1
“إن المطر يهطل بغزارة…”
تمتمت الآنسة فيرونيكا، التي كانت قد سحبت الستائر لتتفقد ما وراء النافذة، بصوتٍ يملؤه القلق.
وضعتُ يديَّ خلف ظهري واقتربتُ منها بخطواتٍ هادئة، وأومأتُ برأسي وأنا أطلُّ عبر النافذة التي فتحتها.
“حقًا، المطر غزير. يبدو أنّ موسم الأمطار هذا يحمل أكثر من المعتاد.”
لم يكن الليل وحده قد أرخى سدوله، بل حجبت السحب الممطرة ضوء القمر والنجوم، فغرق الخارج في ظلام دامس.
كما قالت الآنسة فيرونيكا، كان المطر والريح هذه المرة أشدَّ من المعتاد.
سألتها بحذر:
“هل يقلقكِ الأمر كثيرًا يا سيدتي؟.”
كنتُ أعرف ما يقلق الآنسة فيرونيكا، كانت على الأرجح تخشى أن تتلف المحاصيل في الإقطاعية، وأن يُسبِّب ذلك مشقّةً للناس هناك.
أجابتني:
“نعم… أرجو أن يكون كل شيء بخير.”
“لا تقلقي كثيرًا يا آنسة. لن يحدث شيء سيء.”
قلتُ ذلك لأُطمئن الآنسة فيرونيكا، لكن المطر الغزير لم يبدُ أنه سيتوقف قريبًا. كان من الواضح أن موسم الأمطار هذا سيحمل هطولًا متواصلًا.
تنهدت الآنسة فيرونيكا بعد أن ظلت طويلًا تحدق في الخارج بوجهٍ قلق، ثم قالت فجأة إنها ستخرج لتتفقد المحاصيل بنفسها.
“لا أظن أن الأمر سيصلح هكذا. يجب أن أذهب لأتأكد من المحاصيل.”
حين سمعتُ كلماتها تلك شعرتُ بشعور غريب من الديجا فو.
لقد رأيتُ الآنسة فيرونيكا تقول مثل هذه العبارة من قبل…
نعم، لقد ‘رأيتُ’ ذلك يقينًا.
يومٌ ماطر، الآنسة فيرونيكا تخرج لتفقد المحاصيل، ورجل غريب ملقى على الطريق…
بينما كنتُ أسترجع ذكرياتي ببطء، اجتاحتني صورٌ غير مألوفة.
“كلير؟.”
“اه… نعم؟.”
نادَتني الآنسة فيرونيكا باستغراب حين لم أجبها.
“ما بالكِ فجأة؟ هل أنتِ بخير؟.”
“هاه؟ آه، نعم. أنا بخير تمامًا!.”
أجبتها بابتسامة واسعة لأُطمئنها، لكن قلبي لم يكن مطمئنًا، وشعرتُ بزوايا فمي ترتجف قليلًا.
“إذن هل تساعدينني في الاستعداد للخروج؟.”
لحسن الحظ، بدا أن الآنسة فيرونيكا لم تلحظ ارتجاف شفتي. رؤية ابتسامتها المرتاحة جعلت العرق البارد يتصبب من ظهري.
قد يبدو الأمر سخيفًا، لكن هذا كان عالمًا داخل رواية.
عودة ذاكرتي المفاجئة جعلت رأسي يدور.
كنتُ أعرف أنني قد تجسدتُ في شخصية، لكني لم أكن أعلم بدقة أيّ عالم أعيش فيه. كنتُ أظنه عالمًا رومانسيًا أو فانتازيًا بشكل عام.
لكن في اللحظة التي سمعتُ فيها كلمات الآنسةفيرونيكا، قفز إلى ذهني اسم رواية محددة بوضوح شديد.
هذه كانت رواية “الزهرة الهاوية”.
قصةٌ تكون فيها البطلة فيرونيكا ماينارد ضحيةً للشرير أليكساندر بيرزيل، قبل أن تلتقي بالبطل إدوين آنستيس وتصل إلى نهاية سعيدة.
وهنا الآن هو مُقدِّمة الرواية، اللحظة التي تلتقي فيها الآنسة فيرونيكا، التي لم تظهر بعد في المجتمع الراقي، بالدوق أليكساندر بيرزيل لأول مرة.
