الفصل 125 – «من البداية لم يكن هناك أحد آخر» (2)
كان جيروم يحدّق بذهول في اليد الصغيرة الممدودة نحوه.
لكن هيلينا لم تنتظره، وأمسكت بيده أولاً قائلة بابتسامة:
“سعيدة بلقائك.”
أجاب بفتور:
“نعم.”
لكن ردّه لم يكن كما توقعت، إذ تغيرت ملامحها بسرعة:
“بس هذا كل شيء؟”
“غيره ماذا تريدين أن أقول؟”
فكّر جيروم بضيق: هل تريد مني أن أفرح معها أيضاً؟
هيلينا رفعت حاجبها وقالت بنبرة جادة:
“إذا قدّمت نفسي أولاً، من الأدب أن تعرّف بنفسك أيضاً، أليس هذا من شيم النبلاء؟”
“أول مرة أسمع عن مثل هذا الأدب.”
قالها جيروم بجدية أثقل مما يلزم.
ضحكت هيلينا بخجل وهي تحك رأسها:
“لم أقصد أن ترد بجدية لهذه الدرجة.”
بعدها أعادت سؤاله عن اسمه مرات عدة، لكنه رفض أن يجيب.
شيء داخله كان يمنعه… وكأنّه إن قال اسمه ستبتعد عنه.
أخيراً ابتسمت بخيبة أمل وقالت:
“فهمت… تريد أن تبقى غامضاً.”
ثم بدأت تسرد له أخبارها:
كيف فازت بالمركز الأول في مسابقة البيانو، وتفوقت في دروس الثقافة، وأنهت تعليم الموهوبين بسرعة قياسية.
كان يمكن أن يبدو كل ذلك مجرد تباهٍ… لكن جيروم شعر أن وراءه شيئاً آخر.
فجأة سأله:
“لماذا تجهدين نفسك بكل هذا؟”
بما أنها ابنة دوق “شوفابِن”، ظن أن السبب طموح أو غرور… لكن جوابها كان غير متوقع:
“لأن أبي يبتسم عندما أنجح. وأنا أحب أن أراه مبتسماً… لهذا أبذل جهدي.”
اتسعت عينا جيروم. إنها مثلي…
لم يتوقع أن يقابل شخصاً يعيش نفس شعوره تقريباً.
وبينما كان يظن أنه سيتجاهلها، وجد نفسه يجيب عن أسئلتها واحداً تلو الآخر:
“نعم.” “لا.” “صحيح.”
إجابات قصيرة، لكنها كانت تكفي لتسعدها.
ومضى الوقت، حتى تجاوزا الحصة المقررة منذ زمن.
ولم يشعر جيروم أنه يريد العودة.
“يا إلهي! لقد تأخرت! إن اكتشف أبي أنني خرجت سقلق كثيراً.”
وقفت بسرعة تستعد للرحيل.
وهنا شعر جيروم بغصة غريبة.
لماذا أشعر بالأسف لفراقها؟
كانت مشاعر غير مفهومة… تجاه فتاة يراها لأول مرة، وفوق ذلك ابنة دوق.
سألها:
“هل سنلتقي ثانية؟”
“ربما.” ردت بابتسامة.
وكان يعرف أنه سيرى وجهها مجدداً في الحفل القادم بالقصر.
نظر إلى ظهرها وهي تبتعد، وشتم نفسه في داخله.
ما هذا السخف؟ لماذا أطاردها بعيني؟
خطواته نحو المكتبة بدت ثقيلة كالرصاص.
لكن اللقاء الثاني لم يحدث كما توقع.
فقد اختفت هيلينا من الساحة، بحجة المرض.
واكتشف لاحقاً أن والدها هو من منعها من الخروج.
ومع الوقت… تباعدا تدريجياً.
هو تابع طريقه كولي للعهد.
وهي تابعت طريقها كابنة دوق.
وهذا كان هو الصحيح. لم يكن هناك مستقبل يجمعنا من البداية.
مرت سنوات، ثم التقيا من جديد.
لكنها لم تكن الفتاة نفسها.
اختفت ابتسامتها النقية، وحلّت مكانها ابتسامة贵族 باردة.
حتى عيناها فقدتا بريقهما القديم.
ماذا حدث لك؟
تساءل جيروم بصمت، لكنه لم يستطع أن يسألها مباشرة.
ورغم محاولاته، لم يستطع أن يمنع نفسه من متابعتها طوال الحفل.
مؤسف… مهما حاولت الابتعاد، أجد نفسي أعود إليها.
وفجأة أيقن:
لن أستطيع أبداً أن أنفصل عنها… مهما حاولت.
ومع مرور السنوات، تكشفت الحقائق المؤلمة.
واكتشف أن أمه، المحظية – الإمبراطورة الثانية – كانت السبب وراء موت الإمبراطورة الأولى.
تذكر كيف كانت الإمبراطورة الأولى في طفولته: امرأة طيبة، حكيمة، تفكر في الإمبراطورية قبل كل شيء.
حتى طلبت منه يوماً:
“أرجو أن تكون أخاً صالحاً للطفل الذي سأضعه قريباً.”
لكنه لم يتمكن من الوفاء بذلك الوعد.
لأنها ماتت أثناء الولادة، والطفل معها.
وهكذا صار هو الوريث الوحيد.
بعدها بدأ والده، الإمبراطور، ينهار.
الحزن على فقدان الإمبراطورة الأولى دمّر قلبه.
ومع الوقت، صار بالكاد يتعرف على ابنه.
في إحدى نوبات جنونه، صرخ فيه:
“اخرج! أنت لست ابني!”
ورمى نحوه مزهرية أصابته في وجهه.
ورغم الدم، ركع جيروم وقال:
“أنا بخير… رجاءً اعتنِ بصحتك، مولاي.”
لكن حالته تدهورت حتى مات.
ومات ليس بسبب المرض… بل قُتل.
والقاتلة… كانت أمه.
رآها جيروم بعينه تلك الليلة، وهي تقف قرب سرير والده.
كانت تبكي وتقول للإمبراطور:
“رجاءً… قل اسمي.”
لكنه بالكاد تمتم باسم: “فلير…”
اسم الإمبراطورة الأولى.
صرخت أمه بمرارة:
“حتى آخر لحظة، لم ترَني!”
ثم غرست الخنجر في صدره وهي تبكي وتقول بجنون:
“الآن سيرى الجميع… ابني هو من سيجلس على العرش، لا ابنها!”
فتح جيروم الباب بصدمة.
“أمي…”
ارتبكت للحظة، ثم مدت يدها الملطخة بالدم وقالت:
“انتهى كل شيء يا بني… أنت الآن بأمان.”
لكنه دفع يدها بعيداً وهو يرتجف:
“انتهى؟ ماذا انتهى؟! لقد قتلتِ أبي!”
صرخ بكل ألمه:
“كم مرة عليّ أن أحمل أوزارك؟”
لكنها أجابت ببرود:
“كل ما فعلته… كان لأجلك.”
هز رأسه قائلاً:
“لا… لم يكن شيئاً لأجلي. كل ما فعلته… كان لأجلك وحدك.”
ارتعش صوته وهو يضيف:
“اللي مات اليوم… لم يكن أبي فقط. بل قتلتِ جزءاً مني أيضاً.”
ضحكت بجنون، ثم نظرت إليه بعينين باردتين:
“قل ما شئت للناس… اذهب وأخبرهم أن أمك قتلت الإمبراطور. لكن تذكّر… نحن في نفس القارب، يا جيروم. لو غرقتُ، ستغرق معي.”
✨ يتبع… في الفصل 126
التعليقات