الفصل 128: لم يكن هناك شخص آخر منذ البداية (5)
كان موعد العشاء مع والدته يقترب.
تأخر جيروم قليلًا عن الوقت المحدد، وحين وصل إلى قاعة الطعام فتح الخادم الباب، فكشف له مشهدًا مألوفًا:
والدته، ليريانا، كانت قد بدأت الأكل وحدها مسبقًا.
قالت وهي تمسك بكأسها، وصوتها يقطر خمرًا:
“تأخرت.”
على الطاولة وُجدت عدة كؤوس من النبيذ الفارغ.
الخادم بجوار جيروم تمتم مرتبكًا:
“جلالتك، هذا… هذا مخالف للقوانين. حاولت أن أنصحها بالانتظار حتى تشرفوا، لكنها أصرّت—”
أوقفه جيروم ببرود:
“يكفي.”
لم يكن ذلك جديدًا عليه. اعتاد أن يتجاهل تجاوزاتها.
جلس في مقعده، وبدأ الخدم بإحضار الأطباق واحدًا تلو الآخر، ثم انصرفوا، تاركين جيروم وأمه وحدهما في القاعة الواسعة.
قالت ليريانا بابتسامة ساخرة:
“لا تنويني معاتبة أمك لمجرد أنها بدأت العشاء قبلك، أليس كذلك؟”
رد ببرود:
“وهل ستستمعين إليّ إن فعلت؟”
ضحكت وهي تلوّح بكأسها:
“ذلك الخادم وقح. كيف يجرؤ أن يعترض على أفعالي؟ افصله حالًا. لقد دلّلته أكثر من اللازم.”
قال جيروم وهو يغيّر مجرى الحديث:
“أما زلتِ حبيسة غرفتكِ طول اليوم؟ بهذا الشكل ستصبحين سجينة حقيقية.”
ضحكت باستخفاف:
“لا تقلق. حتى إن جلست في غرفتي، لي في هذا القصر عيون وآذان لا تغفل.”
ثم مالت للأمام، مغيرة الموضوع:
“على أي حال… تلك الفتاة في جناح الضيوف، التي يُقال إنها أنقذتك… إلى متى ستدعها تمكث هنا؟”
أجاب ببرود:
“سيُعاد إرسالها قريبًا. تركتها فقط لأن غابيان يهتم لأمرها.”
ضحكت بسخرية:
“ذلك القائد العجوز صار رقيق القلب كثيرًا.”
ثم استرسلت:
“بالمناسبة، سمعت أن ملك الشمال أرسل خطابًا بخصوص تحالف وزواج سياسي؟”
رد جيروم:
“صحيح. يرغب في تحالف، وهو تقريبًا بمقام إمبراطورية.”
قالت بابتسامة ثعلب:
“ومَن تنوي أن ترسل عروسًا؟”
قال بهدوء:
“لم أقرر بعد.”
أخذت لحظة، ثم ابتسمت ابتسامة خبيثة:
“أها… تذكرت. دوق شوفابِن لديه ابنة، أليس كذلك؟”
توقف جيروم لثوانٍ، ثم استأنف الأكل بلا انفعال ظاهر:
“ذلك غير ممكن.”
قالت:
“ولم لا؟ إنها فكرة رائعة. شوفابِن من المعارضة، والزواج باب ممتاز لكسر شوكته.”
أجاب:
“هناك طرق أخرى لإذلاله. لا داعي للتضحية بابنته.”
ضحكت باستهزاء:
“ها… إذن الأمر صحيح. يبدو أنك مهتم بتلك الفتاة.”
شد جيروم قبضته، لكنه لزم الصمت.
قالت وهي تحدّق فيه بعينين دامعتين من الشراب:
“لقد ورثت من والدك داءً واحدًا… عمًى اسمه الحب.”
لم ينكر. لم يكن في كلامها خطأ.
تابعت ببرود:
“أتظن أن جمالها هو ما أسرك؟ أم جسدها؟ يا لك من أحمق. على كل حال، أنت لا تستحقها. لقد رتّبتُ بالفعل أمر خطبتها لملك الشمال.”
تجمّد وجه جيروم، لكن ليريانا تابعت بلا مبالاة:
“ستشكرني لاحقًا. فأنت لا ترى الأمور بعقلانية. أنا فقط أُنقذك من نفسك.”
قال جيروم:
“يبدو أن الشراب أسكركِ أكثر من اللازم.”
أجابت بحدة:
“بل أنا أوضح ما أكون.”
