استعاد أليكساندر وعيه عندما خرجت كلير لتجلب الدواء.
أحسّ أنّ جسده لم يعد كما اعتاد؛ ثقيل، ورأسه يدور، حتى أن أنفاسه أصبحت صعبة. ولم يكن هذا فحسب، بل كان ذهنه ضبابيًا إلى درجة لم يعد يعرف معها إن كان يحلم أم لا.
رفع أليكساندر يده المثقلة ليلمس الإحساس الغريب على جبينه.
هناك كان منديل مبلّل.
أدرك بسرعة أنه منديل كلير.
هي الوحيدة التي كانت تأتي إلى هذا المخزن، وهي الوحيدة التي قد تضع المنديل على جبينه بهذا اللطف.
أنزل يده وأغمض عينيه وهو يفكر في كلير.
وجود كلير إيفرنيزر لم يكن خاليًا من الشبهات.
أليكساندر لم يكن يثق بها وهي تحاول مساعدته من دون سبب ظاهر.
قد تكون جاسوسة أرسلها كاليب الخائن، أو شخصًا بعثه الكونت ماينارد ليكسب وُدّه.
ومن خلال ما رآه أليكساندر من الكونت ماينارد، لم يكن يبدو عليه أنه من أولئك الذين يتذللون.
دوقية بيرزيل كانت صاحبة النفوذ الأعلى في الإمبراطورية بعد الإمبراطور نفسه.
وقد صنّف أليكساندر النبلاء من حوله بين من يسعون للتعلق به طمعًا في مكاسب ومن يحاولون سلبه شيئًا.
ولذلك لم يكن يثق حتى في الكونت ماينارد الذي أقام حول نفسه جدارًا غامضًا. بل إنه كان أشد حذرًا منه لأنه لم يستطع قراءة نواياه.
ثم وقع الحادث.
خيانة كاليب، تابعه الموثوق.
حدث ذلك بينما كان أليكساندر يعبر أراضي الكونت ماينارد متوجهًا للتجارة مع هيلون المجاورة.
وجّه كاليب طعنة عميقة إلى بطنه.
لم يستطع أليكساندر فهم أين أخطأ ولا كيف جرى ذلك، ولم يجد سبيلاً لتفسيره.
كان يفقد وعيه ببطء داخل أراضي الكونت ماينارد، بعيدًا عن رجاله.
عندها ظهرت تلك المرأة التي لم يرها من قبل.
حملته بجسدها الصغير إلى هذا المخزن واعتنت به.
كان الأمر مثيرًا للريبة. هل هناك من ينقذ غريبًا بلا مقابل؟.
كان من الصعب تصديق قصتها أنها خرجت لتفقّد المحاصيل فعثرت عليه صدفة.
في ذلك اليوم كان موسم الأمطار قد بدأ في الإمبراطورية، وكانت السماء تصبّ المطر بغزارة.
في مثل هذا الوقت لا يحب الناس الخروج من بيوتهم. ومع المطر المنهمر طوال اليوم وكأن السماء قد انفتحت، من ذا الذي يخرج؟.
ومع ذلك، هي خرجت لتتفقد المحاصيل في هذا الجوّ؟.
أليكساندر كان مقتنعًا بأنها تخفي أمرًا ما.
كان يبدو له أكثر منطقية أنها رتبت ظهورها لتجده في هذا المكان.
“لابد أنّ لديها نوايا خفية.”
كان أليكساندر يتساءل متى ستكشف كلير عن حقيقتها.
لكن ردّة فعل كلير جاءت على غير المتوقع.
لم تسأله شيئًا، ولم تحاول معرفة شيء عنه.
لو كانت لها غاية لادّعت الاهتمام بأمره ثم أظهرت نيتها الحقيقية، لكنها فعلت العكس.
وكأنها لا تريد أن تعرف شيئًا عن أليكساندر.
رؤيته لها وهي ترسم خطًا واضحًا ولا تتجاوزه جعلته يشعر بفراغ داخلي.
بعد أيام أدرك أليكساندر أنه لم يخبر كلير باسمه أصلاً.
تساءل إن كان هذا أيضًا جزءًا من خطتها، لكنه لم يجد في كلير ما يدل على أنها تخفي خطة من هذا النوع.
بل على العكس، بدت غير معتادة على إخفاء مشاعرها.
كان يتذكر كلماتها العفوية التي تخرج من فمها بلا تردد. لم يكن هذا فحسب، بل كانت ساذجة إلى درجة أن أفكارها تظهر على وجهها.
لو كان كل ذلك تمثيلاً لكان من الصعب ألا يُخدع به.
غريبة قليلاً، مختلفة قليلاً.
كان أليكساندر، وهو يراها ولا يستطيع وصفها بكلمة واحدة، يشعر براحة غريبة.
مجرد وجودها معه كان يهدئ ذهنه ويجعله يسترخي. قد تكون هذه أوّل راحة يشعر بها منذ أيام.
ساعة أو ساعتان فقط.
هذا الوقت القصير كان مريحًا وممتعًا لدرجة أنه بدأ ينتظر لقاءها.
لم يشعر بهذا من قبل.
دهش أليكساندر حين أدرك أنه ينتظر كلير.
كم من الوقت أمضاه معها؟.
أيّام قليلة فقط.
ومع ذلك، لم يستطع إنكار الراحة النفسية التي يحسها بوجودها.
ابتسامتها المشرقة جعلته يبتسم تلقائيًا.
لقد مضى وقت طويل منذ ان ابتسم بهذا القدر من الراحة، حتى بدا له الأمر جديدًا.
وبينما كان يفكر فيها، سمع صوت فتح الباب.
