كان الأمر غير معقول.
هل أقول إنّني شعرتُ بالذّهول من كلمات كايسيس التي اندفعت كالعاصفة؟
‘لماذا هو الشخص الغاضب أصلًا؟’
ذلكَ وحده كان مثيرا للإنزعاج.
عندما استعدتُ وعيي، كنتُ قد انجذبتُ إلى داخل الغرفة بينما أراقب كايسيس بذهول و هو يتحقّق من شيءٍ ما فيّ.
باطن المعصم، الذّراع، مؤخرة العنق.
‘هل هو كلب؟’
كان يفتّشني من هنا و هناك كما لو كان يبحث عن أثـر ما، ثمّ أطلق تنهيدةً عميقة.
و بعدها ابتسم و كأنّه راضٍ، و تلك الابتسامة كانت فعلًا…
‘حالته تبدو جيّدة.’
بينما كان كايسيس يتصرّف بتلك الطّريقة الغريبة، كنتُ أنا أيضًا أستند إلى الباب، و معصمي ما زال ممسوكًا، أراقبه بدقّة.
فالدّخول إلى البوّابة هذه المرّة استغرق وقتًا طويلًا.
وما دام أنّ القيم تغيّرت إلى هذا الحدّ، فلا بدّ أنّه عانى كثيرًا، لكن لحسن الحظّ لم يبدُ أنّه مصاب.
و لا يبدو أنّ وجهه قد تضرّر أيضًا.
“عندما ظهرت المزيفة، لم تـأتِ. هل كنتِ….”
بينما كنتُ أراقبه بعينين نصف مغمضتين، تفوّه فجأةً بتلك الكلمات، فشعرتُ بأنّ العقدة المتشابكة في صدري بدأت تنفكّ قليلًا.
‘إذًا كان يعلم أنّها مزيفة.’
كما توقّعت، الرّجل الواقف أمامي لم يكن غبيًّا إلى تلك الدّرجة.
كادت ابتسامةٌ خفيفة أن تظهر على وجهي، لكنّ الكلمات التي تلتها جعلت ملامحي تتجهّم فورًا.
“هل كنتِ تفكّرين في التخلّي عنّي؟”
ما هذا الهراء؟
‘التخلّي عن ماذا أصلًا؟’
نظرتُ إليه بوجهٍ مذهول، فإذا به يرفع يدي ويمسح ظهرها بشفتيه برفق.
“هممم؟ تكلّمي.”
“…….”
“لماذا لم تقولي شيئًا منذ قليل؟”
ذلك الإحساس النّاعم و الدّافئ المنتشر جعل جسدي يتجمّد لا إراديًّا.
كانت عيناه تحدّق بي بإصرار، و على الرّغم من أنّها كانت تبدو ضبابيّة بفعل قدرة النّظام، إلّا أنّها لم تبتعد عنّي.
رمشة بطيئة، رموش طويلة جدًّا.
شعر فضي ناعم يجعل أصابعي تريد لمسه لمجرّد النّظر إليه.
وجـه جميل.
‘هاه!’
كنتُ أحدّق به مسحورة، ثمّ فزعتُ فجأة و استعدتُ رشدي.
‘من أين لهذا الإنسان كلّ هذه الحِيَل في الإغواء؟ لا، مهلاً، أليس هو إمبراطور الإمبراطوريّة؟ لماذا يستخدم وجهه بهذا الشكل؟’
آه، لم أكن يومًا شخصًا يتقلّب قلبه بسبب وجه الآخرين.
‘يبدو أنّ مظهره خارج عن كلّ المعايير.’
بعد أن ضقتُ ذرعًا، سحبتُ يدي بعنف.
لم أستطع الإفاقة من تأثير ذلك الجمال العنيف إلّا بعد أن أشحتُ بنظري عن عينيه الزّرقاوين المتّسعتين بظلم.
قرّرتُ أن أبدأ بإعادة هذا الموقف الوقح إلى نصابه.