صرختُ بعد انتهيت من تجميع المعلومات.
“يا إلهي!.”
– “ماذا؟.”
لن أدع الآنسة فيرونيكا تلتقي بالدوق بيرزيل اليوم.
لو التقيا، ووقع الدوق في حبها من النظرة الأولى، فسينتهي كل شيء.
من يستطيع ألا يقع في حب الآنسة فيرونيكا الجميلة؟ شعرها الوردي الناعم كبتلات الزهر المتفتحة، وعيناها الزرقاوان الصافيتان كحجر التوباز، بشرتها الملساء وشفاهها الممتلئة الحمراء كالكرز.
حتى الدوق بيرزيل الشهير لا بد أنه سيُسحَر بها. وإن حدث ذلك، سيخطط لتدمير أسرة الكونت للحصول عليها، وسيحبسها ويُحطِّم حياتها.
لم أستطع أن أتحمل رؤية حياة سيدتي العزيزة تنهار.
بل أكثر من ذلك، كان الدوق سيعزل الآنسة فيرونيكا ليستحوذ عليها، وإن لم ينجح، سيقتل جميع أفراد أسرة الكونت. وبالطبع، أنا التي أرافق الآنسة فيرونيكا عن قرب لن أكون استثناءً.
لأجل الآنسة فيرونيكا، ولإنقاذ حياتي أنا أيضًا، كان عليَّ أن أمنع لقاؤهما هذه الليلة.
رمقتُ النافذة بسرعة أبحث عن ذريعة لأثني الآنسة فيرونيكا عن الخروج.
“المطر غزير جدًا الليلة! ماذا لو أصابكِ البرد إذا خرجتِ؟ لقد تأخر الوقت، نامي الآن واذهبي صباحًا عندما تشرق الشمس.”
“ولكن…”
“إن كنتِ قلقة إلى هذا الحد، سأذهب أنا. ابقي أنتِ هنا يا سيدتي.”
“أأنتِ ستكونين بخير لوحدكِ يا كلير؟.”
“نعم. ألم تكوني على علم بأنني أحب الوقوف تحت المطر؟.”
حتى أنا كنتُ أرى حجتي هذه غريبة. حدّقت الآنسة فيرونيكا في وجهي بعينيها الواسعتين كأنها تسمع ذلك لأول مرة.
“حقًا؟ لقد نشأنا معًا وهذه أول مره أسمعه.”
بالطبع كان ذلك كذبًا.
“إنه هواية طارئة. خرجتُ تحت المطر مرةً فشعرت أنه ليس سيئًا.”
تطلعت إليَّ الآنسة فيرونيكا بريبة، ثم ابتسمت أخيرًا.
“…إذن هل أستطيع أن أطلب منكِ ذلك اليوم؟ فقط تفقدي المحاصيل ثم عودي.”
“بالطبع. ثقي بي.”
لحسن الحظ، بدا أنها اقتنعت.
“سأتحقق بسرعة وأعود. يجب ألا تنتظريني هنا، حسنًا؟ قد أتأخر، فاذهبي إلى فراشكِ أولًا.”
“نعم. كوني حذرة، الطريق زلق والظلام دامس.”
ما إن سمعتُ جوابها حتى غادرتُ الغرفة على الفور.
عدتُ إلى غرفتي مسرعة، بدلت ملابسي بأخرى لن تبتل، ارتديت معطف المطر وغادرت القصر.
كان المطر ما يزال يهطل بغزارة. لم يكن مجرد تعبير، قطرات المطر كانت تؤلم كتفيّ.
لو لم أكن أرتدي ثيابًا سميكة تحت معطف المطر لأصبتُ بالبرد في اليوم التالي.
لكن لم يكن هناك وقت للقلق الآن. بدأتُ أسير باتجاه المكان الذي كانت الآنسة فيرونيكا ستتفقده.
عندما وصلتُ إلى الأراضي الزراعية، كانت المحاصيل فعلًا متهالكة بفعل المطر كما خشيت الآنسة فيرونيكا.
بينما كنتُ أنظر إلى المحاصيل بحزن، لاحظتُ شخصًا غريبًا ممددًا على الأرض.
اقتربتُ أكثر فتأكدتُ أنه إنسان كما توقعت.
رجل بملابس سوداء، ذو وجه وسيم، يمسك بطنه بيد واحدة وكأنه مصاب. كان يتمتم بشيء، لكن المطر كان عاليًا فلم أسمع ما يقول.
ناديتُه رغم أنني أعلم أنه لن يسمعني وسط المطر.
“هي…”
“أنتَ أليكساندر بيرزيل، أليس كذلك؟.”
لم يرد الرجل. تقدمتُ نحوه بحذر أكاد أنزلق في الوحل.
كلما اقتربتُ منه، تبيّن لي مظهره أكثر. شعره الأسود المبتل يلتصق بجبهته، قطرات الماء تتجمع على أنفه الحاد وتسقط على شفتيه الحمراوين. لم أرَ شخصًا بهذا الجمال والوسامة بعد الآنسة فيرونيكا.
كنتُ متأكدة وأنا أنظر إليه: هذا الرجل بلا شك هو دوق بيرزيل.
ترددتُ وأنا أحدّق بالرجل الغائب عن الوعي.
إن تركتُه هنا فسينقذه الجنود في النهاية.
وفوق ذلك، سيكون بحوزته بالتأكيد رمز تعريفه، وسيؤكّد الجنود هويته ويأخذونه إلى قصر السيد.
وحينها سيكون لقاء الآنسة فيرونيكا به حتميًا.
لو التقيا فسيغرم بجمالها بلا شك.
لكنني لم أستطع أن أدع ذلك يحدث.
كان عليَّ أن أمنع لقاءهما مهما كلّف الأمر. لذلك لم يكن بوسعي تركه هنا.
نظرتُ حولي بسرعة. لحسن الحظ كان هناك مخزن مهجور قريب.
يمكنني أن أُخفيه هناك مؤقتًا.
اتخذتُ قراري ورفعتُ كتفه.
لم يكن من السهل جرُّ رجل أكبر منّي حجمًا، مبلل ومتراخٍ من المطر.
كنتُ أتحرك ثلاث خطوات ثم أستريح، خطوتين ثم أستريح، أجرُّه جرًّا حتى وصلتُ المخزن بعد أن التقطتُ أنفاسي عدة مرات. لم أدرِ كم مضى من الوقت.
بعد أن أضجعته في المخزن أخذتُ نفسًا عميقًا. جسدي مرهق وشعرتُ أن صبري على وشك النفاد.
لكن لم يكن بوسعي الاستسلام هنا.
فما الذي يجب أن أفعله بعد ذلك؟.
هذا المخزن يُستعمل بعد الحصاد فقط، ولا أحد يأتيه في موسم المطر.
هل أستطيع أن أتركه هنا؟ فكرتُ في ذلك، لكن الأمر غير ممكن.
ماذا لو استيقظ وطلب المساعدة من قصر السيد؟ ستكون كل جهودي هباءً.
لم يكن هناك سوى حل واحد.
عليَّ أن أعالجه هنا بنفسي ثم أرسله بعيدًا من دون أن يقترب من القصر.
لكنني لم أكن واثقة إن كان ذلك ممكنًا.
كنتُ مضطرة إلى مغادرة هذا المكان عند عملي…
لكن كان هناك حل.
تنهدتُ بعمق وعلّقتُ معطف المطر على الحائط. قررتُ أن أخلع ثياب الرجل أولًا.
لو بقي بثياب مبللة فقد يُصاب بالبرد أو بانخفاض حرارة جسده. وسيكون الأمر مزعجًا إن مات هنا.
رغم أن إصابته وبقاءه تحت المطر ليس ذنبي، إلا أن عدم إسعاف نبيل يُعد جريمة خطيرة.
مددتُ يدي لأنزع ثيابه العلوية.
في تلك اللحظة، فتح الرجل عينيه فجأة وأمسك معصمي.
“من أنتِ؟.”
كانت عيناه الزرقاوان الكامنتان تحت جفنيه مثل الجواهر، ونظرته الباردة انصبّت عليّ مباشرة.
جسدي كله ارتجف وفقدتُ انفاسي لوهلة.
“آه…”
تمكنتُ بالكاد من فتح فمي وأخذ نفس. تكلمتُ ببطء وأنا أراقب ردّة فعله.
“أ-أنا كلير إيفرنيزر.”
التعليقات لهذا الفصل " 1"