استيقظت من النوم وأنا في حالة من الشرود. وما إن استعدت وعيي حتى أدركت أنّ ثمّة بطانية تغطيني. يبدو أنّني غفوت أولًا، وأنّ أليكس هو من أسدلها فوقي.
“…كم الساعة الآن؟.”
“تجاوزت الثامنة.”
جاءني الرد من شخص كان خلفي. فارتجفت من المفاجأة، والتفتُّ بسرعة لأجد أليكس ينظر إليّ بهدوء تام. كنت مرتبكة إلى الدرجة التي جعلتني لا أتحقق حتى من حالته قبل أن أردد بسذاجة:
“ماذا؟ الثامنة؟.”
“نعم. إن كانت ساعتي دقيقة.”
ناولني أليكس شيئًا ما. كان ساعة جيب. وبالفعل، كان الوقت قد تجاوز الثامنة كما قال.
“لماذا لم توقظني ما دمت مستيقظًا؟.”
قفزت من مكاني في عجلة، وأمسكت معطفي المانع للمطر وارتديته على عجل.
رفع أليكساندر كتفيه بلا مبالاة وهو يراقبني:
“كنتِ نائمة بعمق. وإن واجهتِ أي مشكلة، فسأساعدك لاحقًا.”
“حقًا، أليكس؟.”
تملكني ميل لتصديقه، لكنني سرعان ما هززت رأسي لأزيح عني تلك التوقعات. كان هدفي الوحيد أن يتعافى أليكس ويغادر بأمان، لا أن يُقحَم في شؤون عائلة ماينارد.
“لا، لا ينبغي أن أطلب مساعدة أليكس. عليّ أن أتحمل مسؤولية اختياراتي. على أي حال، تناول الطعام الذي أحضرته لك بالأمس.”
قلت ذلك بسرعة ثم اتجهت إلى الباب. كنت خائفة من أن يندفع أليكس نحو قصر آل ماينارد، لذا بدا لي الرحيل فورًا هو الخيار الأفضل.
وقبل أن تلمس يدي مقبض الباب، التفتُّ إليه. لقد كان منهكًا بالأمس، هل سيكون بخير وحده؟.
تذكّرت صوت أنينه طوال الليل، فاشتد عليّ الذنب.
“هل… هل أصبحتَ بخير؟.”
“بفضلكِ… أفضل بكثير.”
ابتسم أليكس وهو يجيبني. كان ذلك الوجه الوسيم حين يبتسم… خطيرًا على قلبي. شعرت بسخونة تملأ وجنتيّ وأومأت بخجل.
“أنا سعيدة لأنك بخير. سأترك لك بعض الدواء، تناوله بعد الإفطار.”
“سأفعل. اعتني بنفسكِ يا كلير، سأكون بانتظاركِ.”
بدت تحيته وكأنه زوج يودّع زوجته الخارجة من المنزل. خفق قلبي بشدة، ربما سمعه.
“إذًا… سأذهب الآن.”
اندفعت خارجًا تحت المطر. تمنيت أن يغطي صوت المطر الغزير ذلك الخفقان المفضوح في صدري.
—
“كلير، هل تلك الشائعات صحيحة؟.”
كنت على وشك مغادرة القصر بعد إنهاء عملي، حين سألتني الآنسة فيرونيكا فجأة دون مقدمات.
“أي إشاعة؟.”
“الشائعات التي تقول إنك تخرجين مع ديريك.”
“…ماذا؟.”
كانت كلمات الآنسة فيرونيكا سخيفة إلى درجة جعلتني أحدّق فيها وفمي نصف مفتوح من الصدمة.
“إنني… أواعد من؟.”
“أنتِ و ديريك.”
“لا يا آنسة، من قال هذه السخافة؟ ثم إن معاييري أعلى بكثير مما تتصورين.”
لو أنها ذهبت إلى المخزن لرأت رجلاً من جماله يجعل ديريك يبدو كظل باهت.
ديريك؟.
يا لها من إشاعة خيالية. ليس فقط محتواها غير منطقي، بل مصدرها كذلك.
