رفع يونيس رأسه فجأة، فبدى حائرًا لا يدري ما يفعل، ثم احمرت عيناه.
تبع ذلك بكاء عيني إيسيل أيضًا.
“هاه، قدرتكِ على إثارة أعصابي لم تتغير.”
ضحك آردين ضحكة خافتة وهو يمسح على رأس إيسيل.
كانت تنظر إليه بنفس النظرات التي لا تفهم ما الذي أخطأت فيه، كما في الماضي والآن.
لم يشعر آردين بالضيق رغم أنها لم تقل له “اشتقت إليك” أولًا.
كان يكفيه أن إيسيل فتحت عينيها، ووجهت إليه عينيها الخضراوين النابضتين بالحياة، وتحدثت بلطف، فبدت كل الأمور على ما يرام.
“ألا تشتهين شيئًا تأكلينه؟ أو شيئًا تودين فعله؟”
سألت لوسي وعينيها تتلألأ.
ابتسمت إيسيل بلطف ثم خفضت زاوية فمها.
لم تكن تشعر برغبة في الطعام بقدر ما أرادت أن تعرف كم من الوقت ظلت مريضة، وكيف قضت لوسي تلك الفترة.
لم تستطع أن تشعر بالامتنان الكامل وهي ترى ابنتها الصغيرة تطرح الأسئلة التي كان يفترض أن تطرحها الأم على طفلتها.
لم يمض وقت طويل على استيقاظها، وجسدها الذي لا يطاوعها جعلها تشعر بالأسف فقط.
“أريد أن أغتسل… وربما أحتاج إلى التدرب على البقاء مستيقظة.”
قالت إيسيل بخجل وهي تهمهم بصوت منخفض.
في تلك الأثناء، بدأ صوتها المتعب يهدأ مع تحسن حنجرتها.
“سيقوم أشخاص مألوفون برعايتك، فلا تقلقي.”
أنهى آردين كلامه بابتسامة، ثم جال ببصره بين الأشخاص الموجودين في الغرفة.
ظهرت الخيبة واضحة على وجهي إيركين وماريليو اللذين كانا ينتظران فرصة للتحية.
بينما غادر إيميت ويونيس الغرفة أولًا بلباقة.
“سأجعلهم يحيونكِ لاحقًا بالتدريج.”
كانت إيسيل بحاجة إلى وقت للتأقلم.
عند كلام الأرشيدوق آردين، قاد إيركين ماريليو المتردد خارج الغرفة، تاركين كلمات تعبر عن أسفهما ورغبتهما في العودة لاحقًا.
“أمي، سآكل ثم أعود.”
قبّلت لوسي، التي نامت حتى وقت متأخر وفاتتها وجبة الصباح، خد أمها.
ثم قرّبت خدها منها، فتلقت قبلة طبيعية ضغطت على خدها الممتلئ.
ضحكت لوسي بهدوء.
من الآن فصاعدًا، ستكون هذه التحيات جزءًا طبيعيًا كما في السابق.
وعندما تتعافى أمها وتصبح حركتها أسهل، ستذهبان معًا في نزهة.
توجهت لوسي نحو الباب وهي ترفرف كتفيها بخفة، ثم رأت سايرس ينتظر في الزاوية فتحركت معه.
عندما غادر الطبيب ديرموت أيضًا، بقي آردين وإيسيل وحدهما في الغرفة.
“لدينا الكثير لنتحدث عنه، لكن خذي وقتك. لوسي أحضرتك إلى هنا، ومن الآن فصاعدًا ستعيشين هنا.”
“لا أملك قوة في ساقيّ.”
تمتمت إيسيل وهي تخفض رموشها الطويلة.
كانت تتظاهر بالهدوء أمام لوسي، لكن طاقتها لم تعُد بالكامل بعد.
كان الإحساس في أسفل جسدها ضعيفًا، وحتى الجزء العلوي لم يكن بحالة جيدة.
كلما حاولت الحركة، شعرت بألم وتنميل في جسدها كله.
كم من الوقت ظلت نائمة؟ كانت تريد أن تظهر بصحة جيدة حتى لا تقلق لوسي، لكن يبدو أن ذلك سيكون صعبًا في الوقت الحالي.
“هذا أمر جيد.”
“ماذا؟”
“يعني أنه ليس لديكِ القوة للهرب.”
