لماذا؟
كانتْ ظروفًا لا يمكن للمرء أن يضحك فيها أبدًا، ومع ذلك، في اللحظة التي سمعتُ فيها ذلكَ الصوت، انسابتْ كلّ قوّة جسدي بعيدًا.
كأنّ جسدي سبق عقلي في الشعور بوجود كايسيس، تدفّقتْ في داخلي موجة رهيبة من الارتياح.
‘آه، أنا لا أزال حيّـة.’
إذا كان ذلكَ الرجل موجودًا، إذا كان ذلك المخلِّص ذو القوّة الهائلة موجودًا.
كـدتُ أبتسم رغمَ علمي أنّ الموقف لم ينتـه بعد.
“جلالة الإمبراطور.”
“نعم، هيلاريا.”
صدر من الوحش الهائل المثبّت في الرمح الجليدي، صوت دوي عالي و كأنّه يسخر من حوارنا أو يغضب منه.
لم يلتفت كايسيس إليه أصلًا.
بإشارة يـد واحدة، انبثقتْ هذه المرّة رماح جليدية من الأرض، فاخترقتْ حراشف الثعبان و برزتْ من الجانب الآخر.
تردّد صوت تمزّق مرعب، وانتشرتْ رائحة دم الوحش الحادّة مع نسيم بارد يحمل طاقة جليدية.
كان مشهدًا يمكن وصفه بأنه فظيع حقًّا، لكنّ كلّ نظراتي كانت أسيرة لتلكَ العينين الزرقاوين اللامعتين.
“هيلاريا.”
منذُ متى صار يناديني بهذا اللّطف؟
خفق قلبي بغرابة عند سماع هذا النداء الغريب الذي صار اسمي الآن.
عينان زرقاوان جميلتان كبلّورات الثلج.
رجل يتوهّج وحده وسط أجواء قاسية كأنّها مزيج من شرارة نار و هواء جليدي.
بشرة بيضاء، ملامح وجه جميلة كدمية، و شعر فضّي يبعث على القشعريرة.
‘وجه أعرفه جيّدًا أصلًا.’
فلماذا يبدو اليوم ملتصقًا بعينيّ هكذا؟
كأنّه وشم محفور في قلبي.
لم أستطع أن أرفع عينيّ عنه.
في هذه اللّحظة بالذات، نسيتُ وحوش البوّابة خلفه، و وجود سيروين الذي يراقب الوضع بجانبي.
فقط ركزّت على تلك العينان الزرقاوان.
و في الوقت نفسه، كان هو أيضًا صامت.
استطعتُ أن أفهم. كان مركّزًا عليّ تمامًا.
كانتْ نظراته تتفحّصني من رأسي إلى أخمص قدميّ.
‘كأنّه كان قلقًا.’
هل يُخيّل إليّ أنّه يبدو كمَنْ ركض كالمجنون دون أن يلتفت خلفه لأنّه كان قلقًا جدًّا؟
و إذا بـدا كأنّه مرتاح لرؤيتي سليمة بلا أذى و لم أمـت، فهل ذلكَ أيضًا وهـم؟
‘متى تغيّرتْ علاقتنا أنا و أنت إلى هذا الحد؟’
فجأة شعرتُ بالغرابة.
عندما فتحتُ عينيّ لأوّل مرّة في هذا العالم، لم يكن سوى أحد المستيقظين المرعبين.
كان شخصية مسطّحة من الرواية، خطرًا قد يقتلني في أيّ لحظة مع تقدّم المهمّة.
كان هدفًا للحذر منه أكثر من العداوة، لا يجوز أن يعرف ما في قلبي أبدًا.
‘كايسيس، لماذا أشعر بالارتياح إلى هذا الحدّ عندما أراك الآن؟’
انتشر إدراك غائم كالضباب.
تسرّبتْ ابتسامة خافتة مني تلقائيًّا.
‘فهمتُ. أنـتَ الآن… لم تعُـد مجرّد شخصية من رواية بالنّسبة إليّ.’
رأيتُ عينيّ الرجل تتّسعان قليلًا كأنّه تفاجأ بابتسامتي الخافتة.