“لقد عملتُ هنا مع ديريك منذ الطفولة، لكنه ليس من نوعي إطلاقًا. لا أفكر فيه بهذا الشكل. من الذي نشر هذه الإشاعة…؟.”
وبينما كنت أتذمر، تذكرت فجأة ما حدث بالأمس.
“هل زار الدكتور فولتاين اليوم؟.”
“نعم. اليوم موعد فحص والدتي.”
عندها فهمت كيف حدث سوء الفهم.
“آنسة… إنها مجرد شائعة. حقًا ليست صحيحة.”
نظرت إليّ فيرونيكا بعينين قلقتين، وكل شيء فيها كان لطيفًا. كما هو متوقع من البطلة.
“حقًا؟ إذن لقد أسأتُ الفهم. أنا آسفة، كلير.”
“لا داعي للاعتذار يا آنسة! يسعدني أنكِ سألتني.”
“حسنًا. لكن لم أكن أعلم أن معاييرك عالية يا كلير. وأنا أتفق معك! يجب أن تلتقي برجل رائع!.”
كانت فيرونيكا متحمسة للفكرة أكثر مني. قبضت يديها بحماس وامتلأت عيناها ببريق جعلني أضحك دون قصد.
“هل ستخرجين اليوم أيضًا؟.”
“نعم… على ما أظن.”
“حسنًا. لن أسألكِ مع من تخرجين. فقط… كوني حذرة. الطرق زلقة ومظلمة.”
“شكرًا لاهتمامكِ يا آنسة.”
كانت فيرونيكا حقًا طيبة القلب. رغم فضولها، لم تحاول التدخل في شؤوني.
لا تقلقي يا آنسة! سأحميكِ أنتِ والقصر بكل ما أستطيع!.
وبعد انتهاء كلامي، توجهت مباشرة إلى غرفتي، فقد كنت مستعدة للذهاب إلى المخزن.
خرجت وسط المطر الغزير، وعلى الطريق المظلم. كنت أعرف الدرب جيدًا حتى إنني أستطيع السير فيه دون ضوء.
لكن فجأة، رأيت نورًا غريبًا من بعيد.
كان غريبًا وجود ضوء بهذه القوة في هذا الطقس وهذا الوقت. نظرت جيدًا.
كان هناك رجال يرتدون معاطف داكنة، يبحثون عن شيء.
اختبأت بين المباني وراقبتهم بصمت.
كان الضوء صادرًا من حجر سحري، يشبه تمامًا تلك الأحجار التي تُستخدم لإضاءة الطرق حول قصر آل ماينارد.
الحجارة السحرية أغلى بكثير من الجرعات، لذلك لم أكن أحلم حتى بامتلاك واحدة.
ومع ذلك، كان هؤلاء الناس يستخدمونها للبحث عن شيء ما.
تأملت وجوههم، لم أرَ أيًّا منهم طوال السنوات الثلاث والعشرين التي قضيتها في هذه المنطقة.
جمعتُ خيوط الأفكار.
غرباء، في الليل، في هذا المطر، يستخدمون حجارة سحرية، يبحثون عن أحد.
وأليكس، أو بالأحرى أليكساندر بيرزيل، طُعن وترك ليموت في الليل نفسه.
هل يمكن أنهم… يبحثون عنه؟.
كانت فرضية منطقية جدًا.
حبست أنفاسي وأعدت النظر إليهم، ثم استدرت مغادرة بصمت.
كان طريقهم هو نفسه الطريق المؤدي إلى المخزن.
ورغم أن المسافة بعيدة بينهما، إلا أن ذاك الطريق هو الأسرع.
لكن الآن، كان ذلك الطريق خطرًا.
إن كانوا هم من هاجموا أليكس، فهكذا سأقودهم مباشرة إليه.
ومهما كان أليكس شريرًا في الرواية الأصلية، لا يمكنني أن أكون سبب موته. لا أنا، ولا أي شخص آخر.