انتظر أليكساندر بهدوء ليرى ماذا ستفعل.
الغريب أنه كان واثقًا أنها لن تؤذيه.
لقد كانت لديها فرص عدة لتؤذيه؛ كان بإمكانها تسميم طعامه أو قتله وهو عاجز بسبب إصابته.
لكن كلير لم تفعل.
كان سبب ذلك بسيطًا وربما يبدو سطحيًا، لكن أليكساندر أراد أن يصدقها.
كانت هذه المرة الأولى التي يثق فيها الدوق بيرزيل بطيبة أحد دون سبب.
اقتربت كلير من أليكساندر ورفعت المنديل عن جبينه، ثم وضعت يدها على خده. لمستها الباردة على وجهه الساخن جعل أليكساندر يشعر بالراحة.
فتح عينيه ببطء فاتسعت عينا كلير بدهشة. بدت كالسنجاب المذعور.
بعد أن استوعبت الموقف، أخرجت الدواء من جيبها وناولته له. وحين لم يستطع أخذ الدواء، جهزته له بنفسها وقدّمته مجددًا.
كان طعم الدواء مرًا على لسانه. وبعد أن انساب في حلقه، فتح أليكساندر فمه ليسأل كلير.
“هل ستبقين إلى جانبي الليلة؟.”
كانت تلك أول مرة يطلب فيها أليكساندر من أحد أن يبقى معه.
الليالي كانت دائمًا وحيدة ومملة، لكنه ظنّ أنها لن تكون مملة بوجودها.
بدت كلير مترددة.
أدرك أليكساندر أنها يجب أن تعمل خادمةً لدى الكونت ماينارد غدًا، فحاول سحب كلامه.
“إن لم تريدي، فلا بأس. يمكنك الذهاب.”
“حسنًا، بما أنك مريض، سأبقى قربك الليلة فقط. فلا ندري ما قد يحدث في الليل.”
ابتسم أليكساندر ابتسامة خافتة لموافقتها.
بدأت كلير تعتني به بعناية. لم يكن أليكساندر يكره لمستها وهي تمسح عرقه البارد.
حتى في دوقية بيرزيل، كانت الخادمات يعتنين به حين يُصاب، لكنه لم يشعر يومًا بالراحة التي يحسها الآن.
“لماذا تبتسم هكذا دائمًا؟.”
تمتمت كلير بنبرة فيها دلال وهي ترى أليكساندر يبتسم.
“هكذا فقط… إنها المرة الأولى بالنسبة لي.”
“لمرة الأولى بماذا؟.”
صوتها كان مليئًا بالفضول.
“أن أقضي الليل مع أحد.”
“…أتدرك كم يبدو كلامك غريبًا؟.”
“غريب؟ ما الغريب في ذلك؟ أليس هذا ما يحدث الآن يا كلير؟.”
كان أليكساندر يفهم قصدها لكنه تظاهر بالجهل ورفع حاجبًا واحدًا. فتلعثمت كلير بخجل.
“ه-هذا ليس ما أعنيه. أنا فقط أعتني بك، أليكس.”
“صحيح، هذا ما قصدته أنا أيضًا.”
“…”
عندما تحدث أليكساندر بنبرة مازحة، ضيّقت كلير عينيها ثم أخرجت شفتها السفلى في حركة امتعاض.
ضحك أليكساندر بصوت منخفض.
كما توقع، هذه الليلة الطويلة والمملة لم تعد مملة على الإطلاق.
ومضى الوقت حتى طلع الفجر.
كانت كلير قد غفت ملتفة على نفسها فوق القش وهي تعتني بأليكساندر.
رفع أليكساندر جزعه الذي أصبح أخفّ بكثير. كان الدواء الذي جلبته كلير فعالًا، إذ بدا تعافيه سريعًا.
بعد أن تفقد حاله بخفة، تنهد طويلاً ونظر إلى كلير.
كان منظرها وهي نائمة بعمق من غير أي إحساس بالخطر منقوشًا في عينيه.
التقط أليكساندر البطانية التي كانت كلير قد أحضرتها له سابقًا وغطاها بها بحذر.
ومع دفء البطانية، تمتمت كلير بنعاس وتحرك جسدها قليلاً. فإنسابت خصلات شعرها البني على خدها مع الحركة.
توقف أليكساندر متسائلاً إن كانت قد استيقظت، لكنه لم يسمع إلا تنفسها الهادئ، ثم جلس قربها.
نظر من النافذة إلى المطر المنهمر. كان صوته يملأ أذنيه.
تنهد أليكساندر قليلاً ونظر إلى يده.
جسده بدا وكأنه يتعافى جيدًا. الحمى كانت على الأرجح جزءًا من هذه العملية.
لكن ذلك لم يجعله مسرورًا.
التعافي يعني أنه سيفترق عن كلير قريبًا.
من كان يظن أن فراق امرأة عرفها لبضعة أيام سيكون بهذه الحسرة وهذا الحزن؟.
أدار أليكساندر رأسه نحو كلير.
كانت غارقة في النوم العميق. لن تستيقظ على الأرجح حتى الصباح.
مد يده وأعاد خصلة شعرها المبعثرة خلف أذنها المستديرة.
شعرها الذي انزلق على أصابعه كان ناعمًا مثلها.
مجرد رؤيتها جعله يبتسم لسبب ما.
“يا لكِ من امرأة غريبة، كلير.”
انحنت عينا أليكساندر الوسيمتان في قوس رقيق.
لقد عانى من الأرق طيلة حياته، لكن هذه الليلة شعر أنه يستطيع النوم بسلام.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"