ومن ردّة فعل أليكس، بدا واضحًا أنّه يعرف هؤلاء الأشخاص.
ترى، هل يمكن أن يكونوا هم الذين جرحوه؟ أم ربما كانوا مجرد أفراد من رجاله؟.
“إن كان وصفكِ دقيقًا، فالأرجح أنّني أعرفهم. ويبدو فعلًا أنهم يبحثون عني.”
“لكن ردّة فعلك ليست مطمئنة. هل من الخطر أن تبقى هنا؟.”
إن كانو من يبحثون عنه هم من هاجموه، فلن يكون الاختباء هنا فكرة جيدة على الإطلاق.
كنت قد سمعت أنّ أليكس متمرس في فنون السيف. لكن إصاباته لم تكن شُفيت بعد، ولو اندلع قتال الآن، فسيكون من الصعب عليه مواجهة خمسة رجال.
وفوق ذلك، كان أحد الخمسة رجلاً ضخم البنية، رجلًا بدا جسده ضعف جسد أليكس تقريبًا.
ومن منظوري كإنسانة عادية، كان من المستحيل تقريبًا تخيّل أليكس وهو يهزم رجلاً بهذه الضخامة.
ما لم يقم ذلك الرجل، الذي يشبه الدب، بطرحه أرضًا منذ البداية.
وبدا أن أليكس يفكّر في كلماتي بينما يقف محدقًا بباب المخزن.
“ربما.”
تبعتُ نظراته نحو الباب، فلم أرَ سوى باب خشبيّ داكن اللون.
وفجأة، دوّى صوت خلف الباب.
وقبل أن أصرخ من شدّة المفاجأة، طوّق أليكس خصري بيده اليسرى وجذبني إليه بقوة.
اختلّ توازني بجانب جسده.
وحين استوعبت ما يجري، وجدت نفسي بين ذراعيه، وفي يده اليمنى سيف حاد يلمع في العتمة.
“صه.”
أصدر أليكس صوتًا خافتًا يأمرني بالصمت.
أطبقتُ شفتيّ، وتناوب بصري بين ملامحه الجانبية الجادة والباب المغلق أمامنا.
ومع أنّني لم أعرفه سوى منذ أيام قليلة، إلّا أنّه كان يبتسم كلما تحدث إليّ. أمّا الآن، فكان يحدّق بالباب بتجهم صارم لم أره من قبل.
لكن الصوت خلف الباب لم يدخل إلى الغرفة على الفور.
أبعد أليكس ذراعه عن خصري، وأشار بيده لأتراجع.
وضعتُ كفّي على فمي وسرت خلف الصناديق المتراصّة، مختبئة بينها.
حلّ توتر غريب في المخزن. حتى صوت المطر بدا أعلى وأكثر ثِقلاً.
“كلير، إياكِ أن تخرجي أو تنظري حتى أقول إن الأمر آمن.”
قالها أليكس بصوت منخفض.
هززت رأسي بصمت وكتمت أنفاسي.
عند تلك اللحظة، انفتح الباب بقوة، مصحوبًا بصوت ارتطام عنيف وصراخ حاد.
على ما يبدو، كان أليكس يقاتل المتسللين داخل المخزن، لكن لم أستطع حمل نفسي على النظر.
الشيء الوحيد الذي أشعرني بالطمأنينة هو أنّ الصرخات لم تكن مألوفة، لم تكن صرخاته.
بدأت يداي، اللتان تغطيان فمي، ترتجفان.
كانت معركة بالسيوف تجري في المكان نفسه الذي أقف فيه.
والرجل الذي كان معي قبل لحظات هو من كان في قلب هذه المعركة.
امتزجت رائحة الدم برائحة الأرض المبتلة بالمطر.
وعندما شممتها، استطعت أن أدرك أكثر ما يمثله أليكس، أو بالأحرى، أليكساندر بيرزيل.
في الرواية، كانت مثل هذه المعارك تُختصر في بضعة أسطر.