ماذا تقصد بأنّني لم آتِ؟
و ماذا عن أمر كوني تخلّيتُ عنه؟
مَنٔ الذي كانت قيمه مستقرّة طوال الوقت؟
“لديّ عينان و أذنان كما تعلم.”
شدّدتُ نظري و تكلّمتُ بلهجةٍ قاسية، فالرّجل الذي كان منحنياً كأنّه يتدلّل رفع رأسه و نظر إليّ.
“انتشر في العاصمة خبر أنّ جلالتكَ وجدتَ أخيرًا شريكتكَ، فلماذا عليّ أن آتي؟”
كلّما تكلّمتُ، كان الغضب يتراكم في صدري.
هل تعلم ما الذي كنتُ أفكر فيه و أنا أحدّق في نافذة المهمّة التي لم تظهر طوال اللّيل؟
“و قد رأى أكثر من شخصٍ أنّ تلك المرشدة التي ظهرت فجأةً عالجت جلالتكَ بنجاح.”
رمقته بنظرةٍ حادّة و أنا أتابع الضغط عليه، بينما ظلّ صامتًا.
“إمّا أنّك ظننتَ أنّها أنا، أو أنّك قبلتَ قوّتها حتّى مع علمكَ بأنّها ليست كذلك.”
قـل شيئًا ما.
“لذلك لم أعـد ضروريّة….”
آه.
أطلقت تنهيدة قصيرة.
كان كايسيس يستمع إلي بصمت، ثمّ أمسك بمعصمي و سحبني بلطف.
و بكلّ وقاحةٍ طبيعيّة، قادني و وضع جسدي على السرير برفق.
رفعتُ بصري إليه و هو يجلس إلى جانبي و ينظر إليّ بهدوء.
ساد صمت في الغرفة.
لأنّ الرّجل الذي أمامي كان يبتسم بهدوء رغم كلّ ما قلتـه.
“هل شعرتِ بالخذلان؟”
قال كايسيس بلطف، و هو يربّت على شعري.
“أم أنّـكِ شعرتِ بالغيرة؟”
أزاح خصلات الشّعر عن جبيني، و راح يميل برأسه نحوي ببطء.
“هل غضبتِ لأنّني تلقيتُ القوّة من تلكَ المرأة؟”
اندفعت الحرارة إلى وجهي فجأة.
هل جننتَ؟ أتظنّ أنّني سأقول شيئًا كهذا؟
حاولتُ إدارة رأسي بعيدًا، لكنّ اليد التي أمسكت بذقني بلطف منعتني.
تلاقت نظراتنا بإصرار.
راودني وهم غريب بأنّ تلك العينين الضبابيّتين ترَيان وجهي بوضوحٍ تامّ.
و كأنّني لم أعـد مجرّد خادمة في القصر، بل هيلاريا الحقيقيّة التي تواجهه في قاعة الاجتماعات.
“جلالتكَ.”
“رهاننا لم ينتـهِ بعد. هو لم يبدأ أصلًا.”
أنفاس بطيئة، لمسة ناعمة.
كنتُ قد نسيتُ أنّني جئتُ لأجل توجيهه، و أنّ الأمر سيكون مؤلمًا.
لأنّه بدا هادئًا أكثر من اللازم.
و كأنّ هذا الحديث أهمّ من التوجيه نفسه، أخذ يهدّئني بهدوء و يؤجّل كلّ شيء.
‘ما هذا؟’
لماذا هو لطيفٌ إلى هذه الدرجة؟
مهما كانت علاقتنا في اللّيل قريبة، شعرتُ بأنّ المسافة بيننا تقلّصت فجأة.
لا، أنا لم أتحرّك.
بل هو مَنٔ اقترب من تلقاء نفسه.
كأنّ المسافة لا تعني له شيئًا…
“كنتُ أنتظر.”
“…ماذا؟”
على الرّغم من ردّي الفاتر، أغمض كايسيس عينيه قليلًا و همس كأنّه يلاطف طفلًا.
“أن تأتي و تخبِريني بالحقيقة.”
كانت رائحته المألوفة تقترب بقدر المسافة القريبة بيننا.
