كان من الواضح أنّهم يمثّلون مشكلة كبيرة في الوقت الحالي.
في المعبد البعيد عن العاصمة، لم يكن لديهم القدرة على رعاية الكهنة المصابين بمرض النوم، فكانوا يتركونهم أو يتخلّصون منهم في كهوف الجبال العميقة، في أفعال خسيسة.
كان آرميا على دراية بهذا الأمر، لكنّه لم يجد حلًا آخر، فأغمض عينيه عن الواقع.
كان قلقه العميق يتمحور حول شيء واحد: إذا كانت ابنة الأرشيدوق تمتلك القدرة كما جاء في الرسالة، فلن تكون مهمتها علاج الكهنة فقط.
إذا تأكّدت قدرة الطفلة، فسوف يضغط كهنة المعبد الكبير عليها لتبدأ بعلاج رئيس الكهنة السابق.
وإذا شفي رئيس الكهنة السابق من مرض النوم، فما الذي سيحدث له؟
لم يستطع آرميا إلّا أن يفكّر في المستقبل.
لم يمضِ سوى خمس سنوات منذ أن أصبح رئيس الكهنة، ولم يحقّق ثلث ما أراد إنجازه في المعبد.
كلّ ما أنجزه كان عدم تجاهل الكهنة الذين،
مثله، دخلوا المعبد بلا قدرات علاجيّة، بل بدافع الخدمة والتفاني فقط، وهذا أيضًا كان في بدايته فقط.
عندما رُشّح لمنصب رئيس الكهنة، كان ممتلئًا بالامتنان،
لكنّه الآن، وهو في هذا المنصب، لم يكن لديه الشجاعة للعودة إلى مرتبة كاهن من الدرجة الأولى.
لا، بل لم يرد أن يُسلب منه مكانه المناسب.
“من أرسل هذه الرسالة، هل هو شخص موثوق؟”
“ماذا…؟”
شعر آمبروس أنّ الحديث يدور في حلقة مغلقة، لكنّه ردّ بنظرة حادّة في عينيه الصغيرتين.
من يجرؤ على إرسال رسالة بهذا المحتوى إلى المعبد ويكذب؟
لكن، بما أنّ آمبروس لم يلتقِ ديرموت سوى مرّة واحدة، لم يتمكّن من إعطاء إجابة مؤكّدة.
كان ذلك في زمن يوشيا، ولم يعد يتذكّر وجهه حتى.
“أوّلًا، يجب التأكّد ممّا إذا كانت محتويات هذه الرسالة صحيحة.”
“آه، نعم، بالطبع.”
كانت كلماته صحيحة، فأومأ آمبروس برأسه بسرعة.
ومع ذلك، شعر بانخفاض في همّته.
كان يعتقد أنّ زيارة رئيس الكهنة بنفسه لعائلة كريسميل ستؤدّي إلى تأكيد الأمر بسرعة.
لم يستطع آمبروس استشفاف نوايا رئيس الكهنة، الذي بدا أصغر منه بحوالي عشرين عامًا، ولا طريقة التأكيد التي ينوي اتباعها.
“سمو الأرشيدوق كريسميل هو أقوى مبارز في الإمبراطوريّة. لن يكون التأكيد سهلًا.”
كان رئيس الكهنة، الذي لا يستخدم لقب “جلالته” حتى للإمبراطور، قد أشار إلى الأرشيدوق كريسميل بلقب “صاحب السمو”. حتى في غيابه.
راقب آمبروس رئيس الكهنة بحذر، محاولًا إخفاء دهشته.
هل هو خائف؟ لم تكن هذه الفكرة بعيدة عن الصواب تمامًا.
فمن لا يعرف السلطة التي يحملها اسم “كريسميل ” في الإمبراطوريّة؟
كان آمبروس نفسه متخوّفًا من أن تكون المنقذة التي ستنقذهم هي ابنة الأرشيدوق كريسميل.
لم يستطع تخيّل ابنة الأرشيدوق وهي تعالج المصابين بمرض النوم بنفسها.
