كانت كايسيس الذي ينظر إليّ و أنا أتقدّم في المقدّمة متّبعةً الخريطة، لا يطرح أيّ سؤال.
كان كلّ ما يفعله هو أنّه، حين أتوقّف فجأةً و أنظر إلى شيءٍ ما، يُصغي بانتباه من دون أن يترك يدي التي يمسكها بإحكام.
“هل يجب أن نُزيل ذلك؟”
“نعم، على ما يبدو أنّه رمز يجعل العدوّ الذي نواجهه أقوى.”
كان ذلك تمثالًا غريبًا يُشبه خفّاشًا عملاقًا.
ما إن أنهيتُ كلامي حتّى دمّر كايسيس التمثال مستخدمًا الحدّ الأدنى من قوّته.
و مع كلّ مرّةٍ يتحطّم فيها و يتحوّل إلى غبار، كان يظهر في المهمّة إشعار صاخب مع إشارة إلى منح نقاطٍ إضافيّة، و كأنّ النظام يحاول تحويل هذا الوضع المقلق إلى مشهدٍ هزليّ.
كنتُ أتحقّق باستمرار من مؤشّرات كايسيس.
حتّى مع ضخّ طاقة الإرشاد عبر اليدين المتشابكتين، لم تكن المؤشّرات تنخفض كثيرًا، بل تكتفي بتقلّباتٍ طفيفة، ما جعلني أشعر بقلقٍ شديد.
‘هل يستطيع التحمّل؟’
ثبـتُّ نظري عليه بهدوء، على ذلك الرجل الذي، رغم شحوب وجهه، ما زال يحافظ على تعبيره الواثق المعتاد.
كانت عيناه الزرقاوان، في كلّ مرّةٍ تلتقيان بعينيّ، ترسمان انحناءة جميلة توحي بسرورٍ لطيف.
كتلكَ الليالي المعتادة.
أو كبطل القصص الذي لا يعرف السقوط.
“ما الأمر؟ هل تؤلمكِ ساقاكِ؟”
“……لا يمكن. جسدي متين بما يكفي لئلّا يُرهقه هذا القدر.”
“حسنًا، هذا شيء أعرفه جيّدًا. إذًا، هيلاريا، إن سقطتُ، فاحمِليني على ظهركِ.”
تبادلنا حديثًا خفيفًا لنخفّف حدّة التوتّر، بينما كنتُ أعضّ على أسناني.
نعم، بالتأكيد سيصمد.
كنتُ أعرف هذا الرجل جيّدًا.
صحيح أنّني أعلم أنّ مؤشّرات المستيقظ لا تُحلّ بالإرادة وحدها، لكنّ كايسيس، دون شكّ، سيصمد.
و هكذا، لعدّة مرّات.
بعد تحطيم ما يُرجَّح أنّه رموزٌ مقدّسة، مرّةً تلو الأخرى، وصلنا إلى حيّزٍ يتموّج بضبابٍ أسود.
“هل هو هناك؟”
“نعم، إنه في الداخل.”
سيكون هانويل هناك.
لم نتردّد لا أنا و لا هو.
تلاقَت أنظارنا مرّةً واحدة، ثمّ تقدّمنا في آنٍ واحد، و أقدامنا ممتدّة و نحن نمسك أيدينا معًا.
في اللحظة التي لفّنا فيها الضباب الأسود، تغيّر مجال الرؤية في غمضة عين.
و مع شعورٍ يشبه السقوط المفاجئ من جرفٍ شاهق، فتحتُ عينيّ لأجد أمامي فضاءً مختلفًا.
فضاءٌ لا يُميَّز فيه الأعلى من الأسفل، و كأنّ السماء و الأرض قد امتزجتا، بلا نهايةٍ تُرى، تتخلّله نقوشٌ كأنّ دمًا لزجًا يسيل فيها.
و فوقها، كان هناك ظلّ إنسانٍ واحد.
“تأخّرتما كثيرًا.”
كان الذي يبتسم ببطءٍ و هو ينظر إلينا رجلًا ذا شعرٍ أزرق سماويّ و عينين فضيّتين لامعتين، كنتُ أراه في الماضي جميلًا إلى حدٍّ لا بأس به.
وحتّى في هذا الموقف، كان يرتدي زيّ الكهنة المضيء بالأبيض، كأنّه يسخر منّا.
“هانويل.”
بدت الجراح التي أُصيب بها جرّاء هجوم كايسيس ما تزال كما هي.
