الفصل السابع عشر – هل يعقل… أنّها الحقيقة؟
“تطلب أن يُزاد حُرّاس جناح الإمبراطورة؟”
“نعم”
كان الوقت متأخّرا حين قصد ليونارد مكتب غابيـان.
“إنّ تقصير الحراسة في جناح الإمبراطورة أمر تعلمونه أنتم أيضا جيّدا”
غابيان لم يُجب، ظلّ صامتا لحظة يفكّر قبل أن يقول ببطء:
“أيّها الفارس ليونارد”
“نعم”
“أتقول هذا حقّا بدافع القلق فقط على جناح الإمبراطورة؟”
“لا أفهم قصدكم”
“هذا لا يُشبهك”
“ماذا تعنون؟”
“الرجل البارد الصارم، الفاصل بين العام والخاص، القدوة لكلّ فارس”
“أتظنّ أنّ طلبي غير عادل؟”
هزّ غابيان رأسه:
“طلبك عادل، لكن الأمر لا علاقة له بالعدل. الجميع يعلم أنّ جلالة الإمبراطور يُعنى بالأميرة عناية خاصّة”
“لا أطلب إهمال جناح الإمبراطورة الثانية، بل أن نُظهر الحدّ الأدنى من الحرص تجاه جناح الإمبراطورة الحقيقية”
“في النهاية المعنى واحد، وقد تنقلب المسألة علينا”
“إذن دعوني أتكفّل بالأمر. سأكون حارس صاحبة الجلالة بنفسي”
“ليونارد!”
ارتفع صوت غابيان فجأة:
“لا أعلم لأيّ سبب تُصرّ بهذا الشكل، لكنّك قائد الفرسان! أيليق بقائدٍ مثلك أن يصرّ على حراسة الإمبراطورة؟ كيف تراها عيون الذين يتبعونك؟”
ظلّ ليونارد يُحدّق به في صمت.
“عشرات الفرسان يحرسون جناح الأميرة، بينما جناح الإمبراطورة يكاد يخلو من الحماية، أليس هذا مُجحفا؟”
“……”
“إن لم يُقبل هذا القدر من طلبي، فسأتنحّى عن منصبي كقائد”
“لا تُخبرني… أنّك حقّا…”
تجمّد جبين غابيان وهو يقول متردّدا:
“كنت أعلم أنّك تزور جناح الإمبراطورة كثيرا هذه الأيّام، لكن… أيمكن أنّك جاد؟”
“وهل ذلك مهمّ؟”
“إنّها جلالة الإمبراطورة”
“وأنا أعلم”
أجاب ليونارد بهدوء ثمّ استدار. خلفه سمع زفرة غابيان المثقلة:
“الإمبراطور لن يقبل أبدا، مهما كان طلبك عادلا”
خرج ليونارد من قاعة الاجتماع. رغم أنّ النسيم ربيعي، كان البرد يلسع وجهه.
في البداية كان مجرّد فضول. فضولٌ أثاره أنّها تعرف وجها من وجوهه التي أخفاها طويلا. كيف علمت؟ وإلى أيّ حدّ تعرف؟
اقترب منها فقط ليعرف الجواب.
لكن…
ذلك الشعر الذهبي البهيّ، وتلك العينان البنفسجيتان المضيئتان. وجهها الذي يُظهر كلّ ما تشعر به دون حذر.
حين يكون قربها، يجد نفسه مبتسما من غير قصد.
أهذه هي المرأة التي وُصمت بالشرّ؟ مُحال.
فضوله تحوّل إلى رغبة في معرفة المزيد.
صغيرة، رقيقة، دافئة. كأرنب مذعور. أراد أن يظلّ يراها أكثر.
وحين عثر على آثار متسلّل في جناحها… والآثار تصل حتّى غرفة نومها.
حين رآها خالية… تجمّد قلبه وسقط. ركض بجنون عبر القصر، يبحث في كلّ مكان يمكن أن تمرّ به.
لم يعرف ما فكّر فيه وقتها.
وحين وجدها أخيرا…
كانت تقف بجانب رجل غريب، تقول له بابتسامة: “لا تقلق، كما قلتُ لك، لستُ بتلك السوء”
وقتها… انقبض صدره وكأنّ الجليد سكب داخله.
حين يستعيد تلك اللحظة، يشعر بالغضب.
ربّما لهذا السبب بالذات تقدّم بطلبٍ يعرف أنّه مرفوض.
“سيدي القائد!”
اقترب منه أحد الفرسان الشبان، كان كونراد.
