قمت بتهدئة قلبي المضطرب، و شددتُ جسدي كلّه، ثم حدقتُ في الإمبراطور.
في تلكَ اللّحظة ، تجمّد فيها تعبير كايسيس الذي كان ينظر إليّ بنظرات مزعجة كالثلج البارد.
لا أحـبّ ذلك. لا أحـبه. لا أريد أن يُكتشف ذلكَ!
“جلالتك، يبدو أنّـكَ واقع في سوء فهم خطير منذُ فترة.”
رأيتُ بوضوح شفتيه الجميلتين تتحرَّكان كأنه يريد قول شيء ثم يبتلعهما مجدّدا.
لكنني لم أكن أريد أن أعطيه أي فرصة.
اسمع يا جلالة الإمبراطور، الآن دوري أنا للكلام. أنـتَ عليكَ أن تغلق فمـكَ فقط!
“من الجيد أن نؤدي التمثيلية لخداع الكرادلة، لكن ما نطقت به جلالتكَ للتو قد تجاوز الخط. بجدية.”
“دوقة.”
“نعم، أنا دوقة آرييل.”
كان تحذيرًا: لا تنسَ الجدار، و المسافة، و العلاقة المتوترة بين الدوقة آرييل و الإمبراطور.
لا تعبر الحدود، يا جلالة الإمبراطور.
هذا هو المعنى.
سواء وصل تحذيري أم لا، تجمّـد كايسيس كصخرة، ثم تراجع خطوةً واحدة إلى الخلف.
عندما رأيته يتراجع ، ابتعدتُ أنا بثلاث خطوات دفعة واحدة، فأصبحت المسافة بيننا كبيرة جدًّا.
نعم، هذا هو الشيء الصحيح.
أنا و أنـتَ يجب أن نكون هكذا.
على الأقل في النهار يجب أن نكون هكذا.
“حتى لو فعلَ أحدهم شيئًا كهذا بمعصمي، فليس هناك أي سبب يجعل جلالتكَ تشعر بالضيق.”
انتشرت كلماتي الباردة القاسية بيننا.
غرقت عيناه الزرقاوان أكثر ، كأنهما تريدان أن تعترضا، لكن دون جدوى.
“و علاوةً على ذلك، من المستحيل أن يحدث مثل هذا الأمر المزعج، أليس كذلك؟ مَـنْ سيجرؤ ؟ و بدون إذني.”
“… صحيح. لقد تجاوزتُ الخط. أعتذر، يا دوقة.”
“سأقبل اعتذاركَ.”
أعطيته ظهري فجأة، و أنا أرفع عباءتي بعنف.
عضضتُ شفتيّ بقوة وأنا أشعر أن قلبي سينفجر من الخفقان.
ما كان أكثر إزعاجًا كان شيئًا آخر.
عندما استجوبني كايسيس بتلكَ الطريقة غير المعقولة، أول فكرة خطرت في بالي.
لم تكن الخوف من كشف هويتي، ولا التساؤل عن سبب قوله مثل هذا الكلام بيننا.
بل كان وخز الضمير و كأنني خنـتُ الرجل الواقف أمامي، تمامًا كما يشعر المستيقظ و المرشد المرتبطان بتعلّق متبادل، و كأنني أفهم شعور الخيانة عندما يرشد الشخص المختم شخصًا آخر غير شريكه.
‘هل جننـت؟!’
نعم ، كان شعورًا بالذنب لأنني قمت بخيانته.
آسفة، لم يكن هذا قصدي، لن يتكرّر هذا أبدًا.
كادت تلكَ الكلمات تخرج من فمي.
تلكَ الكلمات!
بسبب ذلكَ الشعور أدركتُ.
أنا…
‘يبدو أنني أتوهّم حقًّا بأنني رفيقة الإمبراطور الحقيقيّة!’
أغلقتُ الباب خلفي بقوة و خرجتُ، متجاهلة الفرسان الذين حاولوا مخاطبتي بفزع، و سِرتُ بسرعة.
كان وجهي يحترق.
مشيتُ بجنون وأنا أشـدّ على قدميّ.
إذا ذهبتُ إلى السحرة الذين ينتظرونني، سأهدأ قليلاً.
‘لقد فقدت صوابي حقًّا.’
إنه مجرّد نصف ختم تـمَّ بمحض إرادته، بل بسببِ النظام. هذا كل شيء!
قبضت على يدي.
كما يتعلّق المستيقظ بمرشده، يشعر المرشد أيضًا بالحنان تجاه مستيقظه.
أنا لم أكـن مختلفة!
كأن قدمي وقعت في فـخّ غير مرئي.
* * *
‘سيّدتي. حان وقت تحرّك المستيقظين.’
ماذا؟ عندما سمعتُ همس أحدهم، نظرتُ أمامي.
ما هذا؟ ما أراه هو القصر الإمبراطوري.
بالتأكيد في النهار قدّمتُ تقريري للإمبراطور، ثم عـدتُ إلى برج السحر، وبّختُ السحرة، استمعتُ إلى نتائج البحث، و أخيرًا تأكدتُ من عدد مرات استخدام السحر.
ثم…
‘هل نمـتُ فورًا؟’
نظرتُ حولي بتعبيرٍ مرتبك.
إذن هـذا حلم؟
‘يشبه ذلكَ الوقت.’
يشبه الحلم الذي شعرتُ فيه بوضوح بمشاعر هيلاريا الحقيقية عندما حصلتُ على مذكراتها في قصر عائلة آرييل.
في اللّحظة التي وصلت فيها أفكاري إلى هناك، بـدأ جسدي يتحرّك من تلقاء نفسه.
انعكس وجهي في زجاج نافذة الممرّ الذي نمـرّ به.
شعرٌ أقصر من الآن، وجه بارد، ثياب السحرة.
