الفصل 143 – هل تعرف لماذا أطعتُ والدي طوال هذا الوقت؟
“لا بدّ أنكِ تعمدتِ النوم طويلًا اليوم أيضًا، أليس كذلك؟ فقط لتتفادي درس البيانو؟”
سأل دوق هايتنغز بنبرة صارمة.
“قلتُ لكم إنني مريضة.”
لم يكن صوتي أنا، بل صوت الطفلة هيلينا.
التفتُّ فرأيتُها أمامي.
قال الدوق بصوت قاسٍ:
“كُفي عن التذرع بالمرض. لقد جاء الطبيب وفحصك وأكد أنك بخير.”
“إذن الطبيب أخطأ في فحصه… أو أنه غبي.”
“هيلينا.”
“… فهمت.”
نهضت هيلينا من السرير ببطء.
عندها أمسكت بها امرأة جميلة ذات شعر أشقر متلألئ.
“عزيزي… أظن أن هيلينا ليست على ما يرام اليوم. دعها ترتاح يومًا واحدًا فقط.”
ارتبك دوق هايتنغز على غير عادته.
“لكن… المعلم جاء بالفعل إلى القصر.”
“لا تقلق، سأصرفه بنفسي. إن أرهقتَها أكثر فربما يزداد وضعها سوءًا.”
تردّد قليلًا، ثم قال مستسلمًا:
“… هذه المرة فقط.”
وبعد أن غادر، أعادت المرأة الصغيرة إلى سريرها وغطّتها بلطف.
ثم سألتها:
“هل ما زلتِ حزينة لأنك لم تفوزي بالمركز الأول في الحفل الأخير؟”
“لقد كان خطأ مني. كنت قادرة على العزف أفضل… أبي لا بد أنه انزعج كثيرًا.”
“مستحيل. حتى حصولك على المركز الثاني إنجاز عظيم. كان والدك فخورًا بكِ.”
ابتسمت الأم ابتسامة دافئة جعلت قلبي يلين من غير قصد.
“ارتاحي جيدًا يا ابنتي.”
كانت تلك والدة هيلينا… الدوقة فيوليت.
* * *
أغمضتُ عيني وفتحتها، فوجدت نفسي أمام بوابة قصر آل شفابن.
ما إن نزلت هيلينا الصغيرة من العربة حتى اندفعت تركض نحو أحدهم.
قطّب الدوق جبينه قليلًا.
“هيلينا، قلتُ لكِ ألا تركضي بلا اتّزان.”
“دعها وشأنها، لسنا بين الغرباء.”
قالت فيوليت وهي تضم الطفلة بين ذراعيها.
“كيف كانت زيارتك للقصر الإمبراطوري يا صغيرتي؟”
“جيدة!”
“وأطعتِ أوامر والدكِ؟”
“بالطبع!”
ثم قالت بحماس:
“حتى أنني كوّنت صديقًا جديدًا هناك!”
“حقًا؟ ومن يكون؟”
“شخصيته باردة قليلًا… لكنه لم يكن سيئًا.”
رفعت فيوليت حاجبها متسائلة:
“هل كان فتىً ذا شعر بلاتيني وعيون حمراء؟”
“هاه؟ كيف عرفتِ؟!”
تفاجأت هيلينا بعينيها الواسعتين.
“أتعرفينه يا أمي؟”
ابتسمت فيوليت بارتباك، لكن الدوق أجاب بدلًا عنها:
“لابد أنه كان صاحب السمو ولي العهد.”
“ماذا؟ ولي العهد؟”
“نعم. إنه ابن الإمبراطور الوحيد. والشعر البلاتيني يرمز إلى دماء العائلة الإمبراطورية.”
شهقت الصغيرة بصدمة، ثم تمتمت بإحباط:
“إذن لا أستطيع أن أكون صديقته.”
“ولمَ لا؟” سألت الأم باستغراب.
أجابت الصغيرة بجدية:
“عائلتنا ليست على وفاق مع العائلة الإمبراطورية.”
أومأ الدوق راضيًا:
“أحسنتِ. أنتِ تعرفين الأمور جيدًا.”
لكن ملامح فيوليت بدت حزينة.
وحين تركهما الدوق وعاد إلى مكتبه، أمسكت بكتفي ابنتها قائلة:
“أنتِ ما زلتِ طفلة يا هيلينا. لا تدعي خلافات العائلات تحدّد صداقاتك.”
“لكن أبي…”
“أنت تعلمين أن أمك دائمًا ما تغلب أباكِ، أليس كذلك؟”
ترددت الصغيرة، ثم ابتسمت:
“… هل هذا حقًا لا بأس به؟”
“طبعًا. افعلي ما ترغبين به يا ابنتي.”
“أمي أنتِ الأفضل!”
