على الرّغمِ من أنّها عاشت مدى حياتها مُبجّلـة كإحدى مرشدات الإمبراطور، إلا أنه لا أناييل، و لا أختاها ليان و إيزوليت، قد دخلن بوّابةً واحدةً في حياتهنّ.
ناهيك عن الدخول بدون أيّ مستيقظٍ لحمايتهنّ!
“أ-أختي… أختي الكبرى… م-ماذا نفعل؟”
لكنّ الوجود الذي جعل قلب أناييل يكاد ينفجر من الرعب هو… إيزوليت.
‘أنا…لقد رأيتُها.’
لو طُلب اختيار ممثّلةٍ للمرشدات الثلاث، لاختار الجميع إيزوليت الذكيّة الحكيمة دون تردّد.
وجهها….
حتّى أناييل، الضعيفة و الناقصة، كانت تثـق بإيزوليت و تتبعها لأنّها تتّخذ كلّ القرارات بدلاً منها.
لكن هذه المرّة، هذه المرّة فقط!
‘الأخت الكبرى فعلت شيئًا…’
قامت أناييل و ليان باتباع إيزوليت التي تحرّكت نحو الدّوقة.
ظنّتا أنّها، كالعادة، ستُحدث احتكاكًا جديدًا مع الدّوقة بأمر من العائلة.
كانتا قلقتين قليلًا، لكنّهما ظنّتا أنّ إيزوليت تملك خطّةً ما كالعادة.
لكن أناييل شاهدتها مباشرةً.
رأت إيزوليت، التي كانت ملتصقةً بجانب الدوقة، تُفعّل شيئًا في يدها.
و بعدها…
‘تورّطنا جميعًا.’
اصطكّت أسنانها بقوّة.
كان الفستان الفخم الثقيل، الذي لا يصلح أبدًا لهذا المكان، مبلّلًا بطين المستنقع حتّى أصبح ثقيلًا جدا.
و كان البرد قارسًا.
“ل-لماذا… لماذا لا يأتي أحد لإنقاذنا؟”
عندما همست أناييل وهي ترتجف، نظرت إليها ليان بنظرة باردة.
“هاا… أناييل، هل هذا وقت التذمّر؟ الوضع خطير جدا الآن.”
كعادتها، انكمشت كتفا أناييل، لكن هل يمكنهنّ البقاء مختبئات هكذا إلى الأبد؟
أرادت أناييل أن تعيش. أرادت العودة إلى بيتها الدافئ بسرعة.
“ل-لكن، أختي ليان…”
على عكسِ أناييل القلقة، تابعت ليان كلامها بهدوء تامّ:
“انتظري قليلًا بهدوء. إيزوليت لديها خطّة بالتأكيد. أليس كذلك، إيزوليت؟”
نظرت إليها بعيون مليئة بالثقة، فرفعت إيزوليت، التي كانت مختبئةً في كهـف، رأسها ببطء.
في تلكَ اللّحظة ، ارتجفت أناييل.
‘هل… كانت عيون أختي الكبرى هكذا دائمًا؟’
كانت عيناها اللامعتان تبدوان غريبتين، لا تشبهان عيون المرشدة الذكية الهادئة التي عرفتها.
بينما كانت أناييل تضغط على صدرها الذي يخفق بقلقٍ،
“…لم يكن هذا جزءًا من حديثنا.”
سمعت أناييل بوضوحٍ تلك الكلمات التي نطقت بها إيزوليت بصوتٍ مملوء بالكراهية.
كان ذلك بمثابة تأكيد نهائيّ أنّ إيزوليت فعلت شيئًا.
انهار قلبها بصوتٍ مدوٍّ داخل صدرها.
“أختي؟”
أرجوكِ… لا؟
لم تفعلي شيئًا، أليس كذلك؟
أرادت أن تسألها، لكن قبل أن تفتح فمها، التفتت إيزوليت فجأة و حدّقت بهما بنظرة مجنونة.
واحدة منهما كانت صديقة، و الأخرى أخت صغرى كانت تعتني بها رغمَ ازدرائها لضعفها.