لو كانت من عامّة الشعب، لكان من الممكن إحضارها بالقوّة، لكنّ ابنة الأرشيدوق كانت في مكانة يصعب الوصول إليها.
ومع ذلك، أليس من الأفضل بذل كلّ الجهود؟ هذه الفرصة قد ترفع مكانة المعبد.
حتى لو تطلّب الأمر إثارة عداوة مع عائلة الأرشيدوق، أو حتى التهديد باستخدام قدرة الشفاء.
من يدري، ربما يسعى الأرشيدوق كريسميل يومًا ما إلى مساعدة المعبد.
ألم تكن الشائعات المنتشرة عن عائلة الأرشيدوق مستمرّة منذ زمن؟ بالتأكيد، هم يعانون من ألم خفيّ.
“سأذهب للقائه بنفسي.”
“أنت بنفسك، أيّها الكاهن؟”
نظر آرميا إلى آمبروس بتعجّب لهذا الحماس غير المتوقّع.
لم يكن هذا ما خطّط له.
“الطريق إلى الشمال وعر. هل أنت متأكّد؟”
شعر آمبروس بحرارة في أذنيه وهو يشعر بنظرة رئيس الكهنة وهي تتفحّص جسده المتقدّم في السن.
كانت مهمّة ثمينة لا يمكن إسنادها لأيّ أحد.
هل اكتُشفت رغبته في مرافقة شخص ذي قدرات خاصّة والدخول إلى العاصمة كشخصٍ ذي مكانة؟ لم يستطع آمبروس مواجهة عيني رئيس الكهنة مباشرة.
“لديّ الشخص المناسب في ذهني. اترك الأمر لبصيرتي.”
مع ابتسامة خفيفة وطبطبة على كتفه، لم يستطع آمبروس استعادة شجاعته.
* * *
– هل أقتله؟
“آه! مرّة أخرى!”
بعد أن كان هادئًا لفترة، وبّخت لوسي سيل الذي قال كلامًا سيئًا، وهي تضرب ظهره بقبضتيها بقوّة.
إلى أين ينظر ليقول هذا؟ نظرت لوسي في اتّجاه عيني سيل.
كان ينظر نحو البوّابة حيث تنتشر الأشجار الطويلة.
مهما نظرت، لم ترَ سوى الأشجار.
هل ينوي قتل شجرة؟
“إنّه فتًى محارب. أعجبني.”
همهم آغنيس بنبرة متعالية وهو يهزّ ذيله برفق.
هل بدا كلامه كمديح؟ تسبّب ذلك في إثارة سيل وحتى سيلف معًا.
– النسر الأسود العظيم لا يتجنّب القتال!
– همف! همف! الشجاع… لا يتجنّب… القتال! لا يفعل… أنا… لن أهرب!
– النسر الأسود الشجاع يحمي!
– بسرعة! أطير! لا أحد… يستطيع… الإمساك بي! هوه!
“جيّد، جيّد.”
تنهّدت لوسي وأنزلت رأسها عند تعليق آغنيس القصير.
كان هذا أوّل لقاء يجمعهم جميعًا.
لم يظهر سيل لأيام، وقال إنّه ذهب في مهمّة للأرشيدوق آردين.
بدا أنّه سافر لمسافة بعيدة، إذ كان جسده أنحف قليلًا، فاعتنت به لوسي بجدّ.
أمّا سيلف، فقد ذهبت إلى عالم الأرواح لفترة بعد بقاء آغنيس هنا، وعادت اليوم.
عندما كانوا يختفون واحدًا تلو الآخر، كانت تتساءل عنهم، لكنّ تجمّعهم معًا لم يكن بالأمر السارّ تمامًا.
لم تستمرّ المحادثة، وصاروا يصرخون معًا، فلم تستطع التركيز.
في خضمّ هذا، بدا آغنيس الوحيد المرتاح، فشعرت لوسي بالضيق ورفعت يدها دون أن تشعر.
حاولت أن تضرب مؤخّرة القطّة، لكنّها أنزلت يدها بهدوء مع تنهيدة صغيرة.
