في اليوم الأول، لم تكن قادرة على المشي فحسب، بل كانت عاجزة حتى عن مغادرة الفراش دون مساعدتي.
كانت جهودها المضنية تثير في نفسي الحب والإعجاب، وفي الوقت ذاته شعورًا بالأسى.
لم تعد بحاجة إلى عوني كما كانت، وهذا ما أثار فيّ شيئًا من الخيبة.
كنت مستعدًا، لو أرادت إيسيل، أن أحملها على ظهري وأتجول بها في الحديقة، أو أن أحتضنها وأصطحبها إلى أي مكان ترغب بزيارته.
لكنها لم تطلب مني ذلك، فشعرت ببعض الحزن والامتعاض في قرارة نفسي.
ومع ذلك، لم يكن بوسعي أن أمنعها من ممارسة المشي وتحسين خطواتها.
كان الأرشيدوق آردين، الذي يهيم في أفكار تافهة، يستمتع برؤية إيسيل وهي تستكين بين ذراعيه بهدوء.
كان يحب ابنيه ولوسي بعمق، لكن تلك اللحظة كانت لا تضاهيها أي لحظة أخرى في روعتها.
“أوه، هل غادر الأمير بسلام؟”
تجعد جبين آردين الغارق في البهجة بخطوط القلق، وتحولت ابتسامته المتّقدة إلى تقطيبة صلبة، ثم أطلق تكتكة لسانه بنزق.
“ما الخطب؟ هل حدث شيء؟”
كان من بين التغيرات التي مرت بها هي وجود الأمير سايرس في حياتها.
علمت أنه زار جبل فلابيس، وهو خبر أذهلها حتى عجزت عن ضبط ملامحها.
وباستفسارها، تبين أن ذلك حدث حين كانت غارقة في مرض النوم.
ذُهلت أكثر حين سمعت أنه يعتبر لوسي منقذته، وأن هذا السبب دفعه اليوم ليودعها بنفسه رغم مكانته العالية.
كان الأمير سايرس، من بين كل الشخصيات الرفيعة التي قابلتها إيسيل، الأكثر تهذيبًا واحترامًا لها، فتمنت أن يحافظ على علاقة طيبة مع لوسي في المستقبل.
“لقد رحل ذلك الأحمق وهو يهذي بكلام فارغ!”
قال آردين بنبرة حادة، وهو يستعيد لحظة حاول نسيانها، فانفلتت منه كلمات خشنة.
انتفضت إيسيل متفاجئة، وارتد جسدها للخلف، وعيناها تتسعان دهشة وهي ترى تقطيبة حاجبي آردين الغاضبة.
كان آردين، الذي نادرًا ما يكشف عما في داخله، يظهر الآن غضبه بوضوح جلي.
“ماذا قال؟”
“قال أنه هو ولوسي….!”
أجاب آردين وهو يكاد ينفجر غيظًا، لكنه توقف فجأة، عاجزًا عن متابعة الكلام، وهو يشد أسنانه ويعض على شفتيه ويدير رأسه جانبًا.
“ماذا قال؟ هل أنت غاضب حقًا؟”
قالت إيسيل وهي تنزلق من حضن الأرشيدوق آردين، وتمسك وجهه بكلتا يديها لتعيد بصره نحوها.
لم يبدُ أن غضبه جدي، بل كان أقرب إلى الضيق أو الانزعاج، إذ لم يحاول التملص من يديها.
كان آردين المستاء، الذي يُقال عنه إنه كالحديد في برودته وصلابته، قد أثار فضول إيسيل أكثر.
ما الذي قاله الأمير سايرس ليستفزه هكذا؟
“ماذا قال أيضًا؟ انني أراه شخصًا لطيفًا.”
أصرت إيسيل.
“قال إنه سيتزوج لوسي!”
صاح الأرشيدوق آردين بغضب كأنه يتساءل كيف يمكنها أن ترى خيرًا في مثل هذا الصبي.
تراجعت إيسيل لحظة من هول الصدمة، ثم بدأت شفتاها ترتجفان، وانفجرت ضاحكة حتى انحنت من فرط الضحك.