“ماذا جرى؟ سمعت صراخ السيّد غابيان إلى خارج القاعة”
رمقه بعين حذرة، ثم همس:
“لا تقل أنّه عاتبك لأنّك تأخّرت عن الاجتماع الماضي؟”
“ليس الأمر كذلك”
“إذن ما الذي جعله يرفع صوته؟ هل فرض عليك طلبا قاسيا؟ قلها فقط، أنت تعلم كم يقدّرك الفرسان”
“الذنب ليس ذنبه، بل أنا من طلبتُ حراسة جلالة الإمبراطورة بنفسي”
“……!”
اتّسعت عينا كونراد:
“ح… حراسة الإمبراطورة بنفسك؟!”
“نعم”
“ولكن… لماذا؟”
“لأنّها تحتاج”
“لكن هذا مستحيل! حتى لو وافق السيّد غابيان، جلالة الإمبراطور نفسه لن يقبل أبدا”
“حقّا”
“الإمبراطور لا يطيق أن يُمسّ شأن الإمبراطورة، كيف سيقبل؟ هذا محال”
“محال بالطرق العاديّة إذن؟”
“طبعا!”
“فربّما… بالطرق غير العاديّة يصبح ممكنا”
“ماذا؟!”
حدّق به كونراد مذهولا. ليونارد كان يبتسم ابتسامة باردة جعلت عرقه يتجمّد.
“سيدي القائد… لقد فكّرت للتوّ في أمر خطير، أليس كذلك؟”
“لا أبدا”
“بل نعم. أنا واثق”
“……”
“سيدي القائد!”
في يوم الحفل.
“اليوم ستكون جلالة الإمبراطورة الأجمل بلا منازع”
قالت الوصيفات بفخر.
“هذا أفضل ما أعددناه على الإطلاق”
“السرّ ليس في الفستان، بل في جمال صاحبة الجلالة”
“نعم، لمجرّد أن ترتدي ما يليق بها، تُصبح تحفة فنيّة”
فستان أزرق بلون البحر، تُزيّنه دانتيل أبيض. وزُيّنت بالذهب الأبيض لتزداد وقارا.
بالفعل، صدقت الوصيفات، فقد صرتُ فور دخولي الحفل محطّ الأنظار.
“آه، جلالة الإمبراطورة!”
“إنّك حقّا متألّقة!”
“أيّ تاجر صنع هذا العقد المذهل؟ إنّه يليق ببشرتك البيضاء”
لم أتوقّف عن تبادل التحايا، غمرني الناس من كلّ صوب.
“أنا الماركيز إيميت من آل سيلفينتز”
“وأنا الكونت لويس من آل موفرانغ، الشرف لي”
كثرت الأيادي، وكثرت القُبل على ظاهر يدي حتّى شعرت بالقشعريرة.
آه، لم أعتد على هذا أبدا! تبدو جميلة في الأفلام والروايات، لكن في الواقع… مُرعبة!
مع الوقت جلست بعض السيّدات بجانبي يتسابقن في رواية أخبار المجتمع.
استمعت لهنّ بإعجاب. فلان ربح في التجارة، وفلان خسر، وهذه العائلة كسبت ثروة.
لكن الأكثر إثارة… قصص العشق السرّي.
“تظنينه في الاجتماع؟ لا! خرج من بيت الجارة!”
“يا للعجب! كان على علاقة بوصيفة؟ لا، بعشيقة!”
كنت أستمع بانبهار. هل هذه هي الروايات العاطفيّة الحيّة؟ مثيرة حقّا!
وفجأة قالت إحداهنّ:
“على فكرة، سمعت أنّ ملك مملكة كالوس حضر الحفل أيضا”
“ملك كالوس؟ الجديد؟”
“نعم، ذاك الشاب ذو الشعر الأحمر القاني”
…شعر أحمر؟
تذكّرت فورا ذلك الرجل الغريب الذي التقيته بالأمس. قال إنّه من مملكة كالوس أيضا.
مستحيل… أليس كذلك؟ هناك ألوان كثيرة للشعر، ألوان كقوس قزح. لكن الحاضرين أضافوا:
“الشعر الأحمر القاني ليس شائعا أبدا، يلفت الأنظار في أيّ مكان”
تجمّد جسدي، ابتلعت ريقي.
“يُقال إنّ الملك لم يتزوّج بعد”
“مستحيل! ملك أعزب؟”
“إنّه يكره الزواج ويُبعد كلّ اقتراح”
“لكنّهم يقولون إنّه وسيم بشكل يُنسيك كلّ شيء، من يراه لا ينساه”
…وماذا لو كان هو؟
ارتفعت الهمهمة ثم ساد الصمت فجأة. اتّجهت الأنظار إلى مدخل القاعة.
ظننت أنّه جيروم، بطل الرواية.
لكن الذي ظهر كان رجلا آخر… رجل وسيم بشعر أسود هادئ يتدلّى على جبينه، يشقّ الجمع بخطوات واثقة.
✨ انتهى الفصل السابع عشر.
التعليقات لهذا الفصل " 17"