رمشت العينان الحمراوان الباهتتان ببطء.
فكّـر كايسيس و هو يحبس أنفاسه.
بالنظر إلى هيلاريا المعتادة، كانت هيلاريا الآن إمّا مريضة جدًّا أو تحت تأثير الدّواء.
‘ربّما لن تتذكّر ما يحدث الآن.’
ربّما كان هذا هو الوقت المناسب ليكون صادقًا.
ربّما لم يكن بحاجةٍ إلى القلق من أن تتهرّب هيلاريا بعد أن يكشف كلَّ شيء، أو أن تهرب و تتركه.
كان كايسيس شخصًا ماكرًا لا يفوّت الفرص.
“هيلاريا.”
“…نعم.”
“هل كنـتِ تنتظرينني؟”
أخفض رأسه قدر الإمكان و هو يمسك بيدها الممدودة.
تقلّصت المسافة بينهما.
كانتْ عيناها الحمراوان الضّبابيّتان، و اللّتان تبدوان و كأن الحمّى قد ألهبتهما، جميلتين كالجواهر.
“هل أنا أظهر في أحلامـكِ؟”
نظر إليها بلا وعي.
تفقّـد نقاط ضعفها، مشاعرها الداخلية، التي لم تظهرها لأيّ أحد.
امتلأت عيناه بالجشع و كأنّه يتلصّصُ على شيءٍ ثمين و نفيس للغاية.
“إذًا، أنـتِ تعرفين كيف تبتسمين بهذه الطّريقة أيضًا.”
“أنا أتألّـم.”
“تتألّميـن؟”
“نعم. لديّ حمّى. كأنّ جسدي كلّه يُطعن بإبـر بلا رحمة. ومع ذلك، جلالتكَ لم تـأتِ.”
شعر بألـم في صدره.
لقد انتظرت زيارته بوجهٍ بارد كالثّلج.
تقلّبت مشاعره بين سعادة شديدة و شوق مؤلم، و كأنّه يواجه رياحًا عاتية.
“صحيح، لقد كنـتِ تنتظرين.”
شعرَ بأنّ قلبـه، الذي كان ينقبضُ بتوتّرٍ داخليّ، قد اشتعل فجأةً.
و في تلكَ اللّحظة أدرك.
هذا الشّخص الذي أمامه، كان ينقل قوّته من خلال الأيدي المتشابكة، حتّى في خضمّ هذه الحالة.
‘مرشدتـي.’
شريكتـه.
كانت قوّة مختلفة تمامًا عن تلك التي تلقّاها من شخصٍ آخر، رغم أنّها كانت تخفّف خطر الانفجار أيضًا، لكنّها كانت مثيرةً للاشمئزاز.
مرشدتـه الحقيقيّـة.
هذا أثرهـا الحقيقيّ.
أطلق كايسيس نفسًا بارتياح، مثل شخص يغمر جسده في حقلِ ورودٍ بينما يستنشق عطرها بلا وعي.
“هيلاريا.”
“أنا أتالّـم.”
“لكن لماذا تعالجينني؟”
“أنـتَ أيضًا…. تتألّـم.”
كانت لديه العديد من المخاوف.
خوفـه من أن تتخلّى عنـه.
خوفـه من العودة إلى علاقتهما السّابقة.
خوفـه من أن تتوقّف عن زيارته في الليل إلى الأبد.
خوفـه من أن تصبح سرابًا ليليًّا، و كأنّ شيئًا لم يحدث، لأنّه لم يكشف عن أيّ شيءٍ أبدًا.
“جلالة الإمبراطور.”
و لكن تلكَ المرأة التي لم تكن تأتِ إليه إلا ليلاً دون إظهار وجهها الحقيقي، كانت تعالجه الآن.
كانت تنظر إليه بتلك التّعابير.
بنظرةٍ مؤلمةٍ و يائسة، و بإلحاحٍ عميق، كانت تبذل جهدها بتعالجه.
و من المؤكّد أنّ عينيها الذّهبيّتينِ المتوهّجتينِ اللّتينِ تتغيّرانِ كانتا تلمعان.
لم يكنْ بإمكانِ المزيّفةِ أن تقلّدَ مثلَ هذا الضّوء أبدًا.
من الآن فصاعدًا، شعرَ بأنّه سيحبُّ اللّون الذّهبيّ المتموّج أكثر من أيّ لونٍ آخر.
“هاه، أنـتِ حقًّا….”
قرّبَ وجهَه من أيديهما المتشابكة.