رغمَ وجهه الشاحب الخالي من الدم، كجثّة، بدا هانويل واثقًا ومرتاحًا على نحوٍ مثير للاستياء.
‘هل تلك الدائرة السحريّة هي المشكلة؟’
كان هدف المهمّة الرئيسيّ في النهاية هو التخلّص من هانويل و منع تجلّي الحاكم.
‘ربّما يجب تدمير ذلك.’
ما إن لاحظ هانويل أين استقرّ بصري، حتّى رفع زاوية شفتيه بابتسامةٍ خفيفة و هـزّ رأسه.
“كما هو الحال دائمًا، فطنتكِ حادّة يا هيلاريا. صحيح، هذا الذي أقف عليه الآن. إن أزلتموه، فسيكون النصر لكم إلى الأبد. إنّه الممرّ المقدس المتّصل بعقلي. و إذا سقطتُ، فسيُدمَّر هذا أيضًا.”
لم أفهم لماذا يخبرنا بذلك بكلّ طواعيّة، فعبستُ، لكنّه هو مَنٔ نقر لسانه بانزعاجٍ و هو ينظر إلينا.
بل على وجه الدقّة، كان ينظر إلى يد كايسيس و يدي، اللتين ما زلنا نمسكهما بإحكام.
“كان من الأفضل لو جاءت الدّوقة وحدها.”
و بالطبع، لم يبقَ كايسيس صامتًا.
“وهل تظنّ أنّنا سنفعل ما ترغب به؟ ما الأمر، هل تشعر بالغيرة؟”
“…..”
“للأسف، لن تختاركَ الدّوقة أبدًا، حتّى لو مـتّ. مؤسفٌ حقًّا.”
بل إنّه رفع اليد التي يمسك بها يدي حتّى و لوّح بها بخفّة، مستفزًّا خصمه.
و المضحك أنّ ذلك كان فعّالًا إلى حدٍّ كبير.
“هاه، حقًّا. يا جلالة الإمبراطور، أنا أكرهكَ. ما الفرق بيني و بينكَ؟!”
و كأنّه يحاول كبح غضبٍ مفاجئ، اندفع الدم بغزارة من جراح هانويل مع اهتزازٍ عنيفٍ في طاقته.
و في تلك اللحظة.
سرت قشعريرةٌ في عمودي الفقريّ.
و تغيّر الهواء.
“نعم، لا أستطيع تحمّل شعوري بالغيرة.”
و مع صوته القاتم، بدأ تحوّل غير محمود يطرأ على هانويل الواقف فوق النقش.
“إلى حدٍّ يجعلني أرغب في تجربة كلّ ما أستطيع فعله.”
كما لو أنّ إسفنجةً تمتصّ الماء، كانت الطاقة القاتمة و المرعبة التي تملأ هذا الفضاء تتجمّع كلّها في ذلك الرجل.
“أودّ أن أرى إن كان الإمبراطور العظيم قادرًا حقًّا على إيقافي. إن قتلتُـكَ، و بقيت هيلاريا وحدها، فأيّ خيارٍ ستتّخذه؟”
تحوّلت عيناه الفضّيّتان المتلألئتان إلى حمراوين قانيتين في لحظة.
و في الوقت ذاته، كان الضغط الغريب الذي سحقنا بلا رحمة ينبعث من هانويل بقوّةٍ طاغية.
“ألا ترغب في معرفة ذلك؟”
ومع ذلك، و رغمَ إطلاقه لتلك القوّة الهائلة، لم يبادر هانويل إلى مهاجمتنا مباشرةً.
[يتمّ تفعيل تأثير الختم.]
و بالتزامن مع وميض النظام، مدّ هانويل يده ناحيتي.
كان ينظر إليّ بإصرارٍ، كمَنْ لم يستطع التخلّي عن تعلّقه.
“ما رأيكِ يا هيلاريا؟ هذه هي قوّة الحاكم العظيم بعد أن امتصصتها حتّى حدودها. أما زلتِ تعتقدين أنّني لا أستطيع إيذاء إمبراطوركِ؟”
“يبدو أنّ لديكَ وقتًا للتباهي بقوّتكَ.”
سخرتُ، بينما كان العرق البارد يتصبّب في داخلي.
صحيح أنّ كايسيس في حالته الكاملة المعتادة كان سيكفي، لكنّ وضعه الآن كان يضعنا في موقفٍ غير مواتٍ.