لو كان النظام سليمًا، هل كان سيطلق نافذة تحذير حمراء تقول «هذا لا يليق بالدّوقة آريييل» في هذه اللحظة؟
أم أنّه كان سيتابع هذا التغيّر بهدوء كمَنْ يتركني حرّة تدريجيًّا؟
“لقد تأخّرتَ، جلالتكَ.”
“هل كنتِ تنتظرينني؟”
“يبدو أنّ السحر له حدوده.”
“… هل أُصبـتِ؟”
“و أنـتَ، جلالتكَ؟”
فهمتُ معنى نظرته لأنّني أنا أيضًا كنتُ أتفحّصه من رأسه إلى قدميه.
‘يا إلهي، مظهركَ فظيع.’
ما الذي حدث ليصل رجل يملك قوّة بهذا الضخامة إلى هذه الحالة المزرية من الطاقة؟
‘جراح في أماكن متفرّقة أيضًا.’
بالنظر إلى الجروح في خاصرته و كتفه و ساقه، و التي يبدو أنّها كانت بالغة الخطورة رغمَ قدرة المستيقظين على الشفاء السريع، ضيّقتُ عينيّ.
‘و أين فرسان الإمبراطور؟’
فجأة، ابتسم.
ارتسمت على وجهه ضحكة خفيفة من مسافة قريبة جعلتني أظنّ أنّه سيقترب.
“ظهرتْ بوّابة أخرى.”
“… في نفس الوقت؟”
“نعم، لهذا تأخّرتُ.”
“…..”
توقّفتُ للحظة عند نبرته الودودة التي شعرتُ فيها كأنّه يبرّر تأخّره أو يتدلّل كطفل.
ثم فتحتُ عينيّ بحدّة.
‘إذن لهذا كانت طاقته بهذا الشّكل؟’
إلى أيّ مدى أجهد نفسه؟
عضضتُ على أسناني ثم أدركتُ.
نعم، لقد شعرتُ بالضيق.
غضبتُ كثيرًا من مرشدات الإمبراطور اللواتي كنّ يعتبرن تضحية كايسيس أمرًا مفروغًا منه.
و أكثر من سعادتي بأنّه جاء لإنقاذي في الوقت المناسب، شعرتُ بانزعاج شديد عندما رأيتُ حالته و طاقته المبعثرة.
كلّ ذلكَ لأنّني…
‘صـرتُ أقلق عليـكَ.’
ارتعشتْ شفتاي.
طاقته التي تبدو مؤلمة و كأنّها تلسع الجلد كانت تشبه أشواكًا حادّة.
ربما، ربّما حقًّا…
‘إذا لم تظهر بطلة الرواية المشرقة بعد الآن.’
لن أستطيع تجاهله.
لن أستطيع أن أدير ظهري لكايسيس وهو يتلوّى من الألم.
إن كان تدخّلي أنا هو ما تسبّب في تغيّر مجرى الأحداث الأصلية، و جعل المرشدة التي كان ينبغي أن تنقذه لا تظهر…
‘فأنا….’
سأحتلّ ذلكَ المكان.
‘بدلًا من البطلـة.’
أنا.
ألا يحـقّ لي ذلك؟
انتشر شعور غائم مبهم.
هل يمكن تسميته ثقـة بالطرف الآخر؟
لم يعـد مستيقظ الفئة SSS الذي كان يجعلني أرتجف داخليًا بمجرّد تلاقي النظرات مخيفًا.
شعرتُ بالارتياح عند رؤيته، بل خرجتْ مني ضحكة.
‘إذن.’
حتى لو اكتشف مَـنْ أنا، لن يقتلني، أو لن أُقتـل.
تجذّرتْ تلكَ الثقة في قلبي بحرأة.
‘إذا كان السّبب الذي يجعلني أريد أن ألمس يـده الآن هو ذلك.’
فإذن…
“تسك، عُـدت إلى رشدكَ.”
التفت كايسيس ببطء.
عاد وعيي الذي كان منغمسًا في رغبات قلبي، فارتعشتُ و نظرتُ إلى الخلف معه.
عين وحش ضخمة مشقوقة عموديًا.