قالت هيلينا بفرح وهي تعانقها.
* * *
تبدلت المشاهد مرة أخرى.
كان المكان مليئًا بالحطام والعجلات المكسورة والخشب المحطّم.
وسط الأنقاض، كانت الطفلة تبكي بحرقة.
وكانت بين ذراعيها جثة امرأة باردة بلا حراك.
“… أمي؟”
ارتجفت يداها وهي تلمس وجه والدتها المغلق العينين.
“أمي، استيقظي… أرجوكِ… لا تتركيني…”
لكن جسد الأم ظل ساكنًا، يحتضن صغيرته حتى بعد الموت.
صرخت هيلينا الصغيرة بألم:
“لااااا…! لا أريد!”
حينها أدركت… كان ذلك حادث عربة مأساوي.
وقد نجت هيلينا فقط لأن والدتها ضمّتها بذراعيها لتحميها بجسدها.
* * *
يوم ماطر، الجميع يرتدي السواد.
كان ذلك يوم جنازة الدوقة فيوليت.
وقفت هيلينا الصغيرة تحدّق بصمت في شاهد القبر، بعينين فارغتين.
دموعي كادت تنهمر… فمع أن هذا لم يكن ماضيي، إلا أن حزنها اخترق قلبي.
وبعد فترة، سمعت صوت والدها:
“تماسكي. بكاؤك لن يعيدها.”
همست بضعف:
“أبي… كيف يمكنك أن تكون هادئًا هكذا؟ أما زلتَ قادرًا على العمل وكأن شيئًا لم يحدث؟”
لم يجب فورًا، ثم قال ببرود:
“لقد وعدتُ فيوليت… أن أجعل ابنتها أسمى نساء هذا العالم.”
أدار ظهره وأضاف:
“تقوية مكانة عائلتنا هو ما كانت تريده. حتى لا يتجرأ أحد على المساس بنا.”
“لكن… أمي…”
“يكفي. إن استمررتِ بالعيش أسيرة الماضي، فلن ينفعك ذلك.”
ثم أمر الخدم:
“لا تدعوها تغادر غرفتها حتى تستعيد رشدها.”
* * *
منذ ذلك اليوم، اشتدت قبضة الدوق على ابنته.
القصر غدا باردًا كالجليد.
ومرت الأيام…
ذات يوم، فتح باب غرفتها وقال:
“اليوم هناك حفلة في القصر. لن تبقي حبيسة غرفتك للأبد.”
أحنى رأسها بإذعان.
لم تعد الطفلة المفعمة بالحياة، بل مجرد دمية تلبس ما يُعطى لها وتذهب حيث يُؤمر بها.
* * *
ومرت سنوات أخرى…
“ماذا؟ تريدني أن أتزوج؟”
“نعم. من ولي عهد المملكة الشمالية. سيصبح ملكًا قريبًا.”
“مستحيل.”
واجهت والدها بعناد في مكتبه.
“لقد فعلتُ كل ما طلبته مني حتى الآن. لكن زواجي… لن أسمح لك بالتحكم فيه أيضًا.”
“أتظنين أن العثور على مثل هذه الخطبة أمر سهل؟”
“لن أرحل إلى ذلك الشمال البارد وحدي. لا أريد أن أعيش هناك.”
“حالما تذهبين ستتغير فكرتك. إنها فرصة عظيمة لتصبحي ملكة.”
“وما فائدة أن أكون ملكة؟ حياتي… وذكرياتي هنا.”
“ذكرياتك ستصنعينها هناك.”
“لكنني لن أستطيع استرجاع ذكرياتي مع أمي!”
تجهم وجه الدوق:
“لو كانت أمك على قيد الحياة لوافقت على هذا الزواج من أجل سعادتك.”
“لا تحاول إقحام أمي لتقنعني. أمي كانت ستحترم اختياري.”
ارتجفت يده فوق الأوراق، ولمع شيء في عينيه البنفسجيتين.
لكنها لم ترَ ذلك.
قالت بصوت حاد:
“هل تعرف لماذا أطعتك طوال هذا الوقت يا أبي؟”
“… ماذا؟”
رفعت رأسها ونظرت إليه مباشرة:
“كنتُ أظن أنك تتألم مثلنا من أجل أمي. وأنك تبذل جهدك لتربيتي لأنك تريد أن تحقق وصيتها.”
ابتسمت بمرارة:
“لكن الآن… لم أعد متأكدة من شيء.”
“هيلينا…”
“يكفي. أرجوك فقط… دعني وشأني.”
وخرجت من الغرفة بعنف، لتغلق الباب خلفها بصوت مدوٍّ.
كان ذلك المشهد كفيلًا بأن يلخص كل الشرخ العميق بين الأب وابنته.
التعليقات لهذا الفصل " 143"