الفصل 157. علاقة قدرية لا تنقطع
«كذب.»
أنكر جيروم في داخله.
فكرة أن هيلينا اختارت أن تتبع غيره وهي تعرف أنه ليس هو… أمر لا يصدق.
بالمنطق، كان يدرك أن ليونارد ليس رجلاً ليكذب في مثل هذه الأمور.
لكنه لم يستطع تقبّل ذلك، فالألم الذي كان يضرب قلبه لم يعتد عليه قط.
أقنع نفسه أن هيلينا لم تكن تعلم شيئًا.
وأن كل ما يقوله ليونارد الآن ليس سوى كذبة لزعزعة توازنه.
هكذا أراد أن يصدق، هكذا أراد أن يتمسك بعقله.
لكن ملامحه كانت قد تصلبت بالفعل، والحدة في عينيه ذبلت فجأة كأنها جفت.
«هيلينا…»
ناداها في أعماقه.
لطالما كان يتمتم باسمها كلما ضاقت به الدنيا، حتى صار الأمر عادة متجذّرة في روحه.
«هيلينا… هيلينا…»
تمنى أن تظهر فجأة لتقول إن كل هذا مسرحية من صنع ليونارد.
تمنى أن تؤكد له أنها وإن كانت تكرهه، إلا أنها لن تفعل به أمرًا بهذه القسوة.
«لقد وعدتِ أن تأتي معي إلى القصر الفرعي… لا معه، بل معي أنا…!»
لم يحتج لأعذار أخرى.
كان يكفيه أن تقول كلمة واحدة: «لا».
لو أنكرت بلسانها فقط، لأمكنه أن يصدق حتى الكذبة الواضحة.
قرر ألا يصدق أحدًا… إلى أن يسمع من فمها هي.
لكن بينما همّ ليونارد بالابتعاد كأنه أنهى حديثه، انتفض جيروم وأجبر نفسه على النطق:
“كفّ عن الهراء. ما الفائدة التي ترجُوها من كلام كهذا؟”
ابتسم ليونارد بهدوء وأجاب:
“لم أقل سوى الحقيقة. تصدق أو لا تصدق… الخيار عائد لك.”
ذلك الهدوء لم يزد جيروم إلا قلقًا.
قال ليونارد:
“في الواقع، يجدر بك أن تشكرني. لولاي، لما عرفت حتى بوجود هذا المكان.”
“أتزعم أن احتجازك للإمبراطورة عملٌ محمود؟”
“الظروف أحيانًا تقتضي أساليب جريئة.”
“وهل خطر ببالك أنك بهذا وضعتَها في خطر أكبر؟”
ضحك ليونارد ساخرًا:
“أتظن أنني سأؤذيها؟ على عكس بعض الناس… لن أفعل ما قد يضرها أبدًا.”
كانت نبرة ازدراء صريحة.
“لقد تماديتَ بما يكفي.”
غضب جيروم، ولم يعد يملك صبرًا.
كل برودة عقله تبعثرت، والقرارات الحاسمة التي اعتادها ضاعت.
رفع سيفه عاليًا:
“سأجعل فمك يخرس إلى الأبد.”
لكن قبل أن يهوي بالسيف، دوّى في داخله صوتٌ عالق من الماضي:
«أرجو أن تحسن معاملة طفلي الذي سيولد قريبًا…»
“…!”
ظهرت صورة امرأة أمام عينيه.
امرأة تملك الشعر الأسود القاتم ذاته الذي يميز ليونارد.
في هذه الأثناء، كانت أنتيا قد اختبأت قبل وصول ليونارد وجيروم بلحظات.
“لقد أسديتَ لي خدمة كبيرة.”
قالت للرجل الجالس قبالتها.
“لولا تحذيرك بأن الإمبراطور قادم، لوقعتُ في قبضته.”
ابتسم الرجل وهز رأسه:
“هذا طبيعي. نحن حلفاء، أليس كذلك؟ التحالف قائم على المساعدة المتبادلة.”
سألت أنتيا بنبرة متحفزة:
“لكن من يكون هذا القائد… ليونارد؟ إنه يتدخل في كل شيء.”
