“يا إلهي، يا صاحب السّمو!”
“لوياس، ما الذي حدث؟!”
اندفع الفرسان المستيقظون و السحرة الذين بقوا في قاعة الولائم في حالة تأهّب دفعةً واحدة.
تمتم سيروين بحزن، إذ اضطرّ إلى تلقّي لوياس بجسده.
“نعم، هذا يعني أنّه لا أحد يهتمّ لأمري. آه، يا عزيزتي. متى ستأتين؟”
كان سيروين يتذمّر، فساعدته أناييل، التي كانت تقيم معه كضيفة في برج السحر و قد توطّدت علاقتهما كثيرًا، على النهوض.
و سرعان ما تركزت أنظار الجميع على الأمير الصغير، الذي التصق به بعض السواد، لكنه ظلّ ذا ملامح لطيفة و جذّابة.
“يا صاحب السمو. كيف حال جلالته؟”
“لوياس، لماذا خرجتَ وحدك؟ أين السيدة؟”
نقر سيروين لسانه.
“أعلم أنّكم مستعجلون، لكن انظروا إلى سموّ الأمير الآن. إن ضغطتم عليه بهذه الطّريقة فجأةً….”
“إنهما بخير!”
هاه؟
ساد الصمت أرجاء المكان لبرهة.
صوت طفلٍ صافٍ كصوت عصفور رنّ للتوّ، فمَن يكون صاحبه؟
نسي الكبار المذهولون خطورة الموقف، و حدّقوا بعيونٍ متسعة، بينما مسح لوياس دموعه المنهمرة و هتف بشجاعة.
“معلّمتي و أخي جلالة الإمبراطور بخير . سوف يتخلصان من تلكَ البوّابة و يخرجان حتمًا! لقد جعلاني أهرب أولًا بشيء يُسمّى حجر العودة….”
كان من الواضح أنّ المتحدّث هو الأمير لوياس.
شهق الجميع، ثم أشرقت وجوههم فرحًا.
الأمير تكلّم!
يا لها من نعمة عظيمة، حتى في قلب هذا اليأس.
لكن الأمر الأكثر إدهاشًا وقع بعد ذلك.
انشقّ الفراغ الذي سقط منه لوياس مرّةً أخرى بشقٍّ حادّ، و هذه المرّة سقطت كتلة سوداء ثقيلة فوق رأس سيروين.
“آه!”
و بينما كان سيروين يئنّ، و قد شعر بألمٍ كأنّ عموده الفقري سيتحطّم، انزلقت الكتلة السوداء على كتفه و هبطت على الأرض بثبات.
وقف الجميع بوجوهٍ مشوَّشة، كأنّ أرواحهم قد غادرت أجسادهم.
لوياس خرج سالمًا وحده من البوّابة، و الأمير بات قادرًا على الكلام.
كلّ تلك التغيّرات كانت مفرِحة و مذهلة، لكن الآن…
“قطة؟”
لماذا قد تخرج قطّة من البوّابة؟
“لكن تلك القطّة، إنّها قطّة سموّ الدّوقة…..”
و بينما تمتم أحد السحرة بعدم تصديق، تثاءبت القطّة السوداء تثاؤبًا كبيرًا و حدّقت بالناس.
ثم اكتشفت لوياس، فابتسمت كما لو أنها شعرت بالارتياح، ابتسامةً بشرية صريحة!
“لقد وصلتَ بسلام، مياو؟”
“نعم، لوسي!”
“لا تقلق، مياو. الشخصان المتبقّيان سينهيان الأمر و يخرجان قريبًا، مياو.”
قفز السحرة في أماكنهم، أمّا فرسان المستيقظون المذعورون فاتّخذوا وضعية الحذر، مستعدّين لاستخدام قدراتهم في أيّ لحظة.
القطّة تكلّمت.
لقد تكلّمت فعلًا!
“مـ، ما الذي يحدث؟”
“الدوقة حتّى قطّتها مميّزة و تتكلّم….”
“ليس هذا بيت القصيد، أيّها الأحمق!”