حتّى مع دعمي السحريّ، هل يمكننا التخلّص من هانويل خلال الوقت المتبقّي؟
و ما هو تأثير الختم هذا؟
“لا ترفضي ببرودٍ كما في المرّة الماضية، و فكّري جيّدًا يا هيلاريا.”
“ما الذي تقصده؟”
“أمسكي بيدي.”
“.….”
عندها، اشتدت قبضة يد كايسيس على يدي التي كان يمسك بها.
كان المعنى واضحًا، ألّا أستمع إلى هذا الهراء، لكنّه هو أيضًا لم يكن قادرًا على شنّ هجومٍ مباشر في تلك اللحظة.
“أنا أمنحكِ فرصة. اتركي تلك اليد، و تعالي إليّ. و كوني مرشدتي.”
“لماذا؟”
“لأنّكِ تعجبينني. أريدكِ أن تعيشي إلى جانبي.”
الوسم.
نعم، ذلك التعلّق المرضيّ.
هذا الرجل…..لم يكن يريد قتلي.
“حتّى الآن، أستطيع عبر البوابات العديدة المنتشرة في الخارج أن أقتل جميع البشر الذين كنتِ تقدّرينهم. لكنّني لا أفعل. كلّ ذلك بسببكِ. لأنّني لا أريد أن أفعل ما تكرهينه.”
[تحذير!
الوعاء الذي يحتوي حاكمًا مزيفا يحاول استمالتكِ.
الوعاء المتّصل بقوّة العالم الآخر يملك صوت الإغواء.
احذري، الارتباك….روحكِ القادمة من عالمٍ آخر….يُراد تقديمها قربانًا… ليتمّ التجلّي هنا… لا تنخدعي.]
تشوّه النظام فجأةً، و كأنّه يتعرّض لتشويشٍ شديد.
“هيلاريا، لا أريد أن أكون مكروهًا من قبلكِ. لذا فكّري جيّدًا. أم أنكِ ممّن يثقون بقطعة الحاكم تلكَ؟”
“ماذا؟”
“قطعة الحاكم التي إلى جانبكِ. لا تظنّي أنّني لم أكن أعلم بوجودها. إنّما تظاهرتُ بعدم المعرفة لأجلكِ. لكن.”
كان ينظر إليّ بنظرةٍ شفّافةٍ متوسّلة، و كأنّه غير مؤذٍ على الإطلاق، و ذلك ما أثار اشمئزازي أكثر.
“ماذا كانت تقول؟ إنّها ستضمن لكِ السعادة بعد انتهاء كلّ شيء؟ هاها، لا تكوني ممّن يصدّقون ما وعدت به قطّتكِ، أليس كذلك؟”
كان كلامًا لا يُطاق.
هل تجرّأ على التعرّض للوسي؟
“لا تصدّقي. لو كانت تلك القوّة حقيقيّة، لكانت قد تخلّصت منّي منذ زمن و أعادت الاستقرار إلى العالم. لكنّها لم تفعل، أليس كذلك؟”
“……”
“أنا وحدي مَنٔ يستطيع أن يمنحكِ الراحة. إن وثقتِ بي، سأفعل كلّ شيء. أستطيع حتّى أن أُبقي البشر الذين تريدينهم على قيد الحياة. أهذا ما تريدينه؟”
“هاه، حقًّا.”
لوَيتُ شفتيّ.
كان ذلك الحدّ الأقصى لما أستطيع تحمّله.
دووّي انفجار، و انطلق من يدي رمح من النار و انغرس إلى جوار هانويل.
بل كان هجومًا موجّهًا إلى رأسه، إلّا أنّه تفاداه.
“هذا يكفي.”
نظرة عينيه، و هو يرمقني بعينين ضيقتين قليلًا، حملت شيئًا من الخيانة، و ذلك أيضًا كان مثيرًا للسخرية.
“أشعر و كأنّ أذنيّ تتعفّنان، لا أستطيع الاستماع أكثر.”
و بينما أحدّد عدد المرّات المتبقّية لاستخدام السحر، نشرتُ في الهواء موجةً من نارٍ متّقدة، كأنّها على وشك إحراق الأرض كلّها.
“لقد أطلقتُ سراح تلميذكِ سالمًا من أجلكِ. و تغاضيتُ حتّى عن قطعة الحاكم اللعينة. ثمّ تأتين و تُهينين صدقي هكذا؟”
من شدّة ذهولي، توقّفتُ لحظةً عن الهجوم و أنا أتمتم بتذمّر.
التعليقات لهذا الفصل " 172"