كانت البوّابة القرمزيّة الداكنة تتلألأ على نحوٍ مشؤوم، و كأنّها ستبتلع أرواح البشر.
كان ديكاردو يراقب الموقف، عاجزًا عن إخفاء عَرَقِه البارد.
‘جلالة الإمبراطور. صاحبة السموّ.’
صحيحٌ أنّه ما زال مضطربًا إزاء الحقيقة التي أدركها قبل دخول الشّخصين إلى البوّابة، لكنّ أمرًا واحدًا كان واضحًا بلا شكّ.
يجب أن يعود الاثنان سالمَين.
“إلى متى سنبقى على هذه الحال؟”
“و ماذا لو ثارتِ البوّابة فجأةً…؟”
تسرّب أنينُ القلق من أفواه النبلاء الذين كانوا يحدّقون في البوّابة بلا حولٍ ولا قوّة داخل الدائرة السحريّة.
كانت وجوه الجميع قاتمة.
قاعةُ الولائم التي كانت يومًا تعجّ بالضحك و الحديث، لم يبقَ فيها الآن سوى صمتٍ كئيب.
و لا سيّما أولئك المنتمين إلى المجموعتين اللتين اضطرّ أفرادهما إلى مشاهدة سيّدَيهما الأثمن و هما يقتحمان البوّابة بأجسادهما من دون أي حماية.
السحرة و المستيقظون، الذين كانوا في الماضي يتصادمون بنظراتٍ مشحونة بالعداء لمجرّد التقاء العيون، كانوا الآن يتبادلون نظرةً مشتركة.
الدّوقة آرييل الذي خاطرت بحياتها، و جلالة الإمبراطور.
إلى أن يعود الاثنان، كان عليهم حماية هذا المكان.
عندها حدث الأمر.
انفتح باب قاعة الولائم بعنف، مصحوبًا بصوت ارتطامٍ صاخب.
“إنها مصيبة!”
كان أحد فرسان المستيقظين الذين خرجوا للاستطلاع في الخارج.
أومأ ديكاردو برأسه ليهدّئ الأجواء، ثم سأل بصوتٍ ثابت.
“ما الأمر؟”
“في الخارج……ظهرت بوّابات كثيرة، و بدأت حالاتُ كثيرة من انفجار البوّابات!”
“ما هي مستوياتها؟”
“متنوّعة، لكن لا توجد أيّ بوّابة من الرتبة B أو أعلى!”
من الواضح أنّ العدوّ كان قادرًا على استخدام البوّابات منذ البداية.
و كان احتمال حدوث مثل هذا الأمر قائمًا بما فيه الكفاية.
المثير للدهشة أنّ المجموعتين اللتين اعتادتا الصدام لم ترتبكا، و لم تعمّهما الفوضى، بل تحرّكتا فورًا.
نظراتٌ سريعة، إيماءاتُ رأس، و إشاراتٌ صامتة يفهمها الطرفان دون كلام.
“اتركوا أقلّ عددٍ ممكن في القصر، و انتقلوا إلى الخارج! أوقفوا موجة الوحوش في العاصمة الإمبراطوريّة قدر الإمكان!”
“الفصيل الحادي عشر المتخصّص بالدوائر السحريّة ليبقى هنا، و البقيّة توجهوا للخارج للاستعداد لموجة الوحوش! ادعموا المستيقظين!”
تدفّقت الأوامر في الوقت نفسه من الفرسان و السحرة.
كان الهدف واحدًا.
و كأنّهم رفاق سلاحٍ قاتلوا معًا لسنوات، تحرّكوا بانسجامٍ مذهل.
اختلطت نظرة ديكاردو، الذي كان في المقدّمة، بنظرة أردييل بوضوح.
كانت البوّابة التي ابتلعت أولئك الشخصين ما تزال تتلألأ بضوئها المشؤوم.
لذلك، كان ما يجب عليهم فعله واضحًا.
الصمود.
“إلى أن يعودا.”
“سنحمي العاصمة.”
و من المفارقات أنّه لم يكن هناك مَنٔ يعرف المجموعة الأخرى جيّدًا بقدر ما يعرفها خصومها الأكثر كراهية لها.
