الفصل 129: ليتك لا تعرف
“أحبك. أحبك حقًّا.”
قال جيروم وهو يذرف الدموع.
واصل ترديد اعترافه بالحب، أما أنا فلم أستطع أن أنطق بحرف واحد.
كنت أشعر بالذهول.
أيعقل أن يستفيق جيروم فجأة ليغرقني بهذا الاعتراف المبلل بالدموع؟ بدا الأمر أشبه بكابوس أو حلم غريب، غير واقعي البتة.
كان وقع الصدمة عليّ شديدًا، وكأن أحدهم ضربني على رأسي بكل قوته.
لم أعرف أي ملامح أرتسم على وجهي، أو بأي نبرة أجيبه.
وبينما كنت أبحث عن تفسير، خطرت لي فكرة واحدة:
لقد انهار فجأة كما لو أغشي عليه… لا بد أن هذه من آثار السمّ.
نعم، لم أجد تفسيرًا آخر سوى أنه قد فقد صوابه، وفقده تمامًا.
تمعّنت في عينيه الحمراوين، فلاحظت بوضوح أن بؤبؤيه شاردان، خاليان من التركيز.
ارتحت قليلًا… إنه يهذي لا أكثر.
لكن ما لبث أن تجعّد جبيني، إذ أحسست بألم مفاجئ.
كان جيروم يضغط على يدي بشدّة متزايدة.
إن استمر الأمر، فمعصمي لن يحتمل.
فقلت بسرعة:
“هيا، تمهّل قليلًا. يبدو أنك استيقظت وأنت لا تزال مضطربًا…”
“أحبك.”
“ليس هذا وقت الاعتراف! معصمي سيتحطم!”
لم يصغِ إليّ.
فصحتُ: “أولًا، حرر يدي! الدم لا يكاد يصل إليها!”
غير أنه لم يجب.
بل جذبني فجأة وبقوة إلى صدره.
ثم شعرت بشيء ساخن، رقيق، يلامس شفتي.
تسمرت مكاني، وأتسعت عيناي.
“أنت…! ماذا تفعل—”
لكن كلماتي قُطعت، إذ لم يترك لي أي فرصة للهرب.
شدّ على مؤخرة رأسي، وغطس في قبلة متعطشة، حيوانية، لا تعرف المنطق ولا العقل.
بدا وكأنه مفترس لا يسمع ولا يرى، غارق في غريزة جامحة لا تفتر.
كنت أضرب صدره بيدي الحرة بكل ما أوتيت من قوة، لكن جسده لم يتزحزح.
كلما قاومت، ضمّني أكثر.
ثم انحدر أنفاسه الحارّة نحو عنقي.
لحسن الحظ، لحظة ضعفه هذه فتحت لي فرصة صغيرة.
رفعت يدي الأخرى بكل قوتي—
صفعة!
دوى الصوت في المكان كالصاعقة.
* * *
ارتج رأس جيروم مع لطمة هيلينا، وتوقف كل شيء فجأة.
“هآه… ألم أقل لك أن تكف؟”
قالت وهي تلهث، عيناها تومضان بالانفعال.
ظل يحدّق فيها، مذهولًا.
كفّها الصغيرة كانت ترتعش، وقد احمرّت من قوة الضربة.
“أفلت يدي.”
أمرت بصرامة.
ولحسن الحظ، تركها في الحال.
فتراجعت سريعًا، تحرص على أن تبتعد عنه قدر ما تستطيع.
أمّا هو، فمسح شفتيه بإبهامه، فتلطخت أصابعه بقطرة دم صغيرة.
ندبة خلفتها مقاومتها، ورآها هو كأثر باقٍ منها، فابتسم ابتسامة عابثة… كان قد فقد صوابه حقًا.
لكن سرعان ما بدا وكأنه يستعيد أنفاسه شيئًا فشيئًا.
وأخيرًا تمتم بصوت واهن:
“…أعتذر.”
“أعتذر؟ تظن أن الأمر ينتهي باعتذار؟”
صرخت بغضب، لكنّه لم يجد ما يقوله سوى:
“حقًّا… أعتذر.”
