في فضاءٍ تفعّل فيه الظّلام كضبابٍ كثيف، ارتسمت ابتسامة على شفتي رجلٍ كان واقفًا فوق دائرةٍ سحريّة داكنة مائلة إلى القرمزيّ، مغمضَ العينين كما لو كان يصلّي.
فتح الرّجل عينيه ببطء، فتلألأت حدقتاه بلون أزرقَ سماويّ باهت.
بدت على وجهه ملامح الرّضا، كأنّه تلقّى وحيًا، أو كأنّه شعر بدخول شخصٍ ما إلى فضائه.
اسمه الحاليّ كان هانويل، اسم مَنٔ يخدم الشر.
“ليلييتا رادايك .”
عند ذلك النّداء البارد و المرعب، قامت المرأة الّتي كانت تتمتم بشيء غير مفهوم و هي تحدّق في الجدار برفع رأسها فجأة، و كأنّها كانت فاقدةً للوعي.
عند قدميها كان هناك صبي صغير، ملقى كما لو كان دمية عديمةَ الفائدة.
كان الرّهينة الأثمن لديهم.
“خذي الأمير إلى ذلك الفضاء و اتركيه هناك.”
أليس من الواجب الاعتناء جيّدًا بنقطة الضّعف الأثمن لدى الضّيفين الجليلين القادمين؟
كان فضوله عظيمًا.
ذلك الوحش، كايسيس، أرقى كائن حيٍّ صاغه الحاكم المزيف في هذا العالم، و تلك المرأة هيلاريا التي تحمل قطعةً عظيمة من الحاكم، إلى أيّ مدى سيتمكنان من الصمود و التحمل داخل فضائه؟
إن استطاع إخضاعهما تحت قدميه، فلن تبقى سوى قوّة الحاكم العظيم كنظام حقيقيّ، و تغدو عماد هذا العالم.
‘أنا بالذّات.’
سيولد من جديد كالأقوى.
“صاحب السمو الأمير؟”
اقترب هانويل من الأمير الصّغير المغمى عليه، وخرج من الدّائرة السّحريّة، ثمّ نكزه بطرف قدمه.
كان وجهه النّاعم مغمض العينين، يبدو هادئًا كأنّه لا يدرك شيئًا ممّا يحدث.
أنزل هانويل رأسه ببطء.
انسحب ثوب الكاهن الّذي كان لا يزال يرتديه، كأنّه يتحدّى هذا العالم، على الأرض مُحدِثًا خشخشةً خفيفة.
“سموّ الأمير، أخوكَ و معلّمتك قد قفزا إلى جحيمٍ مشتعل بحثًا عنكَ.”
“…..”
“دخلا بوّابةً بلا مخرج من أجل إنقاذكَ، فضاء وهميّ لا يستطيع أحدٌ الخروج منه دون إذني، و عليهما اجتياز ذلك المكان ليصلا إلى هذه البوّابة حيث تتواجد أنتَ الآن.”
“…..”
“لن يكون الأمر سهلًا أبدًا.”
حتّى مع همسه الخافت، لم ترتجف الجفون المغمضة.
نقر لسانه متأفّفًا.
تسك، مملّ.
اعتدل هانويل بعد أن كان منحنيًا نحو الأمير، ثمّ عقد حاجبيه كأنّ شيئًا لم يعجبه.
“ليلييتا رادايك .”
“……”
“ما الّذي تفعلينه؟ ألا تسمعين أمري؟”
كانت ليلييتا شاردةً تمامًا، كدميةٍ انقطعت خيوطها.
نقر لسانه مرّةً أخرى.
هل حان وقت انهيار روحها؟ لا، لم يحن بعد.
لحظة الصّيد الّتي انتظرها باتت وشيكة، و لن يكون من المناسب أن تنهار المرأة الّتي تُعدّ المتغيّر الحاسم منذ الآن.
“أفيقي.”
طقطق بأصابعه أمام وجهها.
لكن حدقتيها المتّسعتين لم تُظهرا أيّ علامة على العودة إلى شكلها الطبيعيّ.
“تسك.”
لهذا كان هانويل مميّزًا.
فهو الوعاء القادر على تحمّل قوّة الحاكم العظيم كاملة.
و مع الأسف، لم تكن تلك القوّة قابلةً للاستيعاب طويلًا، إذ كان معظم مَنٔ تلقّوها ينهارون.
و هكذا، انهار كثيرون قبله.
على سبيل المثال.
‘الإمبراطورة السّابقة للإمبراطوريّة.’
لم يكن أمامه خيار سوى أن يحمّل أطراف أصابعه شيئًا من قوّة الحاكم.
اندفعت طاقةٌ داكنةٌ مائلةٌ إلى القِرمزيّ، و غمرت جسد ليلييتا الممدّد بلا حراك.
ارتعش جسدها كسمكةٍ أُخرجت من الماء.
رفرفت عينا ليلييتا بجنون وهي تنظر إليه.
“أ، ماذا؟ كيف؟ كنتُ في قاعة الوليمة منذ لحظة……”
نظرة الارتباك تلك دلّت على أنّ ذاكرتها انقطعت فجأة.
نعم، هي لا تعلم.
أنّها تموت.
“انظري إلى الأسفل يا ليلييتا، ألم تكوني أنتِ مَنٔ خطفتِ الأمير و أحضرتِه إلى هنا؟”
“هـ، هذا مستحيل. المهمّة كانت….”
كانت تؤمن، وسط أوهامها، أنّها ستخرج حيّةً و بسلام.
“ق، قيل إنّني البطلة. إ، إذا انتهى الأمر هكذا، فأنا، أنا….”
كان هراؤها المملّ مضحكًا لا أكثر.
عندها، صرخت المرأة الّتي كانت تقضم أظافرها حتّى سال الدّم، و قد انتفخت عروق عنقها.