تمامًا مثل قائديهما.
دوّى انفجارٌ عنيف، و اهتزّت الأرض، و تعالت من بعيد أصوات الوحوش الذي ترددت في الأرجاء.
* * *
‘هذا مستحيل.’
كيف عرف؟
لقد حُشِرت تلك القوّة المرعبة في متاهة الوهم قسرًا، فهل كان وحشًا بحقّ كما توقّعت؟
لكنّ ذلك لم يكن يهمّ ليلييتا.
ما كان يهمّها هو نافذة نظامها التي تومض بلونٍ قرمزيّ داكن أمام عينيها.
[فشلتِ في المهمّة الفرعيّة.
لم تتمكّني من تحميل القوّة الكاملة على روح كايسيس.
الدَّور يزول.
يبدأ انهيارُ الجسد و الرّوح.
يا بقايا روحٍ فقدت بُعدَها، أنتَ لم تعُدْ محميًّا─ سـ، تـ…]
‘لقد نجحتُ!’
لقد خدعتُ عينيّ الإمبراطور متقمّصةً هيئة شخصٍ آخر، و تمكّنتُ في لحظة تماسٍّ عابرة من إدخال طاقة التوجيه خاصّتي إلى جسده.
‘لقد نجحتُ، بلا شكّ!’
لكن لماذا؟
لماذا يجب أن أتعرّض لهذا الألم الرهيب؟
راحت ليلييتا تخدش بجنون يد الإمبراطور التي كانت تعتصر عنقها و كأنّها ستكسره.
“أتــ، أتـركـنـي!”
“إن قتلتُـكِ هنا، هل تنكسر هذه المتاهة؟”
قاومت ليلييتا بجنون، و أمسكت باليد الصلبة التي تخنقها، بينما تحاول دفع القوّة المعاكسة.
لم يكن بوسع النظام أن يتخلّى عنها هكذا.
كان لا بدّ من وجود دورٍ عظيم لها، فدائمًا ما يكون هناك دورٌ عظيم لمَنْ يُلقى في عالمٍ كهذا.
‘لا يمكن أن أموت هكذا. كيف عشتُ؟ لماذا كنتُ أصمد!’
أليس من المفترض أن أكون أنا مَنٔ ينجو، لا تلك الحمقاء؟
فلماذا انتهى بي الأمر إلى هذا؟
“آآآه!”
تدحرجت ليلييتا على الأرض.
يبدو أنّ كايسيس شعر بشيءٍ مشؤوم حين لامس طاقة التوجيه، فرماها بلا رحمة.
و من مكانٍ ما، دوى صوتُ تشقّقٍ مريب.
‘بوّاباتُ الهجوم الذهنيّ تبدأ بالانهيار في اللحظة التي يدرك فيها الهدف الذي داخلها حقيقة الواقع.’
مرّت في ذهنها فجأةً معلومةٌ تعلّمتها يومًا حين كانت مرشدة.
رفعت ليلييتا عينيها الدامعتين و حدّقت في الرّجل الوسيم الذي يبدو كتحفة فنية منحوتة أمامها.
مجرّد بطلٍ في عالمٍ مزيف.
مجرّد شخصيّة.
“لماذا… لم تخترني؟”
لماذا يعتبرني مزيفة؟
و لماذا أُعاقَب بهذا الألم لمجرّد أنّه تخلّى عن البطلة الحقيقيّة؟
الخوف الذي كان يملأها كلّما وقفت أمام كايسيس تلاشى في هذه اللحظة.
بدأت نافذة النظام تتشقّق بعنف.
تقيّأت ليلييتا دمًا أسود، و لم تستطع كبح ضحكتها.
لقد قدّمت كلّ شيء و صمدت بجنون، و مع ذلك تخلّى عنها النظام.
هل كان هانويل يتوقّع هذا المصير؟
‘لقد تخلّوا عنّي؟’
توالت أصواتُ التكسّر، كأنّ قشرة بيضةٍ تتحطّم.
لم يتبقَّ الكثير قبل انهيار متاهة الوهم.
