الفصل 160: لم تتركني
في اليوم الذي نزلت فيه من العربة، كان أول من ضمني هو جيروم.
طلبت منه مرارًا أن يتركني، لكنه لم يقل شيئًا، واكتفى بأن يحيطني بذراعيه القويتين.
وحين تعبت من المقاومة واستسلمت للصمت، ناداني بصوت عميق ومبحوح:
“هيلينا.”
“حين اختفيتِ… شعرت بخوف لا يوصف. خشيت أن لا تعودي أبدًا.”
اشتدّت قوته وهو يعانقني أكثر.
“ظننت أنك تخلّيت عني… وتركتني.”
ثم همس بصوت مرتجف، ورأسه منحني على كتفي:
“لكنك عدتِ إليّ… كم أنا محظوظ.”
شعرت بحرارة أنفاسه تلتهب عند أذني، ووجنتي تحترقان كلما تكلم.
لكن أكثر ما أقلقني لم يكن قربه الشديد، بل العيون التي كانت تراقبنا:
الوصيفات داخل العربة، الفرسان الذين كانوا ينتظرون وصولنا، والخدم المارّون في الساحة.
رأيت في نظراتهم شيئًا غريبًا… دهشة، فضول، وبعضهم حاول أن يخفي ابتسامة.
آه… إنهم يظنون أنني كنتُ فقط في القصر الفرعي وحدي.
إنهم لا يعرفون أنني قضيت الوقت مع ليونارد وسيدريك.
لذلك عندما رأوني في حضن الإمبراطور، حسبوا أن علاقتنا تغيّرت.
تجهم وجهي ودفعته قليلًا:
“الناس ينظرون! قلت لك من قبل… أرجوك أتركني.”
لكن جسده الصلب لم يتزحزح، كأنني محاصرة بصخرة من جميع الجهات.
ولم أتمكن من الإفلات حتى قامت الوصيفات بإبعاد الحشود، فخفّت النظرات حولنا.
حينها، رفع يده اليمنى ولمس وجنتي برفق.
كانت يده باردة كالثلج، فأرتجفت بلا وعي.
“وجهك شاحب. هل أنتِ مريضة؟”
رفع ذقني ليلتقي نظره، وتفحّص ملامحي بقلق:
“حتى وزنك انخفض قليلًا…”
حدّقت فيه بذهول. لم يكن ذلك ما أدهشني… بل شيء آخر.
عينيه…
عينا جيروم كانتا محتقنتين بالدم، متعبتين بشدة، كأنه لم ينم منذ أيام.
لا… هو في حالة أسوأ مني بكثير!
عرفت لاحقًا أنه منذ اختفائي لم يغمض له جفن، ولم يذق طعم النوم.
أي شخص آخر لكان انهار من الإجهاد.
لكن هو… ظل واقفًا، محتفظًا بهيبته الإمبراطورية.
تنهدت بخفوت وقلت:
“أنا بخير، صدقني. لا تقلق عليّ.”
لكن يبدو أنه لم يسمعني، فقد همس بغضب:
“هل ذلك الوغد أذاكِ؟”
“…ماذا؟”
“ليـونارد. هو من جعلك تعانين، صحيح؟”
قاطعت كلامه بسرعة:
“لا. ليس الأمر كذلك.”
أظن أن اختفائي كان صدمة عنيفة له…
حتى إنه ما زال يعتقد أن ليونارد اختطفني.
قلت له بجدية:
“لا زلت تظن أنني اختُطفت؟”
أجاب ببرود:
“سمعت أنكِ تبعتِه حتى بعدما اكتشفتِ أن الذي في العربة لم يكن أنا.”
أخفض رأسه ساخرًا:
“حينها لم أُرد أن أصدق. تمنيت لو أنكِ تكذبين وتقولين إنك لم تعرفي.”
قلت ببرود:
“للأسف، لا أجيد الكذب.”
ابتسم فجأة، وكأن الأمر لم يعد مهمًا:
“لكن لا يهم. لقد عدتِ الآن.”
شهقت بصوت خافت.
“حتى أنك لم تأتِ معي إلى القصر الفرعي… هذا لا يزعجني. يمكننا الذهاب معًا في المرة القادمة.”
ضحك بخفة وأضاف:
“المهم… أنك رجعتِ. هذا يكفي. لم تتركي يدي، ولم تتخلي عني.”
ابتسم كأن هذا وحده كافٍ ليجعله سعيدًا.
* * *
بعد هذا اللقاء الحاد، عادت هيلينا إلى جناح الإمبراطورة.
أما جيروم، فظل يراقبها من بعيد حتى اختفت عن ناظريه، ثم عاد إلى مكتبه.
كان سعيدًا حقًا بعودتها.
بالنسبة له، هذا يعني أنها اختارت العودة بإرادتها.
ولو لم ترد، لَما أعادها “ذلك الرجل” أبدًا.
مد يده إلى النافذة التي تطل على جناحها.
كأنه ما زال يشعر بدفء خدها على كفه.
هيلينا لا تعلم…
أن كل تعبه وغيظه ومرارة الفقد تبخرت حين عانقها.
كان يخشى ألا يراها ثانية، لكنه الآن سعيد بجنون فقط لأنها أمامه.
لكن ابتسامته سرعان ما اختفت.
تذكّر كلمات ليونارد التي قالها له:
“أنا لا أريد العرش… ما أريده هو شخص واحد فقط.”
“إنها تريد الحرية بعيدًا عن هذا القصر. لو استعدتُ مكاني، فلن تستطيع الهرب أبدًا.”
“لذلك، خذ العرش كما تشاء، جلالتك.”
تغيّر وجه جيروم إلى الظلام.
قبض يده بقوة.
“ليـونارد…”
لن يغفر له.
لقد تجاوز حدوده بمحاولة خطف زوجته.
استدعى جيروم ماركيز نيكولاد، وأصدر له أوامر خاصة.
رفع الماركيز حاجبيه بدهشة:
“لكن يا مولاي… لا دليل على أن ليونارد اختطف الإمبراطورة. كيف نعاقبه؟”
ابتسم جيروم ببرود:
“إن لم يكن هناك جريمة… سنصنع له جريمة.”
اتسعت عينا الماركيز صدمة.
أما جيروم فأكمل بابتسامة مشوهة:
“من يجرؤ على مد يده إلى الإمبراطورة، لا بد أن يدفع الثمن.”
* * *
في اليوم التالي.
دخل غابيان، قائد فرسان الحرس الإمبراطوري، إلى مكتب ليونارد.
“ما الأمر؟” سأل ليونارد متفاجئًا.
غابيان أجابه بصوت ثقيل:
“ليـونارد.”
ثم أكمل بصرامة:
“أقبض عليك بتهمة محاولة اغتيال أحد أفراد العائلة الإمبراطورية.”
“…!”
* * *
لكن لم يكن أحدهما يعلم أن كونراد كان واقفًا خارج الباب، يستمع إلى كل شيء.
كان قد جاء ليقدّم تقريرًا لليـونارد، لكنه تجمّد مكانه حين سمع صوت غابيان.
اتهام بمحاولة اغتيال…!؟
كاد رأسه ينفجر من الصدمة.
لا يمكن! القائد لم يفعل شيئًا كهذا. هذا ظلم واضح!
ارتجف قلبه وهو يفكر بسرعة.
لا أحد يستطيع إنقاذ القائد الآن سوى…
“الإمبراطورة!”
شد قبضته واندفع مسرعًا في الممر.
كان عليه أن يبلغها فورًا.
انتظرني يا قائد… سأجلب من ينقذك!
التعليقات لهذا الفصل " 160"