة.”
ضحكت كالمجنونة آخر الأمر.
راقبتها أنثيا بصمت؛ ومضت شرارة في عينيها لم تلحظها فاي.
وحين خمدت ضحكتها، قالت أنثيا:
“وهل ستقفين مكتوفة اليدين؟”
“ماذا أفعل بعد الآن؟” همست فاي.
“إذا كان القلب لا يُردّ بالقوة، فما نفع أي شيء؟ لن يتغير شيء.”
أرادت أن تستسلم؛ تعبت.
“لا، يا صغيرتي.”
حدّقت أنثيا في عينيها وقالت:
“انتقمي.”
ارتسمت على شفتيها الحمراء ابتسامة مشؤومة:
“ليتألموا كما تألمتِ…”
كانت كالساحرة في حكاية، همسها يخترق نقاط الضعف:
“ما في القلوب لا يُمتلك إلى الأبد. الخلود وهمٌ يصنعه الناس.”
اقترب صوتها من الأذن والقلب:
“فإن لم تستطيعي نيلَه…
فلا ينله أحد.”
تزلزلت نظرة فاي، وتصاعد شيءٌ أسود من أعماقها.
غطّت أنثيا يد ابنتها بكفّها، كأنها تُغلق عليها قيدًا ناعمًا، وهمست مجددًا:
“هكذا فقط تتحقق العدالة، أليس كذلك؟”
“…آه.”
نظرت فاي إلى يدها؛ هدية أمها الصغيرة تستقر فيها—قنينة دقيقة فيها سائل شفاف.
لا تعليمات، لا شرح… لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا:
تعرف لمن تُستعمل.
التعليقات لهذا الفصل " 176"