“آه…”
ابتسم آردين بخفة، فأخفضت إيسيل رأسها.
كانت بعيدة عنه لفترة طويلة، لكنه يعاملها كما لو كانا معًا بالأمس.
بفضل ذلك، لم تشعر بفجوة الزمن التي مرت.
شعرت للحظة كأنها استيقظت بجانبه كما في الأيام الخوالي.
“أنا آسفة.”
لو أنها تركت رسالة على الأقل… لم تدرك إيسيل أسفها إلا بعد أن غادرت القصر.
عندما قررت تركه، اعتقدت أن شرح الظروف لن يكون له معنى.
لكن كيف فكر آردين في اختفائها المفاجئ؟
كان تصرفًا غير مسؤول.
هربت بعد خطوبتها منه، عندما ذهب لمحاربة الوحوش.
“ليس خطأكِ، فلا تعتذري. كل اللوم يقع عليّ.”
احتضن آردين إيسيل بهدوء وهي تبدو محبطة.
كان يتمنى لو عاد مبكرًا أكثر.
ماذا لو جاءت لوسي إلى القصر فور مرض إيسيل دون أن تتردد؟
لو فعلت ذلك، لكان التقى بـ إيسيل ولوسي مبكرًا، لكن الأسباب التي منعتها كانت تعود إليه.
كان آردين ممتنًا لأن إيسيل استيقظت دون ألم، لكنه ندم على الماضي مرة أخرى.
كان يجب أن يكون هو من يعتذر، لكنه شعر بالأسف لرؤية إيسيل تعتذر.
ارتجف جسدها الهش في أحضانه وكأنها على وشك البكاء.
ربت آردين على ظهرها بهدوء وانتظر.
أراد أن يعانقها طويلًا ليعوض ما فاته.
“أوه! هل أعود لاحقًا؟”
فتحت إميليا الباب بسرعة وانتفضت متفاجئة.
كان عليها أن تغلقه بهدوء مجددًا، لكن رغبتها في رؤية السيدة إيسيل منعتها من التراجع، فسألت.
“ادخلي. وجهزي لها الحمام.”
أمر آردين بما أرادت إيسيل فعله.
رفعت إيسيل رأسها وهي تمسح عينيها الدامعتين.
كانت إميليا تبتسم بحرارة، وخلفها تقف ميلودي وهي تبكي بهدوء.
“مر وقتٌ طويل.”
“آآه، سيدتي!”
مع تحية قصيرة، لم تستطع إميليا مواصلة الابتسام ودمعت عيناها.
انحنت ميلودي بينما ترتجف كتفيها وتبكي.
كان عليها أن تشكرها على عودتها بعد رؤية وجهها، لكنها خشيت أن تنفجر بالبكاء إذا فتحت فمها.
“ميلودي.”
أمسكت إميليا يد إيسيل أولًا مرحبة بها، فنادتها إيسيل بصوت خافت.
تقدمت ميلودي مسرعة وهي تشهق، ثم انهارت على السرير وأطلقت بكاءها.
كانت ميلودي قد انضمت إلى خدم عائلة كريسميل في سن صغيرة، وكانت إيسيل أول نبيلة تتولى مسؤوليتها.
كانت مهامها بسيطة مثل تحضير ماء الغسيل أو التنظيف، لكن إيسيل كانت دائمًا تشكرها.
كانت تأمل أن تعيش هذه السيدة اللطيفة والهشة براحة في القصر، لكن ذلك لم يحدث.
كانت إيسيل أول نبيلة تعبر لها عن الامتنان، وتعاملت معها بلطف رغم أصلها المتواضع.
أرادت مساعدتها، لكن كل ما استطاعت فعله في منصبها هو نقل أخبار السيدة أودري سرًا.
لذلك، عندما اختفت إيسيل فجأة، بكت ميلودي في غرفتها سرًا مرات عديدة.
تمنت أن تجد الشجاعة لتخدمها جيدًا ولتعبر عن أسفها في لحظة مناسبة.
عندما جاءت تلك اللحظة أخيرًا، لم تستطع ميلودي سوى البكاء.
صوت إيسيل وهي تناديها لم يحمل أي لوم، مما زاد من دموعها.
“يمكنكما مناقشة ما فاتكما بعد الاستحمام.”
