الفصل 124 – «من البداية لم يكن هناك أحد آخر» (1)
“تباً…!”
صرخ أحد القتلة وهو يركض بسرعة إلى حافة الجرف بعد أن رأى الرجل والمرأة يسقطان إلى أسفل.
أطلّ برأسه ليتفقد الأسفل… لكن كل ما ظهر أمامه كان مجرى الماء المتلاطم. لم يكن هناك أي أثر لهما.
“ماذا نفعل الآن؟”
سأل قاتل آخر وهو يقترب منه.
“ماذا سنفعل غير ذلك؟ سنقول إنهم ماتوا.”
قال الأول وهو يضغط لسانه بغيظ.
من هذا الارتفاع؟ لا أحد ينجو. لا، يجب أن يكونا قد ماتا. لابد أن يموتا.
إن عادوا وأبلغوا بالفشل؟ لن ينجو أي واحد منهم.
“لكن… ألم يُؤمرنا بأن نحضر الجثث؟ هل يجوز أن نعود وأيدينا فارغة؟”
“هاه؟ تريد أن تنزل تحت الجرف وتبحث بنفسك؟ هاه؟”
“…….”
“لا تقدر؟ إذن اسكت وفعل ما أقول.”
“…حسناً.”
وافق القاتل مكرهاً.
“والآن… ماذا نفعل بهؤلاء؟”
وأشار إلى جثث رفاقهم الملقاة على الأرض.
“لا داعي لترك أثر. تخلّصوا منهم. ارمُوهم جميعاً من فوق الجرف.”
“نعم.”
“آه، وتذكرت شيئاً…”
رفع القاتل حاجبيه وكأنه خطرت له فكرة.
“هل لاحظت ثياب الفتاة قبل قليل؟”
“ثيابها؟ لا أدري… بدت ثياب صيد عادية.”
“ابحثوا عن قماش مشابه للذي كانت ترتديه.”
“ولماذا ذلك؟”
“بما أن من أمرنا يريد جثة، سنقدم له بديلًا.”
ضحك القاتل ضحكة ماكرة.
“لطّخوا القماش بدماء أي أحد… أو حتى دماء حيوان. لن يكتشفوا الفرق.”
نعم… لأختصر الكلام، لقد نجوت.
كيف عشت بعد أن سقطت من ذلك الجرف؟
بصراحة… حتى أنا لا أعرف.
حين استعدت وعيي، وجدت نفسي بالفعل داخل كهف.
وحين سألت جيروم عمّا حصل، أجابني بوضوح:
“كان بفضل ذاك الصغير… ذاك الوحش الذي كنتِ تحتضنينه بكل حرص.”
مرة أخرى، ذلك الوحش الصغير أنقذ حياتي.
قبل قليل بدا وكأنه لا يستطيع استخدام قدرته، لكن يبدو أنها تظهر فقط في لحظة الخطر.
ربما هي غريزة حماية فطرية فيه.
وبعد أن استعمل قوته، غرق في سبات عميق مجدداً.
كان الليل قد حل بالفعل.
الطريق في الغابة المظلمة مستحيل بلا ضوء، وفوق ذلك، من يدري إن كان القتلة ما زالوا يبحثون عنا؟
لم يكن أمامي أنا وجيروم سوى قضاء الليل في هذا الكهف.
طبعاً، المبيت معه لوحدنا لم يكن شيئاً مريحاً بالنسبة لي…
لكن هل أملك خياراً؟ لا مجال للتذمر.
جمعت بعض الأغصان اليابسة لإشعال النار.
وعندما رفعت بصري، امتلأت السماء المظلمة أمامي.
“لا بد أنهم قلقون…”
فكرت بأولئك الذين ينتظرون عودتي…
الناس في قصر الإمبراطورة… سيدريك…
بل وحتى كارسن وليونارد في غابة الظلال.
أشعر بالذنب لأنني سببت لهم قلقاً غير مقصود.
قررت أن أغادر عند بزوغ الفجر مباشرة.
“يكفي هذا الحطب. لنعد إلى الكهف.”
قال جيروم وهو يسير أمامي.
وبينما كنت أتبع خطواته، لمحت بقعة دم على ظهره.
جرح السهم… الجرح الذي تلقاه لينقذني.
“شكراً… بخصوص ذلك السهم قبل قليل…”
لم أكمل، لكنه فهم.
“لا حاجة للشكر. فعلت ما كان علي فعله فقط.”
“لكنني ما زلت ممتنة. بفضلك لم أصب.”