“أ-أختي، لماذا فجأة…”
“إيزوليت؟”
ابتسمت إيزوليت ببرود و قالت بحدّة:
“كلّ هذا بسببكما أيتها العاجزتان.”
بسببِ تلكَ الكلمات الحادّة الباردة، فغرت أناييل فمها، و انتشرت موجة ذهول على وجه ليان التي كانت تقدّر إيزوليت كثيرا.
“ما معنى هذا الكلام؟”
مدّت ليان يدها بدهشة و كأنّها لا تفهم، لكنّ إيزوليت صفعت يدها بلا رحمة.
ثمّ وقفت فجأة.
“أ-أختي! لا! إنّه خطر، لا نعرف من أين سيظهر وحش، كيااا!”
شعرت أناييل بوميض أمام عينيها، ثمّ أدركت أنّ إيزوليت صفعتها على وجهها.
تمايلت مذهولةً لا تجد كلمة تقولها، فهرعت ليان لتسندها.
“إيزوليت، لماذا تتصرّفين هكذا!”
“أنا…”
كأنّها فقدت صوابها، جالت إيزوليت بنظرةٍ شرسة حولها، ثمّ عضّت على أسنانها و قالت:
“أنا مختلفة عنكما. لن أموت في مكان كهذا. أنا…”
و بكلماتها الأخيرة، ركضت إيزوليت خارج الكهف.
لم تتمكّن المرشدتان المتبقيتان من فعل شيء سوى التجمّد مذهولتين.
* * *
بعد قليل.
“إيزوليت تخلّت عنّا.”
تلقّت ليان صدمة عنيفة.
كانت معجبة بإيزوليت كشخصٍ مسحور، و كثيرًا ما تصرّفت كخادمة أكثر من صديقة، لذا كان وضعها أسوأ من أناييل الجبانة.
“أختي… يجب أن نعيش. عليكِ إن تعودي إلى رشدكِ، حسنًا؟”
“إيزوليت… تخلّت عنّي، لقد تخلّت عنّا.”
لكن هذا المكان هو بوّابة.
البوّابة ليست مكانًا آمنًا يمكنكِ البكاء فيه و الانتظار حتّى يأتي أحد لإنقاذكِ.
“أ-أختي، أ-أظنّ… أنّني أسمع صوتًا غريبًا…”
كانت أناييل تلهث بعنف.
و يا ليته كان مجرّد وهم. ليته كان كذلك فقط.
ذات مرّة، قال أحد الفرسان مازحًا:
“هل تعلمنَ أيّتها المرشدات؟ عندما تدخلن البوّابة، تنجذب الوحوش إلى قوّة المرشدين أكثر من المستيقظين، لذا من الأفضل عدم الدخول معًا إن أمكن.”
كان يظنّ أنّه قدّم معلومة مفيدة، لكنّها الآن أثارت فيها رعبًا جعل أطراف أصابعها تنهار.
‘أنا أسمع… أسمع صوتًا.’
كانت الأرض تهتزّ.
كأنّ شيئًا عملاقًا يتحرّك.
جلست أناييل في الكهف الصغير الذي بالكاد يخفي جسديهما و هي تعضّ أظافرها.
هزّت كتف رفيقتها بجانبها بقلق، لكن…
بام.
“ليان، أختي؟”
المرأة التي كانت تتنفّس و تفتح عينيها حتّى لحظة، انهارت على الأرض عند لمسة أناييل.
“أ-أختي!”
يا إلهي.
بـدت النبيلة الضعيفة و كأنّه أُغمي عليها.
“هل… هذا تسمّم؟”
مهما كانت بطيئة عادةً، فهي قد تلقّت تعليمًا صارمًا في عائلة مرشدين.
مستنقع، بوّابة، أعراض تسمّم.
“الضباب… فيه سمّ…”
ما إن أدركت ذلك حتّى دارت الدنيا أمام عينيها.
لم يعـد جسدها يستجيب، و اهتزّت رؤيتها.
‘هل… سأموت هكذا؟’
هل كانت إيزوليت تعرف؟
لهذا تخلّت منهما، من عبئهما، و هربت وحدها؟
لا أريد. لا أريد أن أموت هكذا.