رفعت كأسها ونظرت إليه بسخرية:
“اسمع نصيحة من أمك… أنت لم تُخلق لتُحب. فاقبل قدرك.”
لم يرد.
ضحكت مجددًا ثم تمتمت:
“لا تضيع عمرك على أوهام فارغة مثلما فعلتُ أنا.”
لكن كلماتها قُطعت بسعال عنيف.
وضعت يدها على فمها، ثم نزعت يدها لتظهر ملطخة بالدم.
انهارت على الأرض فجأة، وجهها شاحب كالموت.
صرخت بلهاث:
“طبيب!… أسرعوا وأحضروا الطبيب!”
لكن جيروم بقي ساكنًا، يحدق بها بلا انفعال.
عرفت في لحظة الحقيقة: لن يستدعي أحدًا.
ابتسم وهو يمسح فمه بالمنديل:
“غريب. لم أخطط لهذا السيناريو اليوم… لكن يبدو أن الوقت قد حان.”
اقترب منها وساعدها على الجلوس:
“كنتِ تقولين دومًا: على الابن أن يقوم بواجبه تجاه والديه… ها أنا أفي بذلك أخيرًا.”
شهقت:
“أنت… ماذا فعلت بي؟”
قال بابتسامة باردة:
“لا تتحدثي كثيرًا. السم سينتشر أسرع.”
أدركت فجأة الحقيقة:
لقد دس السم في نبيذي.
تصلبت عيناها وهي تحدق فيه.
ضحك وهو يهمس في أذنها:
“آخر هدية لكِ قبل الرحيل… الشخص الذي حاولتِ قتله قديمًا، ابنها… ما زال حيًّا.”
اتسعت عيناها رعبًا، حاولت الرد لكنها اختنقت بدمها.
سقط جسدها متثاقلًا بين يديه، وعمّ الصمت.
لم يشعر جيروم بالذنب، بل بالارتياح لأنه استعد مسبقًا.
بعد وفاتها…
انتشرت شائعة أن الإمبراطورة السابقة اختارت إنهاء حياتها بعد فقدان زوجها.
بعضهم همس أن جيروم هو من تخلص منها، لكن لم يهتم.
دفن مشاعره، وركز على شؤون الحكم فقط.
لكن رغم ذلك، ظل شبح واحد يطارده:
هيلينا.
كانت ابتسامتها ودفؤها لا يغادران ذاكرته.
لم يحتج إلى شيء آخر… لم يرغب في أحد سواها.
الأحداث تتسارع…
اكتشف أن دوق هايتنغس دفع بخطبة هيلينا لملك الشمال، وأن الموعد اقترب.
جن جنونه. لا بد أن ينقذها.
قرر خطة:
إن تزوجها، يستطيع إلغاء الخطبة فورًا.
لكن المشكلة كانت في أبيها الدوق، أحد ألد أعدائه.
فكّر قليلًا ثم ابتسم:
سأستخدم فاي كطُعم.
أعلن خطبة مزيفة بينه وبين فاي لإرباك خصومه، بينما خطط سرًا لانتزاع هيلينا من ذلك الجحيم.
يوم الزفاف…
وقفت هيلينا بالفستان الأبيض، أجمل من أي وقت مضى.
قبل دخولهما القاعة، سألته بصوت مرتجف:
“لماذا تتزوجني، يا جلالتك؟”
التقت عيناهما.
أراد أن يقول: لأنني لا أستطيع العيش بدونك.
لكن ما خرج من شفتيه كان مجرد:
”…لأنكِ ضرورية.”
لم يفهمَت قلبه، بل رأت كلماته كقيد جديد.
لكنه تمسك بأمل صغير:
يوماً ما ستفهمين أنني لم أحب أحدًا غيرك.
الحاضر…
فتح جيروم عينيه فجأة من غيبوبة طويلة.
بحث بخوف حوله… هل اختفت ثانية؟
لكن صوتًا رقيقًا بدد مخاوفه:
“لقد استيقظتَ؟”
كانت هي. ليست وهماً ولا حلماً.
دموعه انحدرت، مد يده ليقبض على يدها بقوة.
قال بصوت مبحوح:
“منذ البداية… لم يكن هناك شخص آخر.”
في عينيه تداخلت صورة هيلينا الصغيرة التي عرفها منذ ذلك اليوم.
أغمض عينيه وهمس:
“أحبك… أحبك كثيرًا.”
✨ انتهى الفصل 128 ✨
التعليقات