“أنا فعلتُ كلّ ما طلبتموه! متى، متى سترضون؟ متى ستتركونني؟”
“أتريدين أن تعيشي؟”
“قلتُ ذلك! أريد أن أعيش! يكفيني أن أعيش أنا وحدي!”
لا بدّ أنّ روحها بدأت تتشقّق.
و بعد أن تنهي آخر ما عليها، سواء ماتت أم لا، لم يكن ذلك يهمّ هانويل إطلاقًا.
مدّ يده و أمسك بطرف ثوب المرأة المجنونة التي كانت تحرّك عينيها بجنون، كأنّها تقرأ شيئًا معلّقًا في الهواء، ثمّ شدّها إليه بقسوة.
“إن أنهيتِ أمرًا أخيرًا، سأطلق سراحكِ.”
بينما كان يرى عينيها المتّسعتين، ابتسم هانويل ابتسامةً جميلة.
“الإمبراطور، كايسيس.”
الأمر الذي عجزت تلك المرأة الغبيّة عن إنجازه حتّى النّهاية.
لوّح بيده، فظهر في الهواء فضاءٌ واسع، كأنّه مرآة.
و ظهر في داخله شخصان يبدوان حيّين ينبضان بالحياة.
الإمبراطور، كايسيس.
و هيلاريا الآسرة.
كان كلٌّ منهما يبحث عن الآخر في مكانٍ مختلف.
داخل فضائه.
سيتوهان في بوّابة متاهة وهميّة تنسج واقعًا كالحقيقة.
همس هانويل في أذن ليلييتا، الّتي اقشعرّ جلدها.
“المكان الذي سيتواجدان فيه هو المتاهة الوهميّة، و بالنّسبة إلى كايسيس، ستبدين شخصًا آخر. انتهزي تلك اللّحظة.”
“هذا يعني….”
“استخدمي قوّتك عليه، ازرعي بذرةً في جسد الإمبراطور، و دعي تلكَ القوّة الوحشيّة تنفلت.”
تلألأت عينا ليلييتا.
“إ، إذا فعلتُ ذلك فقط، ستتركني أعيش؟ ستمنحني الحرّيّة؟”
“نعم، سأترككِ.”
حينها ستكونين جثّـةً لا أكثر.
ابتسم هانويل و هو ينظر إلى الأمير المغمى عليه، فقد رأى جفنيه يرتجفان.
‘حاول أن تتشبّث بالحياة يا أيّها الأمير الصّغير.’
فهذا أيضًا سيكون متغيّرًا ممتعًا.
من الآن فصاعدًا، حان وقت عرض مسرحيٍّ شيّق.
الممثّلون: كايسيس، ليلييتا، هيلاريا.
و هو وحده المشاهد.
لعلّ حياةً طويلةً من الملل و الرتابة لم تكن سوى تمهيد لهذه اللّحظة.
كان قلبه يخفق بعنفٍ من الإثارة وهو ينظر إلى صورة هيلاريا المنعكسة في الهواء.
* * *
أخيرًا، أصبح لوحده.
كان لوياس يتظاهر بالموت، أو بالأحرى بالإغماء، و قد أرخى جسده بكلّ ما أوتي من قوّة، ثمّ فتح عينيه فجأة.
‘كانت معلّمته على حقّ.’
لقد حذّرته مرارًا من أنّ مثل هذا قد يحدث.
أنزل الصّبيّ نظره و بسط يده الّتي كان يقبضها بشدّة حتّى آلمته.
في إصبعه، كان هناك خاتم سحري منحته إيّاه المعلّمة.
قبض لوياس على الخاتم بقوّة.
حين أعاد لها تسجيل الدّليل المصوّر، ثمّ أعادت هي وضع الخاتم في إصبعه، قالت له:
‘لن يستسلموا بسهولة، وقد تكون في خطر، سأحميكَ في قاعة الولائم، لكن إن جاءت لحظة الخطر… فقد يحدث أسوأ سيناريو. لوياس، قد يقومون باستهدافكَ.’
هزّ رأسه بسرعة، فيما نظرت إليه المعلّمة بعينين مثقلتين بالقلق، ثمّ احتضنته.
‘لا تقلق، إن حدث ذلك.’
و حين تجمّد لوياس من الدّهشة داخل ذلك الحضن الدّافئ، ربّتت بيدها على رأسه بلمسةٍ متردّدة.
‘تحمّل فقط. تصرّف بحسب الوضع. راقب و اصبر حتّى تحين الفرصة. و إن اندلع قتال…’
‘…..’
‘اصمد بقوّة الخاتم فقط. و سآتي أنا لإنقاذكَ. حتمًا.’
نعم، هكذا كان الأمر.
لم يكن لوياس خائفًا.
فكلّما شعر بملمس الخاتم، أحسّ بأنّ معلّمته إلى جواره.
و كانت هناك أيضًا القلادة.
قلادة سحرية تمكّنه من الوصول إلى أخيه الإمبراطور أينما كان.
‘قالوا إنّ هذا المكان داخل بوّابة، لذا فلن تنجح.’
لكن عليه أن يتحرّك أوّلًا.
حرّك لوياس عينيه.
كان المكان من حوله غريبًا على نحوٍ مريب.
لماذا لا يوجد من يراقبه؟
و في تلك اللّحظة.
في الظّلام، شعر بدفءٍ يلامس كاحله.
شعر لوياس بالذعر و أطلق صرخةً صامتة، فإذا بذلك الدّفء يقول:
“مياو.”
آه!
“لقد عدتُ، مياو.”
عينان تتلألآن بوضوحٍ في الظّلام، وقطّة سوداء ممتلئة الجسد.
التعليقات لهذا الفصل " 161"