“فكري بما تشائين.”
عدنا إلى الكهف وأشعلنا النار.
النار ت crackle بينما شعرت أن شيئاً ليس على ما يرام.
وجه جيروم كان يتصبب عرقاً بارداً.
“انتظر… لا تقل إن السهم كان مسموماً؟”
…… silence.
ذلك الصمت كان الإجابة.
“كل هذا الوقت… كنت تتحمل السم وتتصرف وكأن شيئاً لم يكن؟!”
“لا تقلقي. أنا بخير.”
“لا تبدو بخير إطلاقاً.”
أصابتني الحيرة. لو كان معي حقيبة خادماتي لوجدت فيها دواء مناسباً… لكن لا.
“علينا النزول من الجبل بسرعة. يجب أن تُعالج فوراً.”
“لا داعي. جسدي معتاد على السموم. سيمضي الأمر.”
“مهما كانت مناعتك، السم يبقى خطيراً!”
“قلت لك… أنا بخير.”
كلماته كانت قاطعة.
لم يبقَ في الكهف سوى صوت النار.
بعد لحظة صمت، فتحت فمي:
“بالمناسبة… في الكهف قبل قليل… قلت كلمة ’لاحقاً’. تتذكر؟”
تذكرت الحروف التي خطها في كفّي.
“…….”
توقف لبرهة، ثم أجاب:
“نعم… قلتها.”
“لن تخبرني الآن بما تعنيه؟”
“في مثل هذا الوضع؟”
“بل في هذا الوضع بالذات يجب أن تقولها.”
كنت أريد أن أسأله عن شيء آخر، لكن شعور داخلي أخبرني أن هذا هو السؤال الأهم.
“ألم تكن… تحب الإمبراطورة؟”
“أنا؟”
“في وسط حياة القصر القاسية… ألم تجد ابتسامتها دافئة؟”
ابتسم ساخرًا:
“كلامك يبدو كفقرة من رواية.”
بقيت صامتة.
حينها تمتم جيروم وهو يحدق بي:
“كما توقعت… أنتِ لا تعلمين شيئاً.”
“ماذا لا أعلم؟!”
“هل تذكرين يوم لقائنا الأول؟”
“أول لقاء؟ بالتأكيد… كان في حفل القصر، أليس كذلك؟”
هز رأسه بابتسامة مُرّة:
“هاه. كما ظننت.”
“أنتِ… حقاً لا تعرفين شيئاً.”
ثم أغمض عينيه ببطء.
السم لم يكن قاتلاً، لكنه أخذ منه قوته وأغرقه في نوم ثقيل.
ذكريات جيروم
جيروم، ولي عهد الإمبراطورية…
كان يُفترض أن يكون أسمى وأبهى من الجميع.
لكن طفولته لم تكن سوى جحيم.
الحياة كولي عهد لم تكن حرية… بل قيوداً مرعبة.
القوانين الصارمة حرمت منه الابتسامة، ووالده، الإمبراطور السابق، هو من صاغ هذا الجحيم.
كان أباً صارماً حد القسوة، يطالبه بأن يصبح “الحاكم المثالي”.
“إن أردت أن تكون إمبراطوراً… لا تتعلق بأي شيء تافه. التعلق نقطة ضعف.”
بأمر واحد من والده… حُرقت ألعابه.
ذُبح الحصان الذي ربّاه صغيراً.
حتى المرضعة التي أحبته… قُتلت بلا رحمة.
والإمبراطور ألزمه أن يشاهد كل ذلك.
قُيد كي لا يغمض عينيه، وأجبر على رؤية كل ما يفقده.
“لا تثق بأحد. لا تحب أحداً. ذلك سيُدمرك.”
صدى تلك الكلمات ظل يلاحقه لسنوات.
حتى عندما بلغ الخامسة عشرة… كان عليه ابتلاع السموم ليبني مناعة ضدها.
سمّ وراء سمّ. حتى جسده صار حصناً.
وفي أحد الأيام، بينما كان يسير بعد تدريبه…
رآها.
طفلة صغيرة في حديقة الورود البيضاء قرب قصر الإمبراطورة.
مكان محظور حتى على ولي العهد نفسه.
لكنها كانت هناك، تحدق بالزهور بعينين بريئتين.
اقترب منها وسأل:
“ماذا تفعلين هنا؟”
فزعت الطفلة واستدارت…
لتكشف عن عيون بنفسجية شفافة، بريئة حد أن الكلمة “متطفلة” بدت غير مناسبة لها.