بل، وإن كانوا هم من طعنوه، فلن يترددوا في قتلي أيضًا. حياة العامة مثل حياتي لا تساوي شيئًا أمامهم.
كان الأهم الآن هو إيصال الخبر إلى أليكس، دون أن أُكتشف.
لحسن الحظ، كنت أعرف طرق القرية كلها.
أخذت طريقًا طويلًا ومعقدًا، متجنبة كل زاوية قد يُكشف فيها أمري.
لم يتبعني أحد، لحسن الحظ. فركضت مسرعة.
كان قلبي يضرب بقوة.
لم يكن عليّ الخروج اليوم.
لكن لو لم أفعل، لكان أليكس في خطر.
عضضت شفتي وابتلعت ريقي. لقد غيرتُ مجرى القصة الأصلية وأنقذته بدلًا من البطلة. كانت تلك قراري وحدي، لذا عليّ حمايته حتى النهاية. لا مجال للندم الآن.
مسحت المطر عن وجهي وفتحت باب المخزن.
“سأدخل!.”
قلت وأنا أقتحم المكان دون طرق. ثم أغلقت الباب بسرعة وأسندت ظهري إليه ألهث.
“ما الذي حدث؟.”
سأل أليكس رافعًا حاجبه.
التقطت أنفاسي، ثم بدأت أتكلم:
“أظن أن هناك من يبحث عنك يا أليكس!.”
ما إن سمع كلامي حتى أمسك السيف الملقى بجانبه ووقف.
صحيح أن حالته تحسنت، لكن جرحه لم يلتئم بعد. ومع ذلك، حمل السيف.
“من يبحث عني؟.”
“نعم… أعني، لا، لست متأكدة…”
كنت منشغلة بالقلق عليه، فتعثرت كلماتي.
شعرت بالحرج، فعضضت لساني وأخذت أشرح ببطء ما رأيته.
“رأيت مجموعة من رجال لم أرهم من قبل، يبحثون في الطريق بين القصر وهذا المكان. كانوا عدة أشخاص، ويستعملون حجارة سحرية… لا بد أنهم يبحثون عن شيء مهم.”
وجود الغرباء في أراضي ماينارد لم يكن نادرًا تمامًا، لأن الأراضي كانت قريبة من العاصمة سيرغال، فيمر التجار والمسافرون دائمًا.
لكن ما كان غريبًا هو الوقت والطقس.
أواخر أغسطس هو موسم الأمطار، ولا يخرج الناس فيه من بيوتهم إلا للضرورة.
التجار لا يتحركون. المسافرون لا يخاطرون. الحركة متوقفة تقريبًا في كل أنحاء الإمبراطورية.
فمن هؤلاء الذين يتجولون الآن، يبحثون في الأرض؟.
والوحيد المختبئ في المنطقة هو…
الرجل الذي يقف أمامي، أليكساندر بيرزيل.
“لم أرَ شيئًا غريبًا في هذا الطريق من قبل… باستثناءك أنت يا أليكس. لهذا أخبرتك، أظن أنهم يبحثون عنك.”
“…يبدو كذلك.”
وافق أليكس على تحليلي، وقد بدا الأمر منطقيًا له.
“كيف كانوا يبدون؟.”
“كانوا يرتدون معاطف سوداء فلم أستطع رؤية ملابسهم…”
“وماذا أيضًا؟.”
استحضرت صور الرجال الذين رأيتهم.
“أحدهم كان ضخمًا كالدب. بدا وكأن لديه ندبة على وجهه. وآخر… كانت بنيته مشابهة لك يا أليكس. كان وسيمًا لكنه بلا ملامح واضحة، لا يترك انطباعًا. ثم…”
رغم شكي في دقة ملاحظاتي، بدأت أعدد أوصاف الرجال الخمسة.
“وأخيرًا، كان هناك صبي بطولي، في منتصف سن المراهقة.”
استمع أليكس لحديثي بوجه خالٍ من التعبير.
ورغم ذلك، بدا عليه التوتر، وربما الانزعاج.
“هل تعرفهم؟.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"