نظرت إليه بريبة، فرأيت خلف عناده قلقًا وخوفًا.
لقد جعلني أرتعب، وأنا أُخفي خوفي وراء قناع الصلابة.
وأدرك هو ذلك، فعاد يجلد نفسه بصمت.
“إذن ماذا عن كلماتك تلك؟ قولك إنك تحبني؟”
سألته بعينين مضطربتين.
فقال دون تردد:
“ما قلته هو الحقيقة. كنت أحبك منذ البداية.”
ارتجف قلبي، لكنني لم أسمح لنفسي بالتصديق.
“أنت مجنون…! كيف تفترض أن أصدّق كلامًا كهذا هكذا فجأة؟ على الأقل اجعلني أفهم، أو أعطني سببًا!”
كان صراخي مشحونًا بالقهر.
وفهم جيروم.
لكنه خاف.
إن عرفَت كل الحقيقة، فهل ستبقى بجانبه؟ أم ستجفل منه إلى الأبد؟
لكنه اتخذ قراره.
مهما كان الثمن، لن يخفي عنها بعد اليوم.
“سأقول لك كل شيء. ما جرى منذ لقائنا الأول، وما عشته من بعدك، وما صنعتُه لأجلك.”
وبدأ يسرد…
كيف التقاها، وكيف افتقدها، وما ارتكبته والدته، وكيف حاول هو إنقاذها.
اعترف حتى بزواجه من فاي، وأنه لم يكن سوى تمويه لحمايتها.
قال كل شيء… إلا سرًّا واحدًا.
بقي أمر وحيد دفينًا: أن وريثًا حيًّا لا يزال موجودًا.
ليتك لا تعرفي هذا أبدًا.
تمنى من أعماقه، حتى لو عرف العالم أجمع، أن تبقى هي وحدها بعيدة عن هذا السرّ… إلى الأبد.
* * *
وفي الوقت ذاته، بينما كانا في الكهف، خرج ليونارد وكارسن وموريتس سالمين من غابة الظلال.
قاد ليونارد حصانه مسرعًا نحو المدخل، علّه يعثر على أثر.
كان يظن أن هيلينا، إن عادت، فستتجه مباشرة إلى المعسكر.
ولم يخلُ قلبه من أمل صغير.
لكنه ما إن وصل، حتى واجه نظرات القلق والدموع.
سألت الكونتيسة كلوي، “ألم تكن جلالة الإمبراطورة معكم؟”
فأطرق رأسه، وعيناه ثقيلتان بالذنب.
“إنها مسؤوليتي… لقد ضيّعتُها.”
لكن لم يكن هناك وقت للندم.
دخل خيمة الفرسان حيث كان غابيان، فألقى كلمته دون مواربة:
“الإمبراطورة اختفت. يجب أن نبدأ البحث حالًا.”
فأجابه غابيان بوجه متجهم:
“جلالتها… أيضًا?”
“أيضًا؟”
شهق ليونارد.
فكشف غابيان أن جلالة الإمبراطور هو الآخر غائب.
وهكذا، وجدا نفسيهما أمام سابقة لم يعرفها التاريخ: الإمبراطور والإمبراطورة معًا، وقد اختفيا من دون أثر.
فما كان من ليونارد إلا أن استل سيفه، وصاح بأوامر عاجلة.
أطلقت فرق البحث في كل اتجاه.
وبعد ساعات، عاد فارس يركض، وجهه شاحب:
“وجدنا… هذا!”
كان يحمل رداءً ملطخًا بدماء داكنة.
رداء يعرفه ليونارد جيدًا—ذلك الذي كانت ترتديه هيلينا.
“لقد كان عند حافة الجرف الغربي. وآثار الدماء تنحدر إلى أسفل الوادي…”
توقف الفارس وقد خنق صوته الخوف.
أما ليونارد، فقد تجمد للحظة، ثم اشتعلت عيناه ببريق قاتل.
قبض على مقبض سيفه، المزدان بزخرفة أعطته إياها هيلينا بنفسها، وقال بصوت كالسيف:
“بأي ثمن… ابحثوا عنها. سنجدها.”
التعليقات لهذا الفصل " 129"