بينما كان لوياس يبتسم بإشراق و يعانقها، أطلقت القطّة السّوداء تنهيدةً عميقة كأنّ الأمر لا مفرّ منه.
كان ذلك المشهد مطابقًا تمامًا لما اعتاد عليه، لدرجة أنّ لوياس نسي كونه مخطوفًا و أطلق ضحكةً صامتة.
ضغطت الكفّ الأماميّة الطّريّة للقِطّة على جبين الصّبيّ الأملس.
“تسك تسك، ألم تكن خائفًا، مياو؟”
و كأنّها تقول: التّلميذ على خطى معلمته، نقرت القطّة لسانها و ضيّقت عينيها، ثمّ وضعت جسدها الثقيل على كتف الصّبيّ.
انساب ذيلها المتمايل بلطفٍ على خدّ الأمير الصّغير الّذي كان متيبّسًا من التّوتّر.
“لا تقلق، مياو، هيلاريا و الإمبراطور دخلا البوّابة لإنقاذكَ، مياو.”
اتّسعت عينا لوياس حتّى كادتا تخرجان من محجريهما.
و حين رأت لوسي يده الصّغيرة تتّجه نحو القلادة، منعت تلك الحركة بوقار صارم.
“هذا لا يمكن بعد، مياو، هذا المكان بوّابة ذات بنيةٍ مزدوجة، و لن تتمكّن بقلادتكَ السحرية من الانتقال فورًا إلى جوار الإمبراطور، مياو.”
“…..”
خفت بريق عينيّ لوياس.
فهو و إن كان قد عاهد نفسه على الصّمود، إلّا أنّ بقاءه هكذا سيجعله في النّهاية نقطة ضعفٍ واضحة لهما.
‘لا أريد ذلك.’
في عينيّ الأمير الصّغير الذي يعتبر كنز كل من الإمبراطور و الدّوقة ذوي الطّبع النّاريّ، اشتعل عناد صلب.
القِطّة الّتي قرأت ذلك كلّه ابتسمت ابتسامةً ماكرة.
“لكنّكَ لا تريد أن تبقى هنا تنتظر الإنقاذ بلا حراك، أليس كذلك، مياو؟ إذًا، هل يمكنك أن تثق بي و تتبعني، مياو؟”
“……!”
شدّ لوياس قبضته الصّغيرة بقوّة و هزّ رأسه بحزم.
فوضعت القطّة قدمها فوق رأسه و أعلنت بجدّيّة:
“حسنًا، أنا أحدّد الاتّجاه، مياو، هيّا بنا، مياو!”
قبض لوياس على الخاتم الّذي كان يلمع بوضوحٍ في إصبعه.
صحيح أنّه كان ساحرًا ناقصًا لا يستطيع الكلام، لكنّه تلميذ أعظم ساحرة في الإمبراطوريّة.
لذلك كان يعلم جيّدًا مدى القوّة الكامنة في هذا الخاتم.
قوّة لا تُشعره بالخوف إطلاقًا.
جلالة أخي الإمبراطور.
معلتمي.
سآتي أنا أيضًا!
‘سنلتقي حتمًا.’
في اللّحظة الّتي فاض فيها ضوءٌ أحمر من الخاتم، اهتزّت قوّةٌ هائلة.
و في الوقت نفسه الّذي شعر فيه أتباع هانويل المراقبون من الخارج بشيءٍ مريبٍ و تحركوا—
─كواااانغ!
دوّى انفجارٌ هائل هزّ الفضاء.
* * *
استيقظتُ و أنا أعاني من دوارٍ مروّع.
و في هدوء المكان المحيط، أدركتُ فورًا أنّني وحيدة في هذا الفضاء المجهول.
‘سبب فصل كايسيس عنّي عمدًا هو….’
أدركتُ أنّ هذه البوّابة ليست من النّوع الّذي تتدفّق منه الوحوش، بل تشبه ما اختبرته سابقًا، بوّابة من نمط الأوهام أو الهجمات الذّهنيّة.
[صحيح. هذا هو المتاهة الوهميّة.
مكان يتم فيه تكثيف فيه قوّة مزيفة لإغواء الآخرين.]
ضيّقتُ عينيّ.