كانت متأكّدة أنّ آغنيس سيغضب، فلم تجرؤ على فعل ذلك.
سألت لوسي آغنيس منذ يومين لماذا لا يزال هنا.
على عكس إجابته السابقة بأنّه يكره الذهاب والعودة، قال إنّ لديه مهمّة، فأومأت برأسها.
أضاف أنّ الأرشيدوق آردين سمح له، فلم تسأل أكثر.
لا يمكن أن يكذب الروح، لكن عندما سألت الأرشيدوق آردين نفس السؤال،
قال لها بشكل غير متوقّع أن تبقى دائمًا مع آغنيس، لأنّه روح من الطبقة العليا، وسيكون مفيدًا بطريقة ما.
قريبًا، ستمضي إلى العاصمة لعلاج المصابين بمرض النوم، وآغنيس سيكون مفيدًا بالتأكيد.
فهو يعرف كلّ المصابين بمرض النوم في العالم.
“سيل، يجب أن تكون هادئًا في العاصمة. وإلّا فلن تأتي معنا.”
كان سيل لا يزال مسؤولًا عن حماية لوسي،
وبفضل ذلك، عاد الفارس يونيس إلى فرقة الفرسان.
لكن، إذا كان النسر الأسود الضخم دائمًا بجانبها، فلا يجب أن يُشكّل تهديدًا للآخرين.
سمعت أنّ العاصمة مليئة بالناس، وكانت قلقة أن يقول لكلّ من يراه إنّه سيقتله.
بالطبع، هي الوحيدة التي تفهم كلامه.
لكن صوت النسر الأسود وحده كفيل بإخافة الناس.
لذا، كانت ميلودي تبتعد عنها أو تعود إلى القصر عندما يكون سيل موجودًا.
أومأ سيل برأسه مرّتين بناءً على طلبها.
كان تصرّفه غير مبالٍ، لكنّه أومأ مرّتين، وهذا كان جيّدًا.
فهو إذا لم يرد، كان سيتجاهل كلامها ويتظاهر بعدم سماعها.
“آغنيس، هل ستأتي معي إلى المعبد أيضًا؟”
سألت لوسي آغنيس عما يشغلها.
لو كان في هيئته كروح مثل سيلف، فلن يراه أحد، لذا لن يهمّ الأمر.
لكنّ آغنيس الآن في جسد قطّ.
أصبحت والدتها أيضًا تعرف أنّه روح.
عندما تكون مع والديها، كان آغنيس يتحدّث بحرية.
كان مقربًا من الأرشيدوق آردين لدرجة أنّهما يتحدّثان بمفردهما في غرفتها.
لكنّها كانت قلقة من أن يعتاد على ذلك ويتحدّث بحرّية في العاصمة، فيظنّ الناس أنّه غريب.
أدركت لوسي الآن أنّ التحدّث مع الحيوانات ليس أمرًا شائعًا بين الناس.
“بالطبع. إذا ابتعدتُ عنكِ، لن أستطيع البقاء في عالم البشر.”
“إذًا، تعرف أنّك لا تستطيع التحدّث بحرية كما تفعل هنا، أليس كذلك؟”
“أنا لست غبيًا كطفل بشريّ.”
“آه…!”
قالت ذلك خوفًا من أن يُعامل كحيوان غريب، لكنّ رده كان،
كما هو متوقّع، ازدراءً يليق بروح من الطبقة العليا.
فغرت لوسي عينيها تجاه آغنيس ثم توقّفت.
تساءلت ماذا سيحدث لو تركته وهربت إلى داخل القصر.
هل سيعود إلى عالم الأرواح إذا ابتعدت عنه قليلّا، أم سيركض آغنيس المذعور نحوها؟
في كلتا الحالتين، بدا الأمر ممتعًا، فضحكت لوسي في داخلها.
“لوسي صغيرتي العزيزة، ها أنتِ هنا.”
“أمي!”
رأت إيسيل، التي كانت تتجوّل، لوسي واقتربت منها.
كانت ابنتها جالسة على العشب كما اعتادت في جبل فلابيس.
التعليقات لهذا الفصل "70"