لمس لهب بارد الهواء حول خدّي بشكلٍ عابر.
رمش ديكاردو بعينين مبهورتين للحظة، ثم رفع بصره إلى الأمام.
كانت هناك امرأة بشعرٍ أحمر تحدّق بعينين قاسيتين كأن شيئًا ما أزعجها بشدّة.
“أين ذهب تركيزكَ؟”
آه، صحيح. كنا في منتصف التدريب.
شـدّ ديكاردو خصره و استقام بجسده و هو يرى الدّوقة آرييل التي يبدو عليها الانزعاج بوضوح.
خلفها، كان الساحر أردييل يجلس على كرسي جرّه بنفسه إلى ساحة التدريب، و هو يحدّق به بعينين متجهّمتين.
كانت نظراته المليئة بالكراهية و هو يرى فارسًا مستيقظًا حول سيّدته أمرًا مألوفًا جدّا.
مع أنه في الحفلة وقف أمام الدوقة كأنه في صفّها.
“الكرادلة.”
ما إن تذكّر الحفلة حتى خطر في باله الكاردينالان اللذان كانا يتقرّبان من الدوقة آرييل.
أحدهما كان لزجًـا بطريقةٍ مقززة، و الآخر مهذب ظاهريًّا لكن لا يمكن معرفة حقيقته، مما يثير القلق.
عندما تذكّر ديكاردو كل ذلك، غرق مجدّدًا في احتقار لذاتـه.
‘مهما امتدّت يـد أحد إلى الدّوقة، ما شأني أنا بذلك؟’
ما شعر به في تلكَ اللحظة كان بلا شك غيرةً حقيرة.
غيرة؟ يا للغرابة.
صحيح أنه يقف حول الدوقة آرييل ككلب حراسة يظهر أنيابه بأمر الإمبراطور، لكنه نسي حتى ذلك الأمر في تلكَ اللّحظة.
كان يرى كيف يصبح سعيدا و متوترا بغرابة كلما اقترب من الدوقة، وكان يعتبر ذلك أمرًا غريبًا منذُ فترة.
‘هل جننتَ حقًّا؟ لماذا تفعل هذا، يا ديكاردو؟’
و حتى كايل، صديقه الذي يُدعى من المقرّبين للإمبراطور، لم يقف ساكنا فحسب، بل نصحه بعد حادثة الحفلة.
‘غيرة.’
بينما يمزّق الأرض بجذور النباتات ليحوّل اللهب الطائر إلى كومة تراب، سأل ديكاردو دونَ وعي:
“هل كان هناك أي تواصل مع الكرادلة بعد ذلك اليوم؟”
ما إن نطق بتلك الكلمات حتى شعر بالندم.
كما توقّع، أصبحت عينا الدوقة آرييل أكثر برودة، و الساحر الصغير الذي يتصرّف ككلب الدوقة الشرس رفع عينيه و حدّق به.
“و لماذا تهتمّ بحياتي الخاصة، أيها الفارس؟”
“…لقد أمرَ جلالته بالحذر من الكرادلة.”
كان هذا مجرّد عذر.
كان يزعجه أن تكون الدوقة آرييل معهم.
بشكلٍ غريب جدًّا.
و قد آلمتـه كلماتها الحادة للحظة.
‘حقًّا ، هي لا تسمح لي بالاقتراب أبدًا.’
بالطبع هذا أمر طبيعي، لكنه سخر من نفسه لأنه يفكر بهذه الطّريقة.
نظر للحظة إلى أطراف أصابعه المخدّرة.
منذُ متى بدأ هذا؟
كلما وقف أمام الدوقة، كان يشعر أحيانًا و كأنه ابتلع شيئًا حارقًا.
‘لماذا؟’
يتسارع نبض قلبه و تنجذب عيناه إليها.
معظم المستيقظين يقعون في الحب عندما يلتقون بمرشدهم.
لأن الانجذاب الغريزي يتحوّل إلى فضول، ثم يصبح اهتمامًا، ثم في النهاية يتحوّل إلى إعجاب عقلاني.