حالة النّظام لم تكن جيّدة كالمعتاد.
نافذة الحالة كانت ضبابيّة، و الحروف تهتزّ و كأنّها تعاني من خلل ما.
حتى صوتٌ يشبه التّشويش—أزيز—كان يتردّد، كما لو كان هناك تداخلٌ في الإشارة.
في كلّ مرّة أدخل فيها بوّابة، كان النّظام يهتزّ كآلةٍ مكسورة، و يُظهر حالةً من عدم الاستقرار.
[ما يريده العدوّ هو إخضاع روحك و روح الإمبراطور.
كوني حذرة.
يتمّ تفعيل غسيل دماغٍ قويّ!
في اللّحظة الّتي تنخدعين فيها بالمزيّف، سيتضخّم خلل الرّوح.
يجب كسر، الوهم…….]
كان النّظام يبذل قصارى جهده.
كعادته دائمًا.
تمامًا مثل لوسي، القطّة السّوداء الّتي لا شكّ أنّها تبعت لوياس دون تردّد في تلك اللّحظة الخطيرة.
‘كايسيس.’
هل سيكون بخيرٍ في بوّابةٍ من نمط الهجوم الذّهنيّ؟
حدّقتُ بعينين ضيّقتين في الفضاء الأبيض الخالي من كلّ شيء.
كايسيس موجود في مكانٍ ما هنا، و كذلك هانويل، ذلك المجنون، يراقبنا من مكانٍ ما.
[بدأ تأثير المتاهة الوهميّة.
هجومٌ يستخدم ما هو ثمين.
ابحثي عن المزيف…و اكسري… الوهم……. ]
و عندما شددتُ على أسناني، رأيتُ الفضاء الأبيض أمامي يذوب و يتشوّه كما لو كان كريمةً مخفوقة.
و حين فتحتُ عينيّ مجدّدًا وسط الفوضى.
“سيّدتي؟”
كانوا أمامي.
وجوهٌ مألوفة، سحرة البرج السّحريّ الأعزّاء.
كانوا مغطّين بالدّماء، و يموتون بطريقةٍ مروّعة.
هذا مزيّف.
مزيّف.
كنتُ أعلم ذلك، و مع ذلك انقبض قلبي بألم.
اندفعوا نحوي كالسّرب، و تشبّثوا بثيابي، و بيديّ، و بكاحليّ.
“سيّدتي، أرجوكِ أنقذينا!”
“لا نريد أن نموت.”
“المستيقظون الّذين فقدوا السّيطرة يقتلون النّاس بلا رحمة!”
لا، هذا ليس واقعًا.
كنتُ أعلم، و مع ذلك كان الإحساس بالانغماس في الوهم مقرفًا إلى حدّ الغثيان.
“نريد أن نعيش!”
وجوههم المشوّهة بالبؤس و اليأس كانت حيّةً على نحوٍ مرعب، رغم إدراكي أنّها مزيفة.
“سيّدتي….”
عندها، أمسك أحدهم بطرف ثوبي.
شعر مغمور بالدّم، و وجهٌ جميل.
كان أردييل.
همس بحزنٍ عميق:
“إنه مؤلم، يؤلمني كثيرًا، أرجوكِ أنقذينا، سيّدتي، يكفي أن تتخلّي عن كلّ شيء، حينها يمكنكِ إنقاذنا.”
السّاحر الوسيم كان يتقيّأ دمًا وهو يتوسّلني بعينيه.
تلك النّظرة.
‘مزيّفة.’
هذا ليس الواقع.
أردييل الّذي أعرفه لن ينظر إليّ أبدًا بتلك العيون.
‘هذا وهم!’
مرّةً أخرى، تشوّه المشهد أمامي.
“……!”
هذه المرّة كان المكان مظلمًا.
كانخكهفًا رطبًا يتساقط فيه الماء، وكان هناك شخصٌ منهار.
بل راكعٌ على ركبتيه.
في ظهره سهامٌ عدّة و سيوفٌ مغروسة.
سال الدّم من شفتيه بينما ينظر إلي.
وجهٌ صلب، و نظرةٌ كانت دومًا مليئة بالودّ، لكنّها الآن مشبعةٌ بالحقد.
“سيّدتي.”