عندما شعرتُ بنظرة الثعبان المتلألئة بنيّة القتل، أدركتُ أنّنا داخل بوّابة و أمام وحش.
احمرّ وجهي خجلًا.
كنتُ أحدّق في وجه كايسيس فقط كالغبية؟
‘يا لي من مجنونة!’
رأيته يهزّ يـده فهاجم الثعبان رمح جليدي هائل.
كاغانغ!
مع صوت مرعب كاصطدام الحديد بالحديد، كسر الثعبان برمحه الجليدي الضخم الذي كان يتّجه نحو وجهه بنابيه.
“لننـهِ ذلكَ أوّلًا.”
التفتتْ عينا كايسيس الزرقاوان نحوي مجدّدًا.
لا، بالأحرى نحو شخصٍ بجانبي.
“… ثم نتحدّث بعد ذلك.”
هاه؟
“الكاردينال سيروين، لماذا يوجد شخص يفترض أن يكون خارج البوّابة داخلها؟”
آه، صحيح.
‘كان هذا الشّخص هنا.’
نظرتُ إلى الجانب غير قادرة على إخفاء ارتباكي.
فابتسم الرجل الذي كان يحدّق في كايسيس طوال الوقت دونَ أن يرفّ له جفن بعينين منحنيتين.
“عزيزتي، لقد نسيتِ وجودي بجانبكِ تمامًا، أليس كذلك؟ أشعر بالحزن.”
برزتْ الشامة الواضحة عند زاوية عينه بشكلٍ غريب مع تلكَ الابتسامة.
كانت مناداته لي بـ«عزيزتي» عالية بما يكفي ليسمعه كايسيس الواقف أمامنا مباشرة، فبدتْ الثلوج المتساقطة أكثر حدّة، و لا أعتقد أنّ ذلك وهم.
و في تلكَ اللّحظة بالذات.
مع اهتزاز الهواء، هبط عدد من الظلال أمامنا.
كانوا فرسان الإمبراطور، المستيقظين.
لمستُ غريزيًا أداة التنفس التي صنعها أردييل المستقرّة على وجهي بسلام و تنفّستُ الصعداء.
‘لو رميتُها لأنّها مزعجة لكنتُ في ورطة كبيرة.’
خفق قلبي بقوّة.
عندما ظهر كايسيس، لم أكن أفكّر حتى في هذه الأمور الأساسية.
“سموّ الدّوقة.”
بدتْ فرقة الفرسان مرهقة جدًّا لأنّها لم تستطع مواكبة سرعة الإمبراطور.
و بما أنّ آثار القتال لا تزال ظاهرة، فهم على الأرجح أنهوا البوّابة الأخرى التي ظهرت فجأة ثم جاؤوا معه.
شعرتُ بتأنيب الضمير و أومأتُ بهدوء، فاقترب رجل يُعـدّ من أشدّ الموالين للإمبراطور و انحنى.
“لقد كنـتِ بخير. هل واجهته بالسحر؟”
اسمه كايل بالتأكيد.
شعر أسود، عينان بنيّتان رماديّتان.
قائد فرسان المستيقظين و عمودهم الروحي.
كان شخصيّة ودودة جدًّا و له سمعة جيّدة بين السحرة، هكذا أتذكّر بشكل عام،
“الفارس كايل.”
“سحر الدّوقة مذهل حقًّا. هل تـمّ تأكيد أنّ السحر يعمل داخل البوّابات أيضًا؟”
لم يكن لديّ ما أقوله بالتفصيل.
حسب كلام سيروين، كان من المفترض أن تقلّ فعالية السحر، لكنّني ساحرة مزيّفة ولا أعرف إن كان تأثير «نسبة فشل» هذا هو الأصلي أصلًا!
عندها أضاف كايل بعينين رطبتين و صوت متأثّر:
“لقد حميتِ هذا الشخص أيضًا.”
كان يشير إلى ديكاردو، أحد الرجلين المغشيّين عليهما حتى الآن.
“حقًّا، حقًّا أشكركِ”
تصبّب عرق بارد مني.
أيّها السادة، هذا سوء فهم…
التعليقات لهذا الفصل " 111"