و بينما كان الآخرون يتشاجرون، بقي سيروين هادئًا.
فهو يعرف سرّ القطّة المتكلّمة، ألم يكن قد تجول معها حول البوّابات لجمع المعلومات؟
‘خروج السيّدة القطّة يعني أنّ الوضع ليس خطيرًا إلى هذا الحدّ؟’
و حين توصل إلى هذه الفكرة، شعر المؤمن الصادق أنّ خفقان قلبه المرتجف من القلق قد هدأ.
ستخرج الدّوقة حيّة.
هو وحده كان يعلم أنّ الحاكم يحمي الدّوقة آرييل و يرعاها.
‘لذلك، يا عزيزتي.’
يكفي أن تخرجي بسلام.
‘و أخرجي معكِ ذلكَ الإمبراطور المخيف أيضًا، بسرعة.’
السحرة و الفرسان المستيقظون، الذين لم يكن يثـق بتعاونهم لكثرة شجاراتهم، أظهروا قتالًا متعاونا مذهلًا في الخارج
‘إنهم يؤدّون عملًا رائعًا على نحوٍ مدهش هنا.’
إذ كانوا يصدّون وحوش البوّابات المتفجّرة من كلّ الجهات.
لذا، إن استطاعت هيلاريا إيقاف هانويل، ذلك الإنسان اللعين، و الخروج بالإمبراطور سالمًا، فسيشعر سيروين أنّه قادر على عيش بقية حياته شاكرًا.
“لم يبقَ سوى خروج أعمدة الإمبراطورية سالمَين.”
و في اللحظة التي انبعث فيها صوت سيروين الخافت، اهتزّت البوّابة القرمزية الداكنة بعنفٍ مرّةً واحدة، بنذير شؤم.
كأنّ أمرًا غير طبيعيّ يجري في داخلها.
* * *
في البداية، كانت قبلةً للرجل فاقد الوعي.
و مع صوت الإنذار الصاخب، و رؤيتي له بلا استجابة، شعرت كأنّ قلبي يهوي سقوطًا.
تشبّثت بطرف ثيابه و أطبقت شفتيّ عليه بعمقٍ أكبر.
بينما أضخّ طاقة الإرشاد حتى أقصى حدّ، شعرت بوضوح بطعم الدم المعدنيّ الذي غزا فمي.
كايسيس، كايسيس، أرجوك.
سبب احتياج المستيقظ إلى الإرشاد الدوريّ لا يقتصر على استقرار المؤشّرات و تخفيف الألم و منع الهيجان فحسب.
‘بل لأنّه إن تأخّرنا كثيرًا.’
إذا تجاوز الحدّ، فلن تنقذه أيّ طاقة إرشاد.
كان قلبي يخفق كأنّه سينفجر.
قدّرت الوضع و أنا أحدّق في مؤشّرات النظام التي تحوّلت إلى اللون الأحمر.
‘ليس إلى تلك الدرجة بعد.’
كايسيس، الملقى و الفاقد لوعيه بين يديّ، كان غريبًا عليّ بشكلٍ قاسٍ.
لذا انهض، أرجوك.
أوقفت القُبلة و رفعت رأسي.
أعدتُ تنظيم أنفاسي المرتجفة، جمعت طاقة الإرشاد، و أعدت شفتيّ إلى شفتيه.
مرّرت الطاقة، ثم شبكت أنفاسنا من جديد.
و عند لحظةٍ ما.
“.…!”
تحرّك كايسيس أخيرًا.
كانت رعشةً صغيرة، لكنّها كانت مؤكّدة.
دفعت شفتيّ إليه على عجل و واصلت الإرشاد.
و عندما بدأ يستجيب، و هو يمزج أنفاسه بأنفاسي بشكلٍ طبيعيّ، كدت أبكي من شدّة الارتياح.
يد كايسيس، التي كانت مترهّلة و مبلّلة بالدم، أمسكت خصري.
لم يكن هناك متّسع للكلام.
القُبلة التي بدأتُ أنا بالتشبّث بها، انقلبت الأدوار فيها في غمضة عين.