“هذا مكان ممنوع.”
“أ-أنت مخطئ! لم أكن أنوي الدخول!”
ثم تمتمت مرتبكة:
“ربما فقط… كنت فضولية لثانية. لكن لا! لم أعد مهتمة!”
كان واضحاً أنها نبيلة صغيرة… لا تعرف شيئاً عن القصر.
“عودي الآن.”
“سأفعل… لكن…”
ترددت قليلاً ثم قالت:
“هناك مشكلة.”
“مشكلة؟”
“نعم. كبيرة.”
ثم أشارت إليه:
“لقد أصبحتَ شاهداً. كان عليّ أن أختفي بهدوء، لكن الآن… ماذا أفعل بك؟ ستتحمل المسؤولية!”
تجمد جيروم لحظة. مسؤولية؟
أي نوع من التفكير هذا؟
تنهد وقال:
“لا تقلقي. لن أخبر أحداً.”
“حقاً؟ سرّاً؟”
“نعم.”
ابتسمت بصدق، ابتسامة ملأت وجهها نوراً.
“أنت ألطف مما تبدو.”
كان تعليقاً غريباً… لكنه شعر بشيء يتحرك بداخله.
“بالمناسبة، اسمي هيلينا.”
هيلينا…
تذكر فوراً. ابنة دوق شوفابن… ذلك البيت الذي وقف دوماً ضد الإمبراطور.
كانت أصغر منه بسنتين.
ومع ذلك، في تلك اللحظة، حين مدت يدها الصغيرة نحوه بابتسامة…
لم يرَ فيها ابنة عدو.
بل فتاة مختلفة تماماً.
وهكذا… كان لقاؤهما الأول.
تمام 👌🔥
الفصل 124 – «من البداية لم يكن هناك أحد آخر» (2)
جيروم كان يحدق في تلك اليد الصغيرة الممتدة أمامه.
أصابعه توقفت لحظة، ثم ببطء… مد يده وصافحها.
كانت يدها دافئة على نحو غريب.
لأول مرة، منذ زمن طويل، شعر جيروم أن شيئاً ما في صدره يتحرك.
هيلينا ابتسمت وقالت بخفة:
“الآن نحن أصدقاء، صحيح؟”
“…أصدقاء؟”
تكرار الكلمة بدا غريباً على لسانه.
“نعم! أصدقاء. أنا وعدتك، وأنت وعدتني. والأصدقاء يحفظون أسرار بعضهم.”
توقف جيروم لبرهة، ثم قال بصوت خافت:
“…إذا كان هذا ما تريدينه.”
هيلينا ضحكت:
“ها! إذن من الآن وصاعداً، لا يمكنك التراجع. لقد صرت صديقي الأول!”
جيروم نظر إليها بدهشة.
صديق؟ أنا؟ ولي عهد الإمبراطورية… أملك صديقاً؟
كانت كلمة لم يختبرها من قبل.
لكنها، وبشكل غريب، لم تبدُ سيئة.
مرت الأيام بعد ذلك، لكن ذكرى تلك اللحظة لم تفارق ذهنه.
كل مرة كان يتذكر عينيها البنفسجيتين، تلمع داخله شرارة صغيرة…
شرارة لم يعرف لها اسماً.
لكن والده، الإمبراطور، لم يكن ليسمح له بالضعف.
كان يراقبه عن كثب، يقتل كل عاطفة قبل أن تزهر.
“لا تُظهر أي ميل. لا تقترب من أحد. وإلا… سأقتلع ذلك بيدي.”
كانت تلك تهديداته.
ولطالما كان ينفذ تهديداته حرفياً.
عاد جيروم من الذكريات وهو يتنفس ببطء.
السم ما زال يسري في جسده، لكنه لم يستسلم.
فتح عينيه للحظة، ليلمح وجهي وأنا أحدق به بقلق.
“جيروم… أنت…”
قطعني بصوت مبحوح:
“تذكري هذا… من البداية… لم يكن في حياتي أحد غيرها.”
اتسعت عيناي بدهشة.
“تقصد… هيلينا؟”
لكن عينيه أُغلقت من جديد، وغرق في سباته الثقيل.
في تلك اللحظة، وأنا جالسة قربه، أدركت أن ما بينه وبين هيلينا لم يكن مجرد صدفة عابرة…
بل بداية قصة ظل يخفيها طوال الوقت.
✨ يتبع في الفصل 125…
التعليقات لهذا الفصل " 124"