“إلى متى تنوين أن تُسيطري عليّ و تتحكّمي بي هكذا؟ هاه؟”
ألصقَ جبينـه بجبينها ثمّ مسح خدّها.
لو كان قطًّا، لكانَ قد أطلقَ صوت خرخرة دون أن يشعر، مظهرًا مدى سعادته.
“هاه، رائعـة.”
“جلالتكَ.”
“رائعة حقًّا. هذه القوّة. هيلاريا. كنـتِ أنـتِ بالتأكيد.”
انتشرت رغبة امتلاك مشتعلة كالنار في صدر المستيقظ الذي حصلَ على تأكيد كامل و شعر بالراحة.
“كنـتِ أنـتِ فعلاً.”
على الرّغم من أنّه كان متيقّنًا و متأكّدًا، إلا أن عدم حدوث حوار أو تواصل مباشر مع وجهها الحقيقيّ جعل الأمر ناقصًا.
قطعة اللغز الأخيرة التي لم يضعْها في مكانها قد وجدتْ مكانها أخيرًا.
“جلالتكَ.”
“نعم.”
“لا تتلـقَّ الإرشاد من أيّ شخصٍ آخر.”
“…نعم؟”
ما هو الإرشاد؟
ضيّقت هيلاريا عينيها بشدّة و قالت، وهي تحدّق في كايسيس الذي كان غارقًا في الحيرة:
“لا يعجبني ذلك.”
لم تكن عيناها اللّتينِ تتلألآنِ كالنجوم كالعادة.
في الأصل، كان كايسيس هو الذي يفقد وعيه دائمًا ليلاً.
لكن اليوم، تغيّرَ هذا الموقف و أصبحت هيلاريا هي الشّخص الذي قد لا يتذكّر هذه اللحظة.
“ما هو الإرشاد؟ اشرحي لي.”
“القوّة، هذه القوّة.”
قوّة المرشدة.
“لا تتلقاها من أيّ شخصٍ آخر غيري. أنـتَ المستيقظ خاصّتـي.”
“آه.”
“المستيقظ الذي يخصّني.”
“أنا، هل أنا المستيقظ الذي يخصّـكِ؟”
“إذًا، هل أنـتَ لسـتَ كذلك؟”
ابتلعَ المتسلّل القوّة التي كانت تهدّئه بلطف، و تخلّى عن عقله.
انحنى برأسه إلى الأمام أكثر، مقلّصًا المسافة بينهما.
“هل كنـتِ تشعرين بالغيرة، هيلاريا؟”
هل كانت مستاءة؟
رمشت المرأة التي كانتْ تحرّك شفتيها ببطء و قالت:
“نعم. لم يعجبني ذلك. لمس تلك المرأة كان مزعجًا جدًّا…”
آه، ابتسم.
لقد كانتْ تشعر بالغيرة.
“صحيح، لم يعجبـكِ.”
“جلالة الإمبراطور رجل شرير.”
“صحيح. أنا وغد سيئ. تجرأت على فعلِ ذلك أمامكِ، أليس كذلك؟”
“نعم. أنـتَ وغد سيئ.”
أنزل شفتيه بمرح على جبينها الصافي و المستدير، ممّا جعله يبدو لطيفًا.
“حسنًا. سأكون حذرًا. أنا آسف.”
رأى عينيها تتّسعان قليلًا بسبب القبلة.
بـدت يدها التي كانت تلمس جبينها حيث لامست شفتاه، مذهولةً.
“لماذا قبّلتَ جبيني؟”
كان سؤالها لطيفًا رغمَ أنهما تبادلا قبلاتٌ أكثر من هذه.
“لأنّني أردتُ ذلك.”
“لماذا؟”
“ماذا عـنكِ أنـتِ. هل تكرهين أن ألمسكِ هكذا؟”
“ليس كذلك.”
“إذًا، هذا جيّـد.”
“حقّا؟”
“نعم. أنـتِ أيضًا كنتِ تقبّلينني أحيانًا.”
“كان ذلك إرشادًا، و لكن…”
“كانتْ قبلةً أيضًا.”
استمرّت الابتسامةُ الغبية في الإنفلات و الإنتشار على وجهه.
الرجل الأحمق الذي كان يشعر بقلبه ينبض بجنون ، أدرك أخيرًا.
و بشكل كامل.
لمَـنْ كانت تتجه مشاعره المشتعلة التي استقرّتْ في صدره.
و لماذا كان يشعر بأنه يفقد عقله كلّما تسكع رجال آخرون حول هذه المرأة.
ليس لأنّها كانت الشريكة التي ختمت معه فحسب، بل حتّى لو لم تكـن مرشدته.