“آه!”
كان واضحًا أن حديث النساء سيطول.
رفع آردين إيسيل التي لا تستطيع الحركة بسهولة في أحضانه.
لوّحت ذراعاها الهشة في الهواء فجأة، ثم عانقت رقبته.
كم مر من الوقت؟ نظر آردين إلى إيسيل التي تعتمد عليه وابتسم.
هرعت إميليا إلى الحمام.
تبعتها ميلودي بعد أن مسحت دموعها بقوة.
“استحمي بهدوء وعودي. سأنتظركِ.”
“أ، أوه؟ نعم.”
وضع آردين إيسيل على كرسي الحمام، ثم مسح خدها المرتبك وخرج.
كيف سينتظرها وهو لا يعرف متى سينتهي استحمامها؟ أرادت إيسيل أن تسأله إن كان مشغولًا، لكنها أجابت بطاعة.
كانت هي أيضًا تتوق إلى الحديث مع آردين.
“سيدتي، كم مر من الوقت؟”
تحدثت إميليا بنبرة متحمسة وهي تحمم إيسيل بعد غياب طويل.
بسبب ذلك، لم تستطع إيسيل النظر طويلًا إلى ظهر آردين وهو يغادر الحمام.
لا بأس، فالوقت أمامها كثير من الآن فصاعدًا.
كانت تخطط لتناول العشاء مع آردين ولوسي.
قد تضطر إلى انتقاء طعامها لفترة بناءً على تعليمات الطبيب، لكنها أرادت على الأقل أن تكون معهما.
كما أرادت أن تتعرف على الفتيان الذين غادروا بنظرات متلهفة.
إذا كانوا موجودين عند استيقاظها، فهم بالتأكيد مهمون لآردين.
كانت إيسيل تتساءل عن هؤلاء الذين يشبهونها في لون الشعر والعينين.
“أريد الماء أكثر دفئًا قليلًا.”
طلبت إيسيل من ميلودي بعد أن تحققت من درجة حرارة الماء.
أرادت أن تنشط جسدها، الذي لم يستيقظ بعد تمامًا من النوم الطويل، بالماء الساخن.
قال آردين إنها تستطيع أن تأخذ وقتها في التعرف على الأمور، وكانت تنوي ذلك، لكنها وجدت نفسها تتسرع قليلًا دون وعي.
“نعم! انتظري قليلًا!”
أجابت ميلودي بابتسامة مشرقة وعينيها المحمرتين منتفختين من البكاء.
***
رافق سايرس لوسي التي لم تتناول الإفطار بسبب نومها المتأخر.
كان إيركين وماريليو يترقبان فرصة للانضمام إليها، لكن لوسي التي لم تلاحظ ذلك قالت إنها بخير، فغادرا وهما يحملان الأسف.
رفع سايرس كتفيه بفخر ودخل مع لوسي إلى غرفة الطعام.
حتى وهم في القصر معًا، لم يكن قضاء الوقت مع لوسي بمفرده أمرًا سهلًا.
كان عليه أن يتحمل نظرات الغيرة من الأخوين اللذين يتعاملان معها كأخت صغيرة ثمينة.
وإذا حاولا التنزه معًا، كان الأرشيدوق آردين يظهر فجأة ليطلب وقتًا خاصًا مع لوسي.
على الرغم من المسافة الطويلة التي قطعها، لم يشعر سايرس بالضيق من تدخلهم.
بل شعر بالغيرة منهم.
“كلي بهدوء.”
هل كانت جائعة، أم أنها تسرعت من أجله؟ كانت لوسي تتناول الحساء بنهم.
مسح سايرس فمها المبتسم بمنديل.
لو كان لديه أخت مثلها، هل كان سيشعر بالوحدة في القصر الإمبراطوري؟
استيقظت والدة لوسي بسلام من مرض النوم، لكن سايرس شعر بالحزن بدلًا من الفرح.
كان يعرف قدرات لوسي بالفعل، لكنها بدت مذهلة مجددًا.
وفي زاوية من قلبه، نما شعور بالأسف.
لو أنه عرف لوسي مبكرًا أكثر.
بل لو كانت لوسي أخته.
لما اضطر إلى فقدان والدته الإمبراطورة بتلك الطريقة البائسة.
التعليقات لهذا الفصل "45"