رجاءًا أيّ أحد، أيّ أحد…
لكن ما ظهر أمام المرشدة المسكينة الباكية لم يكن يـد منقذ، بل…
─دوي.
ذلك الصوت الذي كانت تسمعه منذُ قليل.
─دوي، دوي.
كأنّه اكتشف فريسة، كان يتسارع تدريجيًّا.
─دوي، دوي، دوي!
و أصبح الآن أمامهما مباشرة.
“كيييييييك!”
آه. فتح كائن زاحف عملاق فمـه على وسعه.
‘آه.’
في فمـه المفتوحٍ إلى أربعة أجزاء، ظهرت أسنان حادّة لا تُحصى.
لو ابتلع لحم إنسان و عظامه، لن يبقى أثر.
و لم يكن بإمكانهما الهرب حتّى.
لأنّ أجسداهما مشلولة تمامًا.
“كيييييييك!”
رأت الوحش الذي اكتشف فريسته يندفع نحوهما بجنون و فمـه مفتوح.
كان يركض على أربع و يجرّ ذيله الضخم.
انتهى الأمر.
‘أريد أن أعيش…’
لكن ذلك مستحيل الآن.
في اللّحظة التي أغمضت فيها عينيها وهي تبكي…
سمعت صوت خطوات.
─خطوة.
إنها خطوات إنسان بكلّ تأكيد.
ارتجفت جفون أناييل التي كانت على وشكِ التخلّي عن الحياة، و نظرت أمامها.
أوّل ما رأته شعرٌ أحمر قانٍ.
“هل كلّ ما تعرفينه هو البكاء؟”
ثاني شيء أدركته صوت جليديّ كان يجعلها تتساءل أحيانًا: كيف يمكن لإنسان أن يكون مخيفًا إلى هذا الحدّ؟
كان ذلكَ بالتأكيد الدّوقة آرييل.
رئيسة السحرة التي تضع تعبيرًا غريبًا على وجهها.
تلكَ المرأة التي كانت علاقتها بالمرشدات سيّئة.
ظهرت فجأة كمعجزة، ممسكةً بشيء ما في يدها.
“إذا أردتنّ الحياة، فأغلقن أفواهكن و احبسن أنفاسكن.”
في اللّحظة التي كاد فيها الوحش المندفع أن يبتلع الدّوقة بفمـه المفتوح…
نثرت الدّوقة آرييل ما في يدها في الهواء بقوّة.
ثمّ.
“كرررررريك!”
صرخة تمزّق الأذنين.
هـزّة أرضيّة كأنّ العالم ينهار.
الوحش الذي كان سيبتلع الدّوقة آرييل جنّ جنونه، و أخذ يتخبّط في كلّ الاتّجاهات.
كأنّه يعاني ألمًا لا يُطاق.
ثمّ دوييي─
سقط أرضًا.
‘ما… ما هذا بالضبط؟’
كيف فعلت ذلك؟
هي ليست مستيقظة حتّى.
ما الذي…
ارتجفت عيون أناييل.
‘لماذا… أنقذتنا؟’
بعد أن تأكّدت من موت الوحش، التفتت الدّوقة آرييل ببطء.
نظرت رئيسة السحرة، عدوّة المرشدات، إليهما بينما كانتا ممدّدتين على الأرض كأنّهما قمامة، بوجهٍ بارد.
“آه.”
لكن رغم هذا الوجه…
“جئتُ لإنقاذكنّ.”
بدت كلماتها اللامبالية كالخلاص.
‘آه… هل هذا حلم؟’
شعر أحمر يرفرف بعنف مع الريح.
تعبير هادئ كأنّ ما فعلته ليس بأمرٍ عظيم.
رمشت أناييل كالحمقاء.
…كان المشهد رائعًا إلى درجة أنّه جعل قلب المرشدة التي لم تنظر يومًا إلى ساحر بعين الرضا يخفق بقوّة، كان يبدو كمعجزة.
التعليقات لهذا الفصل " 100"