كان صوت ضحكات إيسيل، التي طالما افتقدها، يرن في أذنيه، لكن آردين لم يستطع مشاركتها الفرح.
لم يفهم سبب ضحكها.
كيف يمكنها أن تضحك وثعلب ماكر يطمع في ابنتنا؟
كانت إيسيل أحيانًا لغزًا بالنسبة له، لكن هذه المرة كانت الأكثر إرباكًا.
“أنا جاد جدًا…”
تمتم آردين بنبرة متذمرة وهو يقف متصلبًا.
نظرت إيسيل إليه، ومسحت دموع الضحك من وجهها، ثم حاولت منع ضحكاتها من التسرب من شفتيها المرتجفتين.
“لوسي في الثامنة فقط! يبدو أنه كان يمزح معك.”
ربتت إيسيل على ذراع آردين بلطف، تلومه على سذاجته المحببة.
كان أكثر ما شعرت به من تصرفات الأمير سايرس هو الامتنان لمنقذته، ولاحظت حبه لـ لوسي، لكن كأخت صغرى لا أكثر.
لم ترَ ما يتجاوز ذلك.
علاوة على ذلك، رغم نضجه الظاهر، كان الأمير في الخامسة عشرة فقط، فكيف يتحدث عن زواج الآن؟
لم تعرف كيف خرجت تلك الكلمات منه، لكن براءة آردين وتصديقه الحرفي أثارا ضحكها، وسُرّت لاكتشافها جانبًا طفوليًا فيه لم تتوقعه.
“أقسم أنه معجب بها! كيف لا يقع أحد في حب لوسي؟!”
قال آردين بنبرة شاكية، فكادت إيسيل تنفجر ضاحكة مرة أخرى، لكنها أمسكت شفتيها بقوة.
لكنها تذكرت فجأة أنها سمعت كلامًا مشابهًا من السيدة أودري قبل قليل.
هل تمتلك لوسي موهبة خاصة تجعل الجميع يعشقونها؟
آردين، الذي كان يرفض فكرة الأطفال بشدة، والسيدة التي كانت تحتقرها، أصبحا الآن يعشقان لوسي.
شعرت إيسيل بالامتنان والطمأنينة أكثر من شفائها من المرض، فلم تعد مضطرة للهروب أو الشعور بالذنب تجاه لوسي.
“أنا غاضب من ذلك الصبي، لكن ضحكتك تسعدني.”
آردين وقد هدأ غضبه، ضم إيسيل إليه مجددًا.
لقد رحل ذلك المزعج أخيرًا، وكل ما عليه هو تجاهله ونسيان طلبه السخيف.
طالما إيسيل بين ذراعيه، تلاشت من رأسه كل الأمور التافهة الأخرى.
***
في هذه الأثناء، كان ماريليو، الذي لا يعرف ما يدور في قلب الأرشيدوق آردين، يحاول إغراء لوسي بحماس.
“في العاصمة أشياء عجيبة كثيرة! أكثر بكثير مما هنا!”
وأضاف إيركين أنه إذا زارت العاصمة، سيريانها أماكن متنوعة.
كان سايرس قد غادر على عجل، فذهبت لوسي مع إيركين وماريليو إلى غرفة الاستقبال.
تبقى ثلاثة أيام على انتهاء عطلتهما، لكنهما سيعودان غدًا إلى العاصمة.
غادر سايرس اليوم، وغدًا سيحين وقت وداع آخر.
لم تتح لـ لوسي فرصة الحزن، إذ حاول الاثنان إقناعها بزيارة العاصمة قائلين إنها ستستمتع هناك.
‘العاصمة…’
فكرت لوسي، حيث القصر الإمبراطوري الذي يعيش فيه سايرس، والأكاديمية التي يدرس فيها الشقيقان.
قالا إنها مليئة بالمباني الضخمة والناس، وشوارعها تعج بالعربات حتى تحدث الحوادث أحيانًا.
في المهرجانات، تزدحم بالبشر حتى تكاد تفقدك صوابك.
كانت لوسي، التي اعتادت أصوات الحيوانات في جبل فلابيس، عاجزة عن تخيل العاصمة.