كان الفارس، ديكاردو.
كان الوهم يستخدم وجوه مَنٔ أكنّ لهم الألفة ليغويني.
“تقبّلي القوّة.”
استخدموا وجوههم ليغرسوا فيّ اليأس.
“يكفي أن تستسلمي، و حينها سيكون الجميع سعداء، لن يُصاب أحدٌ بأذى، و أنا أيضًا لن أموت.”
شدّدتُ على أسناني.
تجاهلتُ تلك الكلمات الّتي كانت تهمس كهمس شيطانيّ.
لكنّ القلق تراكم في داخلي كحبّات رملٍ متراكبة.
خفق قلبي بعنف.
ضغطت قوّةٌ هائلة على كتفيّ، و أكلت وعيي ببطء.
هل هذا حقًّا وهم؟
هل هو مزيّف؟
لماذا جئتُ إلى هنا؟
تبدّل المشهد مرّةً أخرى.
و هذه المرّة…
كان هناك صبيّ صغير. تلميذي الذي يفتح فمه دون صوت.
وجهه الّذي يشبه أخاه تمامًا مدّ إليّ يدًا مضرّجةً بالدّم.
و حين رأيتُ جراحه، شددتُ على أسناني بقوّة.
مرّةً بعد مرّة.
تبدّلت المشاهد لمرات لا تحصى.
و اهتزّ عقلي.
و أصبحت رؤيتي ضبابية.
‘آه.’
لماذا، أنا هنا؟
‘كم من الوقت مرّ؟’
سمعتُ ضحكةً خبيثة في مكانٍ ما، كما لو كان سخريةً شريرة.
ثمّ، في لحظةٍ ما، ظهر أمامي رجلٌ ذو عينين زرقاوين.
مدّ يده نحوي.
مَنٔ يكون؟
“هيلاريا.”
صوتٌ مألوف.
صوتٌ يجعل قلبي يخفق.
“كنـتِ تنتظرينني، أليس كذلك؟”
المستيقظ خاصّتـي.
تسارع نبضي.
نظرتُ إلى كايسيس وهو يقترب و يمدّ يده إليّ.
“لا تقلقي، أمسكي بيدي.”
كان هو ذاته.
عينان زرقاوان كالجواهر، شعرٌ يتلألأ، و ابتسامة مشرقة.
“ثقي بي، هيلاريا.”
و كأنّ رحلة الضياع الطويلة قد انتهت.
رفعتُ يدي بلا وعي، كأنّني مسحورة.
* * *
‘فضاءٌ مقزّز.’
أدرك كايسيس، في اللّحظة التي دخل فيها، أنّ هذه البوّابة الغامضة فصلته عن هيلاريا.
“ليست بوّابةً عاديّة.”
إحساس المسافة و الزّمن كان ملتويًا على نحوٍ غريب.
الفضاء الأبيض الخالص كان بوّابةً من نمط الهجوم الذّهنيّ.
تنفّس الصّعداء دون وعي.
فكونه يواجه وحوشًا قويّة فورًا كان أسوأ من انفصال هيلاريا عنه.
‘قوّة إرادتها قويّة.’
و كأنّ البوّابة منحتْه لحظة لالتقاط أنفاسه، بدأ المشهد أمامه يهتزّ.
انقلبت أحشاؤه.
تحوّل الضّباب إلى وهمٍ ابتلع مجال رؤيته.
و مزج قلقه و حاضره و كلّ شيء، ليعرض أمامه مآسي حيّة و واضحة، كما لو كانت حقيقيّة.
ضجيج، صراخ.
اهتزاز كزلزال.
رائحةٌ خانقة.
و دماء.
دماء في كلّ مكان.
“جلالتكَ. جلالتكَ!”
“لقد مات عددٌ هائل من النّاس….”
كايسيس.
فرسانه الأوفياء.
أولئك الّذين كانوا سيتبعون أوامره حتّى إلى الموت دون تردّد.
العيون الصّلبة الّتي لم تعرف التردد قطّ، كانت الآن تلومه.
استقبلته عاصمة الإمبراطوريّة الملطّخة بالدّماء.
كان الجميع يعلن موتهم، و يلومونه لاختياره البوّابة.
التعليقات لهذا الفصل " 162"