تظاهرتُ بالهدوء و أنا أرتشف الشاي لأبلّل شفتيّ بينما أشعر بالتوتر في داخلي.
أمّا الطرف الآخر فحافظ على ابتسامةٍ هادئة حتى في جوٍّ يُفترض أن يُشعر فيه بالضغط الشديد.
هو ليس شخصًا عاديًّا حقًّا.
“مهما فكّرتُ في الأمر، لا أذكر أنني قمت بدعوة الكاردينال هانويل من قبل.”
لقد اعتذر عن الزيارة بلا موعد، لكن لو لم يكن من وفد المملكة لما تجرّأ على إبداء مثل هذه الوقاحة.
كان يظهر ابتسامة ودودة و يتصرّف كيفما يشاء.
في النهاية ، هو لا يختلف عن سيروين كثيرًا.
و رغمَ توبيخي البارد، لم يرتجف هانويل أبدًا، بل وضع كأس الشاي و فتح فمـه:
“أعتذر مجدّدًا. بعد أيام قليلة سينتهي عرض البوابة و سنعود إلى المملكة، لهذا أصبحتُ مستعجلاً.”
ضيّقتُ عينيّ.
“أعلم أنكَ مهتمّ بنظريات قوى السحرة و المستيقظين، لكنني الآن لا أملك الوقت للحديث عن هذا. إذا احتجتَ وثائق فيمكنني أن أرسل إليكَ ما تشاء.”
بمعنى: إن لم يكن لديكَ أمرٌ مهم فارجع من حيث أتيت.
مع أنه فهـم كلامي، لكنه لم يتحرّك قيد أنملة.
لماذا يُصرّ إلى هذا الحدّ على مقابلتي؟
هل لأنه زعيم الأشرار؟
بينما تتعمّق شكوكي، فتح الكاهن ذو الشعر الأزرق السماوي النقيّ و العينين الفضيتين اللبنيتين فمـه:
“في الحقيقة، أودّ أن أعترف بشيء ما.”
كدتُ أسخر قائلة : لماذا تعترف لدوقة إمبراطورية؟ لكنه سبقني:
“لم يكن اهتمامي بعلاقة القوتين المتباينتين، السحر و قوة المستيقظين، مجرّد رغبة أكاديمية.”
شعرتُ بنذير شؤم.
بينما أحدّق فيه، ابتسم بخجلٍ و نعومة و قال:
“أنا كاهنٌ… ومستيقظ في الوقت نفسه.”
اعترافٌ خطير كهذا فجأة؟
بالطبع كنتُ أعلم أن الكاردينالين كليهما مستيقظان.
لكنني تظاهرتُ بالدهشة المناسبة، و رفعتُ حاجبًا واحدًا كأنني أقول: لماذا تخبرني أنا بهذا؟
ابتسم هانويل بإحراج و وضع يـده على صدره:
“هذه أول مرة أخبر فيها أحدًا. بما أن جسدي سلكَ طريق الكاهن أولاً، لم أشعر أنني بحاجة للإعلان عن هذا الأمر.”
لم يكن بإمكاني أن أبقى صامتة تمامًا، فحرّكتُ عقلي بصعوبة:
“ألم تحتج يومًا إلى قوة مرشد؟”
كانت رموشه الطويلة المتأرجحة جميلة جدًّا، لكن ربّما بسببِ تحيّزي …؟ لماذا تبدو كلها مزيفة هكذا؟
“ربما لأن قوتي ليست قوية، أو لأنني لم أستخدمها بشكلٍ صحيح يومًا، لحسن الحظ لم أواجه خطر انفجار مستيقظ أبدًا.”
“و مع ذلك، لا بد أنّـكَ تشعر بإزعاج أحيانًا.”
كان هذا سؤالًا خطر لي أيضًا و أنا أفكّر في أردييل الذي يخفي كونه مستيقظًا.
ساحرنا الصغير الجميل الذي يبتسم دائمًا ببراءة و دلال لم يُظهر يومًا ألمًا أو انزعاجًا.
“بالطبع أظن أن اعترافي المفاجئ قد أزعج سموّ الدوقة.”
ليتني أعلم الحقيقة.
لم أؤكّد و لم أنفِ، بل شبكتُ ذراعيّ وكأنني أخبره أن يتابع كلامه.
“لكنني كنتُ أتساءل.”
“بشأنِ ماذا ؟”
“سلكت طريق الكهنوت، ثم ازدهرت فيّ قوة المستيقظ في أحد الأيام. كنتُ أتساءل لماذا منحني الحاكم هذا الابتلاء؟ كيف يجب أن أعيش؟ ما هو مصيري؟”
“…..”
“الإمبراطورية مركز المستيقظين، فتساءلتُ: هل يوجد شخصٌ مثلي؟ صحيح أنني كاهن بلا قوة مقدسة، لكنني لم أرَ يومًا كاهنًا و مستيقظًا في الوقت نفسه. بهذا يبدو الأمر و كأنني أقاوم القدر الآن.”
لكن هناك واحد، أليس كذلك؟
بل إنّـه كاردينال إلى جانبـكَ.
“لذلك خطرت لي فكرة بما أن أرض الإمبراطورية واسعة، فقد يوجد ساحرٌ و مستيقظٌ في الوقت نفسه.”
“حسنًا، على حدّ علمي لا يوجد ساحرٌ مستيقظ.”
” و ماذا عن قوّة المرشد مثلاً…”
“….”
“أليس الباب مفتوحًا على كل الاحتمالات؟”
“لا أعلم.”
بالطبع شعرتُ بتأنيب ضمير في داخلي، لكنني شددتُ وجهي بوقاحة.
‘أنا أشـكّ فيك.’
من المنطقي أن قوة البوابات تهـزّ أساس العالم.
هل سيمنح حاكم هذا العالم القوة المقدّسة إلى شخصٍ يمتلك قوةً من عالم آخر؟
‘لذلك فإن كونكَ بلا ذرة قوة مقدسة يبدو منطقيا.’
كلامه الذي يخرج بصوتٍ عذب كالأغنية إما حقيقةٌ خالصة، أو كـذب.
لكن الكاردينال اللطيف و كبير الكهنة قال بنبرة سلمية:
“قد يصعب تصديقي وأنا بلا قوة مقدسة، لكنني شعرتُ بشعور بأن عليّ القدوم إلى هنا. كأن أحدهم يرشدني. ثم التقيتُ بـكِ، يا سموّ الدوقة.”
“….”
“شعرتُ أن حواري معـكِ قد يحلّ هذا الشكّ الذي أحمله منذُ زمن.”
كلامٌ عميق المعنى.
و كأنّـكَ تعرف أنني قد أكون نصفـكَ المفقود الذي يمكنـكَ الارتباط بـه.
… أنا أيضًا أُساق من قِبل شيءٍ يُدعى النظام.
“إذا سمحتَ لي بقول برأيي الشخصي، فأنا أعتقد أنه من الأفضل أن تنضمّ إلى فرقة فرسان جلالة الإمبراطور. لكن…”
إذا كان هذا الرجل زعيم الأشرار ، فعليّ على الأقل أن أرمي له طُعمًا لأختبره.
“ما شأننا بما سيحدث و ما إلى ذلك؟ القوة مجرّد قوة. إذا كنتُ صاحبة القوة و أنا قادرة على استخدامها جيّدًا فلن أشعر بحيرة. هل يجب على كلّ مَـنْ يملك قوة المستيقظ أن يصبح فارسًا؟”
“الإرادة تسبق كل شيء. لا يوجد قانون يجبرني على استخدام القوة في طريق معين ، ذلك شيء أقرّره بنفسي”
رغمَ كلامي المستفز، لم يغضب الكاهن.
بل بدت عيناه مذهولتين قليلاً.
لا، لماذا فتحهما بهذا الشّكل؟
‘آه، هل أفرطتُ في استفزازه؟’
أنا في الحقيقة أعلم أنّـكَ لست كاهنًا! و أن احترامك لمعتقداتكَ لا يساوي حتى قرن شيطان!
كنت أختبره تحت هذا القصد.
بينما أشعر بتوتر خفي، في تلكَ اللحظة بالذّات.
─ دينغ!
ألا يصبح الأمر مخيفًا إذا أصدرتَ صوتًا في هذا الوقت بالذّات، أيها النظام؟
كدتُ أتذمر داخليًّا من سخافة الأمر.
[ارتفعت درجة الإعجاب!]
‘ماذا؟ فجأة؟’
كان الأمر مفاجئًا مثلما حدثَ عندما التقت عيناي بعينيّ بديكاردو.
كنتُ أخطّط لأن أعتبره متورّطًا مع الأشرار في حال شعر بالذنب، و كاهنا حقيقيًّا في حال شعر بالغضب.
ماذا فعلتُ لترتفع درجة الإعجاب فجأة؟
لكن ذلك لم تكـن النهاية.
دينع ، دينع ، دينغ.
توالت الأصوات و ملأت نافذة النظام الرؤية.
[ارتفعت درجة الإعجاب!]
[ارتفعت درجة الإعجاب!]
[ارتفعت درجة الإعجاب!]
[ارتفعت درجة الإعجاب!]
ما هذا الجنون؟
لا، لحظة.
كفى! هذا مخيف!
ما إن هدأت نافذة النظام التي كانت تومض بجنون حتى ظهرت الرسالة:
[أصبحت قريبًا من درجة الإعجاب المطلوبة للختم.]
“هكذا إذن، أيتها الدّوقة.”
“…..”
لم تتغيّر ابتسامته الناعمة قيد أنملة، وهذا ما جعل الأمر أكثر رعبًا.
ما خطبـكَ، هل أنـتَ أيضًا شخص مجنون؟
بما أنها ارتفعت كل هذه المرّات، فلا بد أن درجة إعجابه بي كانت سالبة من الأساس.
“نعم. القوة مجرّد قوة. يبدو أن رغباتنا ستتطابق بشكلٍ جيّد.”
لا، أنا لا أظن ذلك!
مهما كان وجهه المتورّد و المبتسم بسعادة جميلاً، فهو لا يبدو إلا مجنونًا بالنّسبة إلي.
“سأكون شاكرًا إذا أرسلتِ الوثائق. و… هل يمكننا أن نتصافح؟”
حدّقتُ في اليـد البيضاء الممدودة بصراحة، فعبستُ قليلاً.
لا أعلم ما هدفه، لكنه الآن قريب من درجة الإعجاب المطلوبة للختم.
لو أمسكت تلك اليد، فقد يحدث ما حدث مع سيروين.
‘قد تتدفّق قوتي، أو يحدث نصف ختم في هذه الحالة.’
عندها سأمـوت.
سأمـوت حقًّا هذه المرّة.
بينما تجمّدت و أنا أتصبّب عرقًا باردًا، صنع هانويل تعبيرًا حزينًا و كأنه متأسّف جدًّا.
تعبيرٌ مثالي لإثارة شعور الذنب في الطرف الآخر.
لماذا يبدو هكذا أيضًا؟
“يا للأسف. لكن فرص التقرّب ستأتي مجدّدًا! سأنتظر الفرصة القادمة. كلامـكِ أن الإرادة تسبق كل شيء أعجبني للغاية.”
بينما أنا متجمدة في مكاني ، انتهى من إلقاء التحية كما يحلو له، ثم ابتسم بلطف بينما لمعت عيناه عند كلماته الأخيرة:
“أتطلّع إلى عرض السحر، يا سموّ الدوقة.”
* * *
ما إن أغلق الكاردينال هانويل الباب و خرج حتى تبخّرت الابتسامة الودودة من وجهه الجميل في لحظة.
التعليقات لهذا الفصل " 94"