ذلك المشهد الذي شهدتُه عن قربٍ شديد، سلبني القدرة على التفكير.
بينما أرى الدم الأحمر القاني يبلّل بصري، مددتُ يدي لا إراديًّا.
حتّى في ذلك التدفق القصير من الزمن، كان عقلي يعرف الحقيقة.
‘لم تكتمل الشظيّة بعد.’
لأنّني صرت أفهم بنية النظام على نحوٍ غامض، فإنْ لامستُ جلده العاري و تحقّق الاتصال….
‘إن لامستُه بهذه الهيئة.’
فسيُدرك كايسيس على نحوٍ كامل مَنْ أكون، و سأعي أنا أيضًا أنّه قد عرف.
و حينها ، أنا سـ…..
‘سأموت.’
و من المضحك أنّني أدركتُ ذلك في تلك اللحظة بالذات.
و فيما كنتُ أمدّ يدي دون تردّد لأمسك بمعصم كايسيس.
‘حتّى لو مـتُّ، أريد إنقاذكَ.’
قبل موتي، سأمنحه أقصى ما أستطيع من طاقة الإرشاد، على الأقلّ ليبقى كايسيس حيًّا….
لكنّ ما توقّعتُه لم يحدث.
منذُ البداية، لم تلمس يدي جلد كايسيس أصلًا.
و السّبب هو.
“تسك تسك، غفوتُ لحظة واحدة فقط، كنتُ أعلم أنّ هذا سيحدث، مياو!”
مع ظهور القطّة بوجهٍ مهيب، توقّف كلّ شيء.
“لو…سي؟”
“أجل، إنّها أنا، مياو!”
في تلك اللحظة الغامرة التي توقّف فيها الزمان و المكان، دارت القطّة السوداء دورةً في الهواء ثمّ هبطت أمامي.
الابتسامة الماكرة على وجهها، كما هي دائمًا، جعلتني أتنفّس الصعداء دون وعي.
لكنّ ذلك لم يدم طويلًا، إذ خفضتُ بصري بعجلة نحو كايسيس الملقى أرضًا و المغمور بالدماء.
“ه- هذا الشخص، هذا الشخص في خطرٍ شديد. لوسي، ماذا أفعل؟ أريد إنقاذه. أريد إنقاذه، لكن….”
“قبل التخلّص من هانويل، لا يمكنكِ كشف هويّتكِ لذلك الرجل، مياو. في اللحظة التي تلمسينه فيها، سيُدرك مَنٔ أنتِ، و إن أدركتِ أنتِ أنّه عرف، فسينتهي كلّ شيء، مياو.”
“.…أعرف. أعرف ذلك جيّدًا.”
سخنت أطراف عينيّ.
في هذا الفضاء المتجمّد، ظللتُ أحدّق في كايسيس مغمض العينين بلا حراك.
ربّما تكون هذه اللحظة هي الأخيرة.
“لوسي، لم أعد أخاف موتي الآن. ما يُخيفني أكثر هو موته. لا أحتمل رؤيته يختفي أمام عينيّ، لذا فقط….دعيني أنقذه. دعيني أوجّه كايسيس.”
“……”
“أنا أحـبّ هذا الرجل.”
“…..”
“أحبّـه لدرجة أنّني مستعدّة لفعل أيّ شيء لإنقاذه. كان بجانبي حين كنتُ خائفة، و في البداية كنتُ أنا مَنٔ يخشاه، لكنّه لاحقًا دعمَني لأتأقلم مع هذا العالم الغريب. لا أستطيع التخلّي عن كايسيس.”
“……مياو.”
اتجهت عينا القطّة الواضحتان نحوي.
و كأنّها تسألني إن كنتُ جادّة، فهززتُ رأسي بجنون.
نعم، أرجوك.
أيّا كان الثمن، أنا مستعدّة لدفعه، فقط أنقذي هذا الرجل!
“لا خيار إذًا، مياو.”
تنفّست لوسي بعمق.
“حسنًا، مياو.”
“لوسي؟ هل هناك طريقة؟”
هي القادرة على التنقّل بحرّيّة بين البوابات، و تجسيدٌ لقوّة حاكم هذا العالم المسمّى [النظام]، و أيضًا مرشدتي.
“هيلاريا.”
نادتني القطّة، التي نادرًا ما كانت تلفظ اسمي، بصوتٍ منخفض، و فعلت شيئًا ما.
لم أفهم معناه بدقّة، لكنّ قلبي هبط فجأة.
“لوسي….؟”
كانت القطّة السوداء تتغيّر بوضوح.
أصبحت نصف شفّافة، كأنّها على وشك الاختفاء.
و مع مراقبة هيئتها المتلاشية، داهمني خوفٌ مفاجئ.
“ه- هل أنتِ بخير؟”
“و هل هذا وقت القلق عليّ، مياو؟”
“لكن!”
“قلتِ إنّكِ مستعدّة لفعل أيّ شيء لإنقاذ ذلك الإنسان.”
“بما أنّ النهاية تقترب، أستطيع أخيرًا أن أتكلّم بحرّيّة. إدراككِ للقطط سيّئ للغاية. ما هذا الأسلوب أصلًا؟”
لم أستطع قول شيء، فبقي فمي مفتوحًا ببلادة.
قفزت لوسي بثبات نحوي و ضربت جبيني ضربةً خفيفة.
“استفيقي!”
“أ- أنتِ.”
“لا وقت لدينا، هيلاريا. استمعي جيّدًا. من الآن فصاعدًا، سأمنحكِ مهلة.”
في الحقيقة، لم نكن صديقتين حميمتين إلى حدّ الموت.
لكنّ هذه القطّة الجافّة كانت بلا شكّ سندًا عظيمًا لي.