كانت تشتاق لاستكشافها، لكنها أكثر من ذلك لم ترغب في الابتعاد عن إيركين وماريليو، ولا عن سايرس أيضًا.
بالنسبة لـ لوسي، التي كانت علاقاتها الإنسانية محدودة، كان كل شخص في حياتها ثمينًا.
“إذا طلبتِ من الأرشيدوق، سيوافق بسرعة.”
قال ماريليو بثقة.
“لكن أمي لا تزال تجد صعوبة في الحركة، لذا يمكنكِ المجيء لاحقًا.”
أضاف ماريليو، وكانت هذه أول مرة ينطق فيها كلمة “أمي”، فاحمر وجنتاه خجلًا.
قبل يومين،
في اليوم الثاني بعد استيقاظ إيسيل، تمكن ماريليو وإيركين من تقديم التحية رسميًا.
كانا خائفين من رد فعلها.
ماذا لو رفضتهما؟
لم يكن الأرشيدوق قد تزوجها بعد، فماذا لو رفضت أن يكونا ابنيها؟
كلما طال الوقت، ازدادت مخاوفهما، حتى وقفا أمامها ترتجف أوصالهما، وبالكاد نطقا باسميهما.
لكن إيسيل استقبلتهما بصوت دافئ وابتسامة قائلة:
“يا إلهي، انهما يشبهانني حقًا! أن يكون لي ابنان كبيران، إنه لأمر مفرح.”
فتنفس ماريليو الصعداء من شدة توتره، ثم سمحت له بمناداتها بوالدته كما كان يتمنى دائمًا.
“سأحاول أن أكون أمًا صالحة.”
قالت إيسيل ذلك، لكن ماريليو شعر أن وجودها وحده كافٍ، فكيف إذا بذلت جهدًا؟
أثرت كلماتها في قلبه بعمق.
أبدت أسفها لعدم قدرتها على قضاء وقت طويل معهما بسبب حالتها، وطلبت منهما الانتظار قليلًا حتى تتحسن.
فطمأنها ماريليو أن صحتها هي الأهم، وهو طلب ناضج منه.
كان يؤسفه العودة غدًا إلى الأكاديمية، لكن استيقاظ إيسيل خفف قلقه الكبير.
تساءل كيف سينتظر حتى العطلة القادمة، لكن إذا جاءت إيسيل ولوسي إلى العاصمة، ستُحل المشكلة كما يريد.
بدأ يتخيل نفسه معهما في مقهى جميل بالعاصمة، وحث لوسي قائلًا:
“يجب أن تأتي! سيكون أفضل لو ذهبنا معًا.”
“صحيح، موسم الظهور الأول قريب، ستكون العاصمة أكثر ازدحامًا.”
أضاف إيركين آملًا قدوم لوسي، رغم أنها لم تبلغ سن الظهور في المجتمع، لكن هناك حفلات تناسب عمرها قد تتيح لها تكوين صداقات.
لكن ذلك يعتمد على تحسن إيسيل وموافقة الأرشيدوق، الذي لا يحب الأوساط الاجتماعية.
“الظهور الأول؟”
“أوه، إنه…”
بدأ إيركين يشرح لها بهدوء عن عالم المجتمع الراقي.
ظن أن الفتيات عادة يعشقن الرقص والفساتين الجميلة، لكن عيني لوسي لم تبرقا كما توقع، ربما لأنها لم تستطع تخيله.
“هل يمكنني زيارة القصر في العاصمة؟”
سألت لوسي، مهتمة أكثر بمكان سايرس.
كلماته في جبل فلابيس عن خيانة شخص كان يثق به ظلت عالقة في قلبها.
لم يشرح تفاصيل “الخيانة”، لكنه طمأنها بوجود من يساعدونه، رغم أن حزنًا خفيًا ظل في عينيه.
لم تستطع سؤاله عن حاله في القصر هذه المرة، لكنها أرادت، إن ذهبت إلى العاصمة، أن ترى بنفسها إن كان بخير، ومن يدعمه هناك، وهل القصر مكان آمن له حقًا.
التعليقات لهذا الفصل "51"