كان تلامسًا يشبه الافتراس.
كلّ نَفَـس، كلّ حركة، كانت تُسحَب إليه.
تبادلت أنفاسنا الساخنة في مسافةٍ قريبة خانقة، و أنا أيضًا شبكت شفتيّ به، كأنّي أفرغ كلّ ما أملك.
انتقلت الطاقة، بل بالأحرى جرى امتصاصها بعنف.
“هاه، هاه.”
كانت شفتيّ تؤلمانني.
حين ابتعدت، رأيت رجلًا بوجهٍ نظيف، إذ إنّ تعافي المستيقظ سريع، لكنّه كان أشدّ شحوبًا من المعتاد، مع بقع دم يابسة متناثرة عليه، و شعر غير مرتّب .
كما أنّ جراحه لم تلتئم كلّيًا بعد.
و بشكلٍ مُحرِج، كانت شفتيه وحدهما تلمعان.
مـرّ صمتٌ طويل.
يده التي كانت تقبض على معصمي شدّت على الجلد الرقيق من الداخل بثبات.
ماذا عليّ أن أقول؟
لقد أدرك للتوّ أنّ الدّوقة آرييل هي المرشدة التي بحث عنها بجنون.
أيّ كلمات يمكن أن تُقال لشخصٍ تلقّى صدمةً كهذه؟
و ماذا لو…. رفضني؟
كان قلبي ينبض بعنف.
توترٌ لم أشعر به أثناء تقبيله سابقًا صعد عبر خصري.
و في لحظةٍ ما، فتح كايسيس فمه.
“……هيلاريا.”
بصوتٍ معتاد.
“لقد أنقذتِني مرّةً أخرى.”
بلطفٍ لا يُحتمل.
امتلأت عيناي بالدموع لرؤية تلك الهيئة البريئة، التي لم يمسها أحد – لا الدّوقة آرييل القوية و لا أنا، المنشغلتان بالمهمة.
انهرت في مكاني.
أخفضتُ رأسي و ارتخت القوّة التي كانت تسند ظهري المتيبّس.
‘ما خطبكَ؟’
منذُ متى بدأ هذا يا ترى؟
رفعت رأسي من جديد.
حدّقت في عينيه الزرقاوين الهادئتين، تلك العينان اللتان، منذ زمنٍ ما، أصبحتا تجعلانني أشعر بالإطمئنات و تجعلان قلبي يخفق بشدة كلّما نظرت إليهما.
وسط أنفاسٍ بطيئة، لم أستطع إلّا أن أسأل.
“كايسيس.”
شعرتُ بيده تضغط برفقٍ ثابت على الجلد الرقيق داخل معصمي.
“جلالتكَ.”
أدركتُ أنّ نبضات قلبي العنيفة كانت تنتقل إلى أطراف أصابعه.
“منذ متى؟”
لعلّ لا وعيه، ذلك اللاوعي الذي قد يكون يعمل لحمايتي و لو بنصف ختم، هو ما كان يبقيني على قيد الحياة.
متظاهرًا بالجهل بكلّ قوّته.
“منذ متى و أنتَ تعلم؟”
لكي تنقذني…
“أنني من أجل إنقاذ حياتكَ، كنتُ أزوركَ كل ليلة و أنتَ تتلوّى ألمًا.”
انحنيت برأسي، و معصمي ما يزال في قبضته.
“وأنني قد دخلتُ في رهانٍ سخيف. سخيف للغاية.”
اقتربت من ذلك الشخص الذي كان، حتى قبل لحظات، أقرب الناس إليّ، و زفرت أنفاسي.
راقبتُ شفتيّ كايسيس و هما ترتسمان بهدوءٍ على شكل انحناءة خفيفة.
“و أنني وقفتُ أمامكَ باسم هيل….”
تلك النظرة الهادئة ، اللطيفة و المفعمة بالشوق.
“و أنّ هيل خاصّتـكَ هي أنا.”
في النهاية، انهمرت الدموع المحتبسة و سقطت قطرةً قطرة على خـدّه.
التعليقات لهذا الفصل " 169"