“هيلاريا.”
همس و هو ينظر إلى المرشدة التي كانت ترمش بعينيها بسعادة بينما تنقل له قوّةً أقوى قليلًا.
“أنا….”
انتشر وعي راضٍ في صدره.
“أعتقـد أنّني أحبّـكِ.”
المشاعر التي كان يدركها في الخفاء.
تكتسب بعض المشاعرِ شكلًا واضحًا بمجرّد التّفوّه بها.
المشاعر التي اتّخذت شكل شيءٍ صلبٍ اخترقت الآن قلب المستيقظ الذي لم يكن يعرف كيف يحـبّ.
“نعم، أنا أحبّـكِ.”
لم يكن يريد أن يمنح أي أحد آخر مكانًا بجانبها.
“لا أدري متى بدأ ذلك، لكنّني لا أستطيع التّوقف عن التّفكيرِ بكِ.”
كان يتمنى أنْ تنظر تلك العينان إليه وحده، و أن تصل تلك القوّة الساحرة إليه وحده.
“لقد وقعتُ في حبّـكِ.”
لهذا عندما واجهت ليلييتا في قاعة الاجتماعات و ردت عليها بثبات ، اجتاحه شعور غامر بالسعادة.
“لا أستطيع العيش بدونـكِ.”
رفـعَ يديهما المتشابكتينِ قليلًا.
“رهاننا لم ينتـهِ بعد، أليس كذلك؟”
“آه. صحيح. لم تمسك بي بعد…”
لوى أصابعها متسللا في الفراغ الذي بينهما.
كبتَ بصعوبة رغبتـه في ترك آثارِ على ذلك الأثرِ الذي رآه سابقًا داخل معصمها.
“صحيح. لذا، لا تسمحي لأيّ رجلٍ آخر بالاقترابِ منـكِ. سأجـنُّ من الغيرة.”
“هههه، هذا يدغدغني.”
“يدغدغكِ فقط؟”
طبع كايسيس قبلات في أماكن متفرّقة من يدها، ثم حدّق بها فرآها تضحكُ كطفلة.
ثبـت كايسيس نظره عليها بالكامل، و التقت عيناه بعينيها في الحلم الحلوِ الذي سيزولُ بعد انقضاء هذه الليلة.
ابتسم بلطـف.
“هيلاريا.”
“جلالتكَ…”
و كان لذلك تأثير على الطّرف الآخرِ الذي كان يحاول إغواءه بنشاط .
“تبدو وسيمًا عندما تبتسم.”
ابتسمت هيلاريا بذهول و داعبت خـدّه..
“تبدو مثل اللوحة، لهذا لا أستطيع التوقف عن التّفكيرِ فيك.”
نفـذ صبره تحت هذه اللّمسة الناعمة التي كانت تبدو و كأنّها تعيد رسم ملامحه.
“وسيم؟”
“نعم، وسيم.”
أراح كايسيس وجهه على أيديهما المتشابكة التي كانت تتبادل القوّة، بينما يستمع إلى صوتها الجميلِ الذي كان يتنقّلُ بين الحديث الرّسمي و العاديّ.
“إن أردتِ ، يمكنني أن أمنحـكِ أي شيء.”
همس و هو يغمض زوايا عينيه بخفة و كأنّه يحاول إغوائها.
“حقًّا؟”
“نعم. إذا كنـتِ تريدين فقط. يمكنني أن أمنحَـكِ كل ما ترغبين به. لكن لدي شرط واحد. إذا لبّيتِـه، فسأسمح لكِ بلمسي و مداعبتي كما تشائين.”
“ما هو ذلك الشّرط…؟”
انحنى كايسيس مثل قط يطلب الدّلال من صاحبه، أو مثل كلبٍ يلوح بذيله.
أراد أن يبدو محبوبًا و جذّابًا في نظر المرأة التي أمامه، متجاهلًا كلّ شيء آخر.
كان كبرياؤه قد اختفى منذ فترةٍ طويلة.
“لا تناديني بـ جلالة الإمبراطور.”
همس بعينين ماكرتين
“نادني باسمي.”
تسلل إلى اللاوعي الخاص بها مستغلا غيابِ وعيها.
“همم؟ افعلي ذلك.”
إذا كانـت تحـبّ ابتسامته، فيمكنه أن يبتسم ببراعة بقدرِ ما تريد.
كشيطان أحلام يأتي ليلتهم روح إنسان، ابتسم كايسيس بإغواء و حثّها بلطفٍ.
“هيا، انطقي به. اسمي.”
التعليقات لهذا الفصل " 127"