الفصل 138. هل تذكر مَن كانت تلك السيّدة؟
موريتز كان في غاية الارتباك.
لكن، ما الذي يحدث الآن بالضبط؟
لنَعُد قليلًا إلى الوراء، إلى ذلك اليوم الذي طلب فيه كارسين من هيلينا أن تصحبه ليتجول في المدينة.
حينها… لا، لنقل إن “الرئيس القاسي” كار-مو قد هدّد موريتز.
ــ “من الأفضل أن تُطيعني اليوم دون نقاش.”
في البداية اعتقد موريتز أنّ الأمر مجرد هراء.
كعادته يحاول إخافته بلا سبب حقيقي. ليس أوّل مرة يفعلها.
لكن لم يكن كذلك هذه المرّة.
ففي اللحظة التي وقعت عيناه على الشيء الذي كان بيد كارسين، كاد قلبه يتوقف.
ذلك الشيء… كانت لوحة رسمتها والدته، تُظهره عندما كان طفلًا صغيرًا.
لكن ليس بملابسه العادية، بل متنكرًا كفتاة صغيرة!
لم يكن موريتز يرغب يومًا في ذلك المظهر.
لكن والدته، التي كانت تتحسر على عدم إنجاب ابنة، أفرغت أمنيتها فيه.
فألبسته فساتين مليئة بالكشاكش، ولم تكتفِ بذلك، بل وضعت على رأسه شعرًا مستعارًا طويلًا لتكتمل الصورة.
ــ “لن أرتدي هذا الفستان!”
ــ “أوه؟ ولماذا؟”
ــ “لقد وعدتِ أن المرة السابقة ستكون الأخيرة!”
ــ “وهذه فعلًا الأخيرة، صدقني. لقد تعبت كثيرًا لأجد هذا الفستان. من أجل خاطري فقط… مرة واحدة.”
ــ “آه! لا أريد! لستُ فتاة، لماذا يجب أن أفعل هذا!”
ذات مرّة حاول الطفل موريتز أن يقنعها قائلًا:
ــ “أمي، إذا كنتِ تريدين هذا حقًا… فلماذا لا تنجبين ابنة أخرى؟”
لكنها أجابته وهي تضحك، كأنّ الأمر في غاية البساطة:
ــ “أوه، بني! تظنّ أن إنجاب الأطفال أمر يسير؟ ثم من قال إن المرة القادمة ستكون فتاة؟ قد يكون فتى آخر مثلك.”
لم يجد ما يرد به. كانت محقّة في كل كلمة.
فاستسلم أخيرًا، وتركها تُلبسه ما تشاء، معتبرًا ذلك نوعًا من البرّ بها.
ــ “كم أنت لطيف! من يملك ابنة جميلة هكذا؟”
ــ “أنا ابنكِ….”
ومع ذلك، كبر موريتز ونضج، وأراد أن يضع تلك الذكريات خلفه.
لقد اعتبرها مجرد حادثة مضحكة في طفولته، لا أكثر.
لكن الآن… ذلك الرسم الذي أراد نسيانه، أصبح في يد كارسين!
لماذا… لماذا هو بالذات!؟
كان صدى صراخه الداخلي يملأ رأسه.
والأسوأ أنّ أمه تتعامل مع كارسين بودٍّ بالغ، حتى بدت كأنها تتعاون معه عمدًا.
موريتز شعر بصداع شديد.
مهما يكن، فقد صار مُجبَرًا على طاعة أوامر كارسين.
فقط ليستعيد اللوحة، كان مستعدًا أن يتحمل أي شيء.
فتحمّل أن يمثل دور السكران، وتحمّل نظرات ليونارد الباردة، وكل ذلك من أجل تلك الصورة.
وأخيرًا… بعد جهد طويل، استعادها.
لكن قبل دقائق فقط، سقطت اللوحة نفسها من بين أمتعته أمام عيني هيلينا!
ما الفائدة إذن؟
كل ما بذله من معاناة ضاع هباءً منثورًا.
وكأن القدر يسخر منه.
للحظة خطرت له فكرة:
لماذا لا أستقيل وأرحل بعيدًا؟ إلى مكان لا يجدني فيه أحد….
موريتز، مرة أخرى، كان على وشك أن يترك كل شيء خلفه.
* * *
أنا، من جانبي، لم أكن أفهم لماذا هو متجمد هكذا.
إنها مجرد صورة، لا أكثر. ليست أمرًا يستحق كل هذا الذعر.
ظننت أنّه أراد إخفاء حقيقة أنّه جلب صورة شقيقته معه حتى إلى بلاد أخرى.