كانت تعرف أنه قائد الفرسان بارع، لكن لم تتوقع أن يستخدم حتى حمامة فاي ليقتفي أثرها.
لو لم تنتبه، لكانت أسيرة الآن.
شعرت وللمرة الأولى بقلق حقيقي.
أما الرجل فقال بهدوء:
“أغلب الظن أنه كشف جزءًا من هويتك. لقد ورد ذكر اسمك في رسالة القرينة.”
“على أي حال، تلك الفتاة لا تصلح لشيء.”
زمّت أنتيا شفتيها بضيق.
ثم أضافت:
“علينا أن نضرب قبل أن يكشفونا. كلما تأخرنا، زادت خسارتنا.”
ابتسم الرجل ابتسامة باردة:
“لا تقلقي. هناك خبر سار. معظم ما نحتاجه أصبح جاهزًا… الشعب الناقم على الإمبراطور كثير.”
تألقت عينا أنتيا باهتمام:
“أتقصد…؟”
ابتسم بخبث وقال:
“لقد حان وقت الحرب.”
“أخيرًا…”
لمعت عيناها بلهفة.
هذا ما انتظرته طويلًا.
أما جيروم، فلم يفلح في توجيه ضربته إلى ليونارد.
توقف السيف عند مسافة شعرة من عنقه.
صمت ثقيل خيّم على المكان.
كان جيروم يحدّق لا في وجه ليونارد، بل في صورة خلفه، صورة امرأة من ماضيه.
همس بمرارة:
“…يا لها من لعنة.”
كانت تلك صورة امرأة رحلت منذ زمن بعيد.
الذنب الذي تركته في قلبه ظل يقيده حتى اللحظة.
ذكريات الماضي
حين قتلت والدته الإمبراطور السابق بيدها، قالت كلمتها:
«انظر، يا مولاي… ابني سيكون الإمبراطور القادم. ليس ابن تلك الإمبراطورة التي أحببتها، بل ابني أنا، ابن ليريانا.»
ترددت تلك الكلمات دائمًا في ذهن جيروم.
لماذا كانت أمه متأكدة أن للإمبراطورة السابقة ابنًا؟
كأنها رأته بعينيها.
لكن الجميع قال إن الطفل مات قبل أن يولد.
ومع ذلك، كان صوت أمه يقول بوضوح: «ابن الإمبراطورة».
عندها تسلّل الشك إلى قلبه:
«ماذا لو وُلد ذلك الطفل حقًا… وعاش؟»
عاش في خوفٍ وريبة.
سنوات طويلة وهو يكلّف رجاله بالبحث عن الحقيقة.
لكن لم يجدوا شيئًا، فأقنع نفسه أخيرًا أن كل شيء انتهى.
حتى جاء يوم المراسيم، حين وقف أمامه فارس جديد في حفل القسم.
«من هذا الفارس؟»
«أوه، إنه المتفوق في اختبار الفرسان الأخير. اسمه ليونارد هيلبيرت.»
حينها رآه.
ورأى في ملامحه صورة لا تُخطئها عين.
ابن الإمبراطورة السابقة.
لم ينتبه أحد غيره، فقد عاش ليونارد كفارس تابع لعائلة هيلبيرت.
لكن جيروم تحقق بنفسه: لم يكن دمه من تلك العائلة.
هكذا أيقن: الطفل الذي ظنه ميتًا، عاد حيًّا أمامه، وبات الآن في القصر ذاته.
لم يؤذه حينها، لأن موت أمه كان يشعره بالذنب.
لكنه لم يتخيل أبدًا أن ينتهي الأمر بأن يصبح عدواً لدودًا.
ضحك بمرارة:
«قدر قاسٍ… علاقة لا تنقطع.»
كأن الآلهة سخرت منه وربطت خيوطهما عمدًا.
لو أنه فقط… لو أنه قتل ليونارد يومها قبل أن يترعرع، لما حدث كل هذا.
لو أنه أخرجه من القصر يومها، لما اقترب من هيلينا.
لكن الآن… فات الأوان.
التعليقات