“أن تقولي إنّ تلكَ المرأة ليست أنـتِ.”
شعرتُ بأنّ آخر بقايا شعوري بالضيق تتلاشى كضباب.
‘هو كان ينتظرني؟’
تنفّستُ ببطء، ثمّ أمسكتُ بيده التي كانت تتحرّك أمامي و أوقفتُها.
ضحك بصوتٍ منخفض، لكن لم يكن لديّ خيار.
فقد جئتُ أصلًا لأجل التوجيه.
‘خفّف من دلالكِ، أيّها الرّجل.’
كيف لي أن أغضب و هو يبتسم بهذا الشّكل في كلّ مرّةٍ تتلاقى فيها أعيننا؟
“سأمنحكَ القوّة.”
أطلقتُ الطّاقة في جسدي ببطء.
و من خلال اليد المتشابكة، بدأتُ أبـثّ القوّة لتفكيك الهالة العنيفة التي كانت تلتفّ حول كايسيس.
“مرشدتي.”
كان واضحًا أنّ جفنيه يرتعشان و أنّ جسده المتصلّب بدأ يرتخي.
أسند جبينه إلى يدنا المتشابكة و حدّق بي دون أن يرمش.
و بينما كنتُ أنظر إليه، سألتُه بهدوء.
“…هل تألّمتَ كثيرًا بينما لم أكن هنا؟”
كان يتألّم دائمًا، لكن بما أنّه كان يعلم أنّ ليلييتا مزيفة، فلا بدّ أنّه كان يضبط تلقّـي القوّة.
بينما ينتظر قدومي.
وخزٌ حادّ ضرب صدري.
“أنا دائمًا أتألّـم. لكنّكِ أتيـتِ الآن.”
قالها و هو يبتسم مغمض العينين، بينا يشدّ يده حول يدي.
كانت دافئة.
“لأنّني أعلم أنّكِ ستكونين موجودة في نهاية هذا الألم.”
و بينما كان قلبي يلين، فتح كايسيس عينيه وقال بمكر.
“لكنّكِ لم تـأتِ.”
عبستُ بشفتيّ كما لو أنّني لا أصدّق.
“إذًا، هل استغللتَ حالتكَ لتستدعيني؟”
بدا الأمر و كأنّه أرهق نفسه عمدًا في البوّابة.
و إلّا، فكيف لرجلٍ كفؤٍ مثله أن يصل إلى هذه الحالة فجأة؟
قلتُها على سبيل المزاح، لكنّه رمش بهدوء ثمّ أومأ دون تردّد.
“نعم.”
ماذا؟
“لأقوم بإغوائكِ.”
“…ماذا؟”
لا، مهلاً. هذا ينذر بالخطر.
كانت عيناه تلاحقاني بإلحاح، و شفاهه الحمراء ترسم قوسًا جميلًا.
خفق قلبي بقلق.
“لأنّكِ ضعيفة أمام وجهي.”
انفتح فمي ببطء.
“حتى خلال رؤيتي الضبابيّة.”
مـدّ يده إلى وجهي و مسح خدّي برفق.
ارتعش جسدي من تصرفه.
“حتّى إن لم أكن أراكِ، فأنـتِ ترينني بوضوح. لذا لا بدّ أن أستخدم هذا الوجه لإغوائكِ. لأنّكِ قلتِ إنّكِ تحبّينـه.”
يا لهذا الجنون.
هل قلتُ شيئًا كهذا فعلًا؟
متى؟
متى نطق هذا الفم الأحمق بتلك التّفاهات؟
اشتعل وجهي حرارةً.
حاولتُ الإفلات، لكنّه مال أكثر، و اقتربت شفتاه منّي و هو يسأل بنبرةٍ ناعمة مغرية.
“إذًا.”
مستغلًّا شعره اللامع و ملامحه الجميلة إلى أقصى حدّ.
“هل أعجبكِ مظهري الليلة؟”
آه، نعم فهمتُ.
أنـتَ تحاول أن تحرقني حيّة، أليس كذلك؟
التعليقات لهذا الفصل " 140"