“يبدو أنّه يمكنني الخروج دون قتلكِ. ليلييتا رادايك. على ما يبدو، تـمّ التخلّي عنكِ.”
لكنّ كلمات كايسيس الباردة لم تكن صادقة تمامًا، إذ كانت رماحٌ جليديّة حادّة تطوّقها.
و كأنّه يقول أنّ أيّ حركةٍ خاطئة ستكلّفها حياتها.
“إنني أموت… لأنّكَ تخلّيتَ عنّي، و اخترتَ تلك المرأة.”
ابتسمت ليلييتا، بعينيها الذهبيّتين المقلّدتين، ابتسامةً ملتوية و هي تحدّق فيه.
“هل تظنّ أنّكَ انتصرت؟”
“ألا تظنّين ذلك؟”
“ها، هاها! بالطبع لا!”
راحت عروق قرمزيّة داكنة تنتشر على جلدها كأنّها مستيقظةٌ فقدت السيطرة.
“أنا… أنا البطلة.”
شعرت بشكلٍ خافت.
[آخر ما كان يتيح لكِ الصمود أمام قوّة النظام، أو الحاكم الذي يخدمه هانويل، قد تلاشى.]
‘لأنّ الدَّور قد سُلب منّي.’
لأنّ كايسيس و أبطال الرواية اختاروا تلك المرشدة التافهة التي لم يعد اسمها يخطر في البال!
ضحكت ليلييتا و هي تتقيّأ دمًا.
“هل تظنّ أنّ كلّ شيء سيتغيّر حين تخرج من الوهم؟ هذا مضحك! أبدًا! ما يوجد خارج البوّابة، هم الفرسان و الأبرياء الذين يموتون الآن. كلّ البوّابات ستنفجر، و ستُبادون جميعًا!”
كانت تلك العينان الزرقاوان الثابتتان تبعثان في نفسها كراهيةً لا تُحتمل.
ارتجفت أصابعها و هي تشير إليه.
“كايسيس.”
“أنزلي إصبعكِ المقزّز.”
“ما رأيكَ؟ لقد امتصصتَ قوّتي للتوّ!”
هانويل، و هذا الرّجل، و ديكاردو و أردييل، و كلّ مَنٔ لم يخترها، و حتّى تلك المرأة، هيل.
لم تندم ليلييتا على شيء.
لقد كرهت الجميع.
“ستموتون. سأجعل ذلك يحدث.”
[تمّ فقدانُ جميع المؤهّلات─ انهيارُ الرّوح─ الوقت المتبقّي…]
حتّى رسالة النظام كانت تنطفئ تاركةً وميضًا أخيرًا.
“كايسيس، أنتَ قريبًا……”
و قبل أن تصعد العروق القرمزيّة إلى عنقها، ابتسمت ليلييتا بسحرٍ مريض.
و ألقت لعناتها بكلّ ما تبقّى لديها.
“ستفور! و ستقتل الجميع بتلك القوّة الوحشيّة، و ستقتل بيديكَ حتّى تلكَ المرأة التي تحبّها!”
لكنّ صراخها انقطع.
“كلامكِ كثير.”
كلاك—
“و بلا فائدة.”
امتزج صوتُ التكسّر بالدم القرمزيّ الذي انتشر على الأرض.
ثمّ.
—كلاااك!
انهارت متاهةُ الوهم، كما لو أنّ زجاجًا ملوّنًا عملاقًا تحطّم.
“…….”
تمامًا.
عندما فتح كايسيس عينيه من جديد، رأى أمامه الشّخص الذي بحث عنه بشوقٍ يائس.
شعر أحمرُ أشعث، و عينان حمراوان تحدّقان فيه بثبات.
‘هيلاريا.’
كانت هي.
لكن قبل أن يلتقط أنفاسه بارتياح، اخترق ألمٌ قاسٍ كتفه.
كان جسده ثقيلًا على نحوٍ غريب.
“كايسيس!”
رأى هيلاريا، و قد تشوّه وجهها من الصدمة، تركض نحوه.
التعليقات لهذا الفصل " 164"