لكن… ما الخطأ في ذلك؟ أليس طبيعيًا أن يحتفظ الأخ بصورة أخته إن كان شديد التعلق بها؟
ابتسمتُ في محاولة لتخفيف الموقف وقلت:
“يبدو أنّك تحب شقيقتك كثيرًا يا سير موريتز.”
ــ “شقيقة؟”
ارتبك كأنّه يسمع ذلك لأول مرة.
“حملُك لتلك الصورة أينما ذهبت يعني أنّك تكنّ لها محبة عميقة. اسمها مومو، صحيح؟ حتى اسمها لطيف للغاية.”
لكن… لم يزد الأمر إلا سوءًا.
وجه موريتز ازداد شحوبًا أكثر.
هل قلت شيئًا خاطئًا؟
ثم فجأة نطق، بوجه كمن سلّم أمره:
“إنها أنا.”
حدقت فيه غير مصدقة.
“ماذا؟ ما الذي تعنيه؟”
“الشخص في الصورة… في الحقيقة هو أنا.”
عندها اتسعت عيناي صدمة.
يا إلهي…. لم تكن شقيقة تشبهه، بل كان هو نفسه!
حاولت تدارك الموقف قائلة:
“لقد كان الرسم متقنًا جدًا… حتى إنني حقًا ظننتها فتاة.”
لكنه ظل صامتًا، بوجه خالٍ من الحياة.
أحسست بمدى الحرج، ولم أجد ما أقوله.
التفتُ إلى كارسين أرجوه بنظراتي أن يساعد، لكنه اكتفى بالابتسام وكأنّ الأمر كله ممتع بالنسبة له.
فما كان مني إلا أن وضعت اللوحة بهدوء بين أمتعته مجددًا، متظاهرة أنّ شيئًا لم يحدث.
* * *
وجاء يوم رحيل كارسين أخيرًا.
خرجتُ لأودّعه عند البوابة الكبرى.
رغم أنني تظاهرت بالبرود، شعرت بشيء من الأسف لرحيـله.
“كان بإمكانك البقاء مدة أطول.” قلت.
“لا أستطيع. لقد غبت عن بلادي طويلًا، وإن تأخرت أكثر… قد تفقد مومو وعيها من الغضب.”
لم أتمالك نفسي من إلقاء نظرة سريعة على موريتز.
فقال ببرود:
“من الأفضل أن تضحكي علنًا بدلًا من التلميحات.”
عدت وأخفضت ابتسامتي.
لحسن الحظ، بدا أنّه استعاد هدوءه بعد حادثة الصورة، وصار يتعامل كعادته.
قال لي ممازحًا:
“أكاد أراكِ تتحولين إلى نسخة من سموّه.”
“هذا غير صحيح. لستُ شخصًا يستمتع بمعاناة الآخرين.”
فأجاب: “أرجوكِ، عودي كما كنتِ. وجود شخص واحد مثل سموّه يكفي العالم.”
فهمت حينها لماذا يحب كارسين مضايقته. ردود أفعاله كانت مسلية للغاية.
وقبل أن يرحل، قال كارسين لي بجدية:
“هل ما زلتِ تذكرين ما أوصيتكِ به؟”
“قلت لك من قبل، نعم أتذكر.”
“أخشى أن تنسي.”
“لن أنسى. قلتَ إذا احتجتُ المساعدة، عليّ أن ألجأ إليك.”
“بالضبط.”
ثم أضاف بابتسامة غامضة:
“وإن لم تجدي سبيلًا آخر، فبإمكانكِ دائمًا أن تلجئي إلى مملكتي. سيكون هناك مكان ينتظركِ.”
وقبل أن أغادره، أقبل الإمبراطور جيروم برفقة الحرس ليستقبله.
تحيته كانت باردة وقصيرة:
“أخيرًا سترحل.”
لكن كارسين لم يتأثر، بل قال مبتسمًا:
“جلالة الإمبراطور، هل يمكن أن أتحدث معك على انفراد؟”
أثار ذلك فضولي.
حتى جيروم نفسه بدا متسائلًا.
ومع ذلك، وافق.
* * *
حين خلا به، قال جيروم بحدة:
“ما الداعي لكل هذا؟ لا أرى أنّ بيننا ما يستحق الحديث.”
ابتسم كارسين بهدوء:
“ربما. لكنني تذكرت أمرًا قديمًا… قبل أن أجلس على العرش، كان والدي ينوي تدبير زواجي. أظن جلالتك تذكر ذلك.”
تجمد وجه جيروم.
أكمل كارسين وهو يحدق فيه بنظرة فاحصة:
“عروسي حينها كان من المفترض أن تكون آنسة من الإمبراطورية. لكن… لا أذكر من أيّ أسرة كانت.”
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة:
“هل يا تُرى، جلالتك يتذكر مَن كانت تلك السيّدة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 138"