إن كان كايسيس قد دعم روحي القلقة و المتذبذبة في ليالٍ هادئة، فإنّ لوسي كانت مختلفة.
كانت قطّة ذا حضورٍ ثقيل، تتسلّق سريري أحيانًا و تدفّئ جانبي.
و عندما أتعب من تمثيل دور الدّوقة آرييل بوجهها الصارم، كانت تجلس معي لتأكل.
و إذا أرهقتني الأعمال المعقّدة، كانت تقفز فوق مكتب العمل و تضرب جبيني بذيلها و كأنّها تقول: تشجّعي.
فقط، فقط….
“مع ذلك، لا أريد أن أخسركِ.”
عندما نطقتُ بحقيقة قلبي و أنا أبكي، ابتسمت لوسي ابتسامةً خفيفة.
“جشعة أيضًا.”
“أنتِ صديقتي. في حياتي السابقة و هذه الحياة أيضًا، لم يكن لديّ أصدقاء. أنتِ أوّل صديقة لي.”
كانت لوسي صديقًا للوياس أيضًا، لكنّه لم يكن مختلفًا معي.
و في النهاية، لم أستطع سوى الوقوف جامدة بينما كنتُ اترك دموعي تنهمر كالغبيّة.
جلست القطّة أمامي وهي تلوّح بذيلها.
“استمعي جيّدًا، هيلاريا. الآن سأخبركِ لماذا كنتِ بحاجةٍ إلى أنصاف الأختام.”
“الآن؟”
“نعم الآن. فلن يكون لدينا وقتٌ طويل لاحقًا.”
ما إن أنهت كلامها حتّى ظهرت أمامي نافذة النظام.
كان تنظيمًا لقائمة المرتبطين بأختامي.
و من بينهم اسمٌ لم أفهم سبب وجوده، اسم هانويل.
“هؤلاء الأشخاص يدعمون روحـكِ. أنـتِ روحٌ من عالمٍ آخر و غير مستقرة، و كنـتِ بحاجةٍ إلى وقتٍ لتتجذّري تمامًا. و الذين يستطيعون دفع هذا القدر من قانون السببيّة هم بشرٌ ذوو نفوذٍ عظيم في هذا العالم. و خصوصًا، كايسيس و هانويل.”
“لوسي.”
“في يومٍ ما، ستفكّين تلك الأختام. و أنا قد وُجدتُ دائمًا لإنقاذكِ. أنا مَنٔ جلبـكِ، و أنـتِ أيضًا أردتِ الحياة. هيلاريا، أنـتِ مسؤوليّتي. و هذا خياري.”
مرّةً أخرى، أصبح جسد لوسي شفّافًا.
لم يختفِ تمامًا، لكنّه بدا و كأنّه قد يتحطّم في أيّ لحظة.
و في الوقت نفسه، رنّ صوت النظام.
[ظهور مهمّة طارئة!]
“لا أستطيع التدخّل معـكِ مباشرةً، لذا أستعير قوّة [النظام]. هل تعلمين؟ هيلاريا الأصليّة كانت تتوق إلى التحرّر.”
[لا يمكنكِ بعد كشف وضعكِ للجميع.
لكن كايسيس هو محور هذا العالم، و لا يجب أن يموت على هذا النحو.]
“كان ذلك الشوق قويًّا جدًّا لدرجة أنّني انجذبتُ إليه. و تلك الطفلة أيضًا، أرادت أن تتحرّر من دور ‘الدوقة’ المحدّد لها، و تختفي بحرية كروح حرة إلى جانب مَنٔ تحـب.”
[المهمّة الطارئة: وجّهي كايسيس.
لمدّةٍ محدّدة، يمكنكِ إخباره بهويّتكِ.
يمكنكِ التوجيه عبر الاتصال المباشر لاستعادة القيم.
لكن انتبهي.
الوقت قصير، و خلال المهلة يجب عليكِ التوجيه و التخلّص من هانويل في الوقت نفسه.]
“ثمّ جلبتُ روحـكِ التائهة إلى هنا. و في هذه العمليّة، ظهرت متغيّرات غير متوقّعة، لكنّ ما أردتُ إنقاذه هو أنـتِ.”
[هل تودّين المتابعة؟]
“هل ستكونين بخير؟ إن قبلتُ هذا، ماذا سيحدث لكِ؟”
“أنقذي نصفكِ الآخر.”
“لوسي!”
لم تكن قطّتي الصارمة ممّن يشرح كلّ شيء.
اكتفت بالابتسام و كأنها تخبرني بما علي فعله و تركت الزمن يعود للحركة.
ثم شقّت الهواء بمخلبهل، فانفتح ممرٌّ كالفم المشقوق.
“هذا مدخل لا أحد يستطيع عبوره سواي أنا، مياو. أليس عليّ الذهاب لرؤية صديقي الآخر، لوياس؟”
عادت لوسي إلى نبرة حديثها الغريبة و قفزت داخل المدخل.
و في تلك اللحظة، عرفتُ أنا أيضًا.
شعرتُ بزوال الضغط الغريب، و هبّت نسمةٌ لطيفة.
[تمّ التحرّر المؤقّت من القيود.
الوقت المتبقّي: 02:34:12]
شكرًا لكِ، لوسي.
لكنّ الوقت لم يكن كافيًا.
أمسكتُ خدّ كايسيس المغمى عليه بهيئة هيلاريا.
مسحتُ الدم عن شفتيه بطرف أصابعي، و انحنيتُ ببطء.
“كايسيس.”
ثمّ.
“سأنقذكَ.”
و قبّلتـه.
* * *
كان سيروين، الذي يراقب البوّابة منذ فترة، قد ضيّق عينيه لشعوره بشيءٍ غريب.
التعليقات لهذا الفصل " 168"