‘هيلاريا في أيامها العادية.’
الدّوقة آرييل الباردة كالجليد تمامًا.
نظرتُ بفضول إلى السحرة الذين يتبعونني كالعادة.
لكن مظهرهم كان مختلفًا بدقة.
كانوا يشبهون أيامي الأولى حين كانوا يقفزون عندما تلتقي أعيننا.
الآن هـم…
‘يثرثرون حتى يجعلونني أصاب بالصداع.’
أصبح السحرة الهادئون بهذا الشّكل غرباء عني، إذن يبدو أنني قد اعتدتُ حقًّا على هذا العالم.
في تلكَ اللّحظة بالذات توقّفت خطوات الدّوقة آرييل و السّحرة.
وفي نهاية الممر.
رأيت الأشخاص الذين كانوا قادمين من الاتجاه المعاكس.
بالأحرى رائحة دم الوحوش النفّاذة التي تخترق الأنف، فرسانٌ لا تزال رائحة المعركة و القتل عالقة بهم.
في المقدمة كان الإمبراطور.
كايسيس.
‘دوقة.’
‘جلالة الإمبراطور.’
ابتسم كايسيس الواقف أمامي ابتسامة ساخرة باردة، و حدّق ببرود.
لسببٍ ما، شعرتُ بألـم حاد في صدري أمام ذلك التعبير الذي أصبح الآن غريبًا تمامًا.
لكن كأن مشاعري انقسمت إلى قسمين: أنا التي اعتادت تمامًا على هذا الإمبراطور، و أنا التي تشعر بالأسى لذلك، كأننا نعيش معًا.
فتحت هيلاريا فمهـا.
‘يجب أن نضـع حمّامات مؤقتة مخصّصة لفرقة الفرسان في جميع الممرات.’
‘لماذا؟ هل رائحة الدم تزعج أنفـكِ؟’
‘لأن رائحة دم الوحوش لا يمكن مقارنتها بدم البشر.’
‘آه، يا للأسف. أنا آسف جدا لأنني أزعجتُ حاسة الشم الراقية للدّوقة النبيلة.’
‘إذا كنتَ تعرف جيدًا، فالأفضل أن نتحلّى بالاحترام المتبادل.’
‘احترام؟ التوقّف عن إظهار تصرّف الكلاب هذا باستقبالنا بعد المعركة هو أكبر احترام.’
‘يا للعجب، جلالتكَ. تصرّف الكلاب… هل تعامل كرم السحرة بهذا الشكل؟’
‘ها! لقد مات الكرم كله.’
كانت كلمات كايسيس كسيوف مشحوذة، و كلماتي التي تردّها بهدوء بنبرة باردة كانت كالإبر.
تلكَ النظرات التي تقول: أنتِ و أنا لسنا شيئًا لبعضنا.
بل إن مجرّد الحديث في هذه اللحظة يثير اشمئزازًا شديدًا.
ربما إذا ظهرت رفيقة الإمبراطور الحقيقيّة و عاد كل شيء إلى مساره الأصلي، فقد يصبح هذا مستقبلي مع كايسيس.
‘لا يعجبني ذلك.’
لسببٍ ما لم يعجبني الأمر.
شعرتُ بالأسى.
كانت تلكَ أول فكرة خطرت لي.
لم يسمح لي الحلم بأن أحتفظ بأي تكلّف أو مظهر.
اجتاحتني مشاعري الصادقة كعاصفة.
لا يعجبني، لا يعجبني!
رفعتُ رأسي بمشاعر صريحة كطفل يدلّل.
لا أريد أن تكون علاقتي بذلك الشخص هكذا.
هذا ليس كايسيس الذي أعرفه.
ذلكَ الرجل لا ينظر إليّ هكذا.
إذا كان حلمًا كهذا، فلا حاجة لي بـه!
هل أنـتِ متأكّدة؟
نعم!
ما هو واقعـكِ إذن؟
أنا…
ما الواقع الذي تريدينـه؟
أنا!
“هاك.”
فتحتُ عينيّ فجأة.
رمشتُ عدّة مرات ثم أدركتُ أنني كنتُ أحلم.
في لحظة، بدأت الحرارة ترتفع ببطء من أسفل عنقي.
ما هذا، ما هذا بحقّ الجحيم؟
“كابوس!”
صرختُ بصمت ثم لوّحتُ بكل قوة بالوسادة التي وقعت تحت يدي.
مجنونة، ما الذي لا يعجبني؟
أنا أكره كايسيس البارد معي؟
لقد جننتُ حقًّا.
لماذا أصبحتُ أتصرف بهذه الطّريقة مؤخرًا!
“كياآآ! مزعجة مياو!”
ضربتُ بطرف الوسادة التي لوّحتُ بها مؤخرة القطة، فصرخت كالنمـر بعنف.
تقلصتُ فورًا كالأخطبوط المذعور، و غطيتُ وجهي بيديّ.
“ما خطبكِ ، مياو؟”
اتركيني، أرجوكِ.
” هل هو كابوس مياو؟”
نعم، ربّما.
“استيقظي مياو، أمامنا جبل من العمل مياو!”
لا تتكلمي كوالدتي، أيتها القطة البدينة الملعونة.
“حسنًا، سأنهض.”
تنهَّدتُ بعمق و رفعتُ جسدي.
نعم، على أي حال أنا دوقة آرييل ذات المهام الكثيرة.
الحلم مجرّد حلم.
لا يمكن أن تكون تلكَ هي مشاعر قلبي الحقيقيّة.
نفضتُ بقايا ذلك الحلم، و ذلك الشعور بتمزّق الصدر عندما رأيتُ تلك العينين الباردتين، كما يُنفض الغبار.
التعليقات لهذا الفصل " 92"