لكن بالنسبة لدوق بيرزيل، كانت حياة حقيقية وصراعًا من أجل البقاء.
صوت الحديد المتصادم، الصرخات المفزعة، ورائحة الدم التي تقلب المعدة…
كل ما كنت أظنه «تفاصيل رواية» كان يحدث الآن، خلف هذه الصناديق مباشرة.
حتى لو لم يحذّرني أليكس، ما كنت لأجرؤ على الخروج.
آه، إذن هذا هو الرجل الذي كنت بصحبته طوال هذا الوقت.
رجل لا يتردد في القتل إن اضطر إليه.
وحين أدركت هذه الحقيقة، شعرت بشيء من… الارتياح.
على الأقل، تدخلي قد منع آنستي من أن تكون هنا.
لو كانت هنا كما في القصة الأصلية، لربما كنت أنا الضحية التي يقتلها أليكس في النهاية.
لكن الآن، بما أنّ أليكس لم يقع في حب آنستي كما يحدث في الأصل…
فربما كُتبت لي النجاة لبعض الوقت.
يا للراحة.
الحمد لله أنّ آنستي ليست هنا.
وإن كنت لا أعرف كم سيدوم هذا الأمان.
—
“كلير.”
سحبني صوت ما من شرودي.
كان صوت أليكس.
كان عليّ أن أجيبه…
لكن شفتيّ لم تتحركا.
والهواء البارد الذي أحاط بي جعلني أنكمش أكثر.
“…كلير؟.”
فجأة، ظهر أليكس بين الصناديق وهو يعبس.
“الوضع ليس جيدًا. عليكِ العودة الآن.”
هذا ما أردت قوله أصلًا.
كنت أريد مغادرة هذا المكان حالًا.
تجاهلت رائحة الدم المعدنية وانحنيت برأسي.
لكن الخروج يعني أنّني سأرى الأجساد الممدّدة خارج الصناديق.
“تعالي. يمكنكِ إغماض عينيكِ إن كنتِ خائفة.”
خفّ توتري قليلاً بصوته المنخفض، لكنني لم أستطع إرخاء حذري.
هل يمكنني الوثوق به وإغماض عيني؟.
وعندما نظرت إليه بعينين مرتابتين، مدّ يده نحوي.
“لا تخافي. كلير، كما ساعدتِني، أنا الآن أساعدكِ.”
كانت يده كبيرة وخشنة.
“لن أؤذيكِ.”
لا تقلها بهذه اللطافة، فأبدأ بتصديقك…
“هيا.”
كان صوته الحاثّ غريبًا، مهدئًا.
وفي النهاية، وبيدين مرتجفتين، أمسكت بيده.
قبض أليكس على يدي بقوة ثابتة ولكن لطيفة.
وبملامسة قبضته الصلبة، حدّقت في وجهه بذهول.
“أغمضي عينيك.”
ومع كلماته تلك، جذبني نحوه.
وفي اللحظة نفسها، ارتفع جسدي عن الأرض.
لم تكن تلك سحرًا.
لقد رفعني ببساطة بين ذراعيه.
أصبحت عاجزة، لا أستطيع فتح عينيّ ولا دفعه بعيدًا.
وبقيت ساكنة بين ذراعيه بينما تقدم بخطوات واثقة.
لم يكن المخزن كبيرًا، لذا لم يستغرق الخروج سوى بضع خطوات.
عرفت أننا خرجنا لأن المطر لامس وجهي.
وعندها فقط، فتحت عيني بتردد.
بدأت الرؤية تتضح من حولي.
وكان أول ما رأيته، وجه أليكس الخالي من التعبير.
ولما لاحظ أنني فتحت عيني، نظر إليّ.
ارتجفت وتجنبت النظر إليه.
“…”
ولحسن الحظ، لم يقل شيئًا.
غطّى صوت المطر الغزير صمتنا المربك.
كنت ممتنّة للمطر، فقد منحني عذرًا لأشيح بوجهي.
وبعد أن هدأت قليلًا، أدركت فجأة في أي وضع غريب كنت.
لم يكن مناسبًا أبدًا أن أبقى في ذراعي أليكس بهذه الطريقة.
“أمم…”
تلعثمت قليلًا قبل أن أنطق أخيرًا.
ومع ذلك، لم يرد أليكس.
“يمكنك أن تتركني الآن.’
فقد خرجنا بالفعل من المخزن، وكان بوسعي السير بنفسي.
توقف أليكس لثوانٍ، لكنه لم يضعني أرضًا، بل واصل السير.
“…أليكس؟.”
“ابقي هكذا.”
“…حسنًا.”
بعد ما حدث في المخزن، لم أستطع معارضة أمره.
راقبته بصمت.
ولحسن الحظ، لم يظهر أي تغيّر في ملامحه.
وبينما بدأت أشعر ببعض الارتياح، اخترق ضوء ساطع ظلمة المطر.
“هاه؟.”
امتزج صوت غريب مع صوت المطر.
“صاحب السمو؟.”
“سمو الدوق؟.”
“سيدي؟.”
نظرت نحو مصدر الأصوات.
لقد كانوا نفس الأشخاص الذين رأيتهم قبل دخول المخزن.
إذن، لم يكونوا هم مهاجمي المخزن؟.
رمشتُ بلا قدرة على الفهم، بينما اقترب الرجال الخمسة منا.
لكن أليكس لم يتوقف عن المشي.
“سيدي! لقد بحثنا عنك في كل مكان!.”
صرخ الرجل الضخم، وملامحه مشوهة كأنه يبكي. ولم أعرف إن كان ما ينحدر على وجنتيه مطرًا أم دموعًا.
“أين كنت طوال هذا الوقت؟.”
“هل أنت بخير؟.”
“لقد أمسكنا بذلك الحثالة كاليب بالفعل.”
ورغم برود أليكس وصمته، استمروا في الكلام.
وحين لم يرد، تبادلوا النظرات فيما بينهم ثم سكتوا.
كانوا يفهمون بعضهم بعيونهم فقط.
ثم تبعوه بصمت.
لم أدرِ أنّهم كانوا رجاله. لا عجب أنهم كانوا يبحثون عنه في هذا الطقس الفظيع.
لقد كنت أظنّهم الرجال الذين طعنوه…
لكن نظراتهم التي صارت مركّزة عليّ شعرت بها تخترقني.
أجل…
لا بد أن الموقف بدا غريبًا بالنسبة لهم. قائدهم يظهر فجأة وهو يحمل امرأة مجهولة.
ومع ذلك، لم يكن بيني وبين أليكس أي علاقة خاصة. انا فقط… من أنقذت حياته.
حيّيتهم بتحية مرتبكة.
لكن نظراتهم لم تتغير.
“إنها من أنقذت حياتي. عامِلوها باحترام.”
قالها أليكس وهو يلاحظ ترددي.
“ماذا؟ منقذة؟.”
“هذه؟.”
قال الرجل الضخم والفتى المراهق بدهشة واضحة.
لكن أليكس التزم الصمت، كعادته.
وأخيرًا، توقفت تلك النظرات المشككة، وإن ظل فضولهم يزداد.
وعندما وصلنا قرب ضيعة ماينارد، أنزلني أليكس.
وما إن لامست قدماي الأرض حتى كادت ركبتاي تخونانني، لكنه أمسك بذراعي بسرعة لئلّا أسقط.
“شكرًا لك.’
شكرتُه على دعمه لي.
ابتسم أليكس ابتسامة خفيفة ثم ترك ذراعي.
لم يعد مضطرًا لإخفاء كونه دوقًا، ومع ذلك ظل لطيفًا معي.
“إياكِ أن تذهبي إلى ذلك المخزن ثانية.”
“نعم…”
انحنيت قليلًا، ثم بدأت أسير بخطوات متعثرة نحو الضيعة.
وكانت أصوات رجال أليكس تتلاشى تدريجيًا خلفي.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"