‘لكن مشاعري بالذات…’
ألا تشبـه ذلك الآن؟
نفض ديكاردو شعوره الغريب ، و قال بهدوء للمرأة التي تبدو أبرد من الثلج رغمَ أنها ساحرة تستخدم النار:
“هل سمعتِ؟ في يوم عرض البوابة….”
“ماذا تقصد؟”
“تقرّر أن أكون أنا حارس العرض الذي سيعقـد بعد الظهر بعد التدريب.”
كانت قبضته المشدودة تؤلمه.
عـد إلى رشدكَ، الدوقة ليست مرشدة.
قاوم الفارس ذلك الشعور الذي كاد يسيطر عليه.
الشمس كانت حارقة جدًّا.
نعم ، هذا كل ما في الأمر.
* * *
‘يا له من مجنون.’
─ ارتفعت درجة الإعجاب!
ماذا فعلتُ لترتفع درجة الإعجاب؟
مـرّ وقت طويل منذُ أن تدرّبنا معًا، و لم يحدث شيء خاص.
كالعادة رميتُ النيران، و صدّها بالنباتات، و أردييل الذي يظهر وجهه دائمًا في هذه الساعة يدور حولنا و هو يزفر بضيق.
لكن اليوم بالذات، كان يحدّق بي بإصرار غريب، فشعرتُ بنذير شؤم.
─ دينغ!
[تـمّ التواصل مع مرشح مهمة الختم المتعدّد!
الطرف الآخر يشعر بالحيرة.
لقد بدأ يشعر بالفضول و الاهتمام تجاهك.
استغلّي هذه الفرصة لتقليص المسافة بنشاط!]
ما هذا الهراء مجدّدًا؟
تمتمتُ في سرّي بشراسة.
لا تعجبني تصرّفاتكَ مؤخرًا أيها النظام ، هل تعلم بذلك؟
تبدو و كأنكَ تموت حرصًا من أجل ربطي بهؤلاء!
‘سأصاب بانهيار عصبي.’
ربما لأنني تذكّرتُ اللّحظة التي دافع عني فيها ديكاردو في الحفلة، لم أستطع أن أقول له كلامًا أقسى رغمَ نظراته المُلحّـة.
“لنكتفي بهذا اليوم. لقد تعبتَ اليوم أيضًا، أيها الفارس.”
تركتُ الرجل الذي أراد قول شيء و غادرتُ ساحة التدريب بسرعة.
كانت تلك أفضل استجابة مني.
تبعني أردييل كالظل و هو ينادي “سيّدتي، سيّدتي!” لكن…
أريد أن أرتاح. دعوني وحدي قليلاً، رجاءًا!
“أردييل.”
“نعم! تحقّقي معي من نتائج البحث قليلاً!”
“عـد أدراجكَ. أريد أن أبقى وحدي.”
على الأقل، أردييل يفهم و يتصرف بكآبة و طاعة إذا شددتُ عينيّ و أخفضتُ صوتي.
“يجب أن تنظري معي إليها في المرة القادمة بالتأكيد…”
حسنًا، جيّـد. تـمّ حلّ هذا أيضًا.
تذكّرتُ الأعمال التي عليّ فعلها و سرتُ في الممرّ بسرعة.
بالطبع كانت عيناي مملوءتين بالإستياء.
أشعر أنني أنا مَـنْ تفعل كل العمل. بالأحرى نحن السحرة!
كلما تذكّرتُ الفرسان المستيقظين الذين رأيتهم وهم يلعبون عندما ذهبتُ لتقديم التقرير للإمبراطور، ازداد غضبي.
سحرتي يتجوّلون و الهالات السوداء تحت أعينهم تصـل إلى ذقونهم، فلماذا هؤلاء مرتاحون كأن شيئًا لم يكـن؟
لا، في الحقيقة لم يكن هذا هو السّبب الحقيقي.
ما جعلني قلقة و حساسة لهذه الدرجة لم يكن نظرات ديكاردو، و لا تذمّر أردييل المزعج، و لا جبل الأعمال المتراكمة.
‘أنا خائفة.’
بعد يومين فقط، سأضطر إلى إجراء مباراة سحرية أمام ديكاردو و النبلاء، و أخيرًا سأقف أمام البوابة لعرض السحر.
البوابة.
نعم، البوابة.
‘بالتأكيد سيحدث شيء ما.’
لم أتغلّب بعد على الصدمة تمامًا.
عندما سقطتُ مع الإمبراطور في البوابة و اضطررتُ لإنقاذه، كان لديّ هدف واضح.
كنتُ أركّز على إخراج كايسيس بأي طريقة.
لكن أن أقـف أمام البوابة بدون هدف كهذا و أستخدم السحر…
آه، خرج مني أنينٌ لا إرادي.
‘هل سأكون بخير؟’
دارت في رأسي كل أنواع الأفكار السيئة.
أخطرها أن الأشرار لن يفوّتوا تلك اللحظة أبدًا.
‘ماذا لو انفجرت البوابة؟’
إذا كانوا يحاولون حقًّا العثور على رفيقة الإمبراطور و قتلها، و إذا كانوا يشكّون في المحيطين به…
‘بالأحرى، أنا تحديدًا.’
ألن يحاولوا هذه المرة إسقاطي أنا في البوابة بدلاً من كايسيس؟
ضاق صدري بشدّة.
كانت فكرة موجة وحوش قد تُدبَّر بانفجار البوابة مرعبة، و مجرد تخيّل أن أُحاصر وحدي داخلها يخنقني.
“في ماذا يفيد كوني متجسّدة إذا لم أكن أعرف شيئًا أكيدًا!”
ما إن عـدتُ إلى مكتبي حتى صرختُ بغضب.
بعثرتُ شعري بجنون، ثم جلستُ على الكرسي و أرخيتُ جسدي.
“بالطبع لن أستسلم بهدوء.”
وزّعتُ على السحرة المشاركين أكبر عدد ممكن من أدوات التنفس الجديدة التي اخترعها أردييل تحسبًا لسقوطنا معًا.
و إذا سقطتُ وحدي، فقد خطّطتُ لأخذ أكبر قدر ممكن من الأشياء التي يمكن استخدامها كسلاح.
و الأهم أن فرقة الفرسان المستيقظين التابعة للإمبراطور، و كايسيس نفسه، سيكونون هناك.
تعالوا جميعًا!
“سأنجو. سأنجو مهما كان.”
حتى لو بـدا النظام وهذا العالم و كأنهما يقيمان طقوسًا لموتـي، سأبقى حيّـة بإصرار.
انفجار البوابة؟ فليأتِ!
بينما أشجّع نفسي، سمعتُ طرقًا على الباب.
استقمتُ فورًا و حدّقتُ في الباب.
لا يمكن لأحد أن يرى الدّوقة آرييل المضطربة.
“سيّدتي”
كان مساعدي الذي يعاني من التهاب مزمن في المعدة، دائمًا شاحب اللون.
لكن هل وجهه أشـدّ شحوبًا من المعتاد أم أنني أتخيل؟
“ما الأمر؟”
“لقد جاء زائر…”
آه، أعرف هذا الوجه.
كان تعبير مساعدي مطابقًا تمامًا لتعبيره عندما جاء الإمبراطور فجأة.
ليس هو، أليس كذلك؟
“…ليس جلالته، أليس كذلك؟”
لحسن الحظ أو لسوئه، هـزّ مساعدي رأسه، ثم فتح الباب، فملأت رؤيتي ابتسامة مشرقة طيّبة، و ثوب كهنة أبيض مبهر، و عينان فضيتان فريدتان.
“أعتذر لزيارتي بدون موعد مسبق، يا سموّ الدوقة.”
كان الزائر غير المتوقّع هو الكاردينال هانويل.
